قصص تليجرام

شبيك..لبيك! كاملة

شبيك..لبيك! الجزء1

أيقظتنى طرقات قوية على باب السكن-وكنت بالكاد-قد أغمضت عيني هذه الدقيقة..توقف الدق لحظات ..فتوهمت أننى أتخيل..و تسلل النعاس اللذيذ إلى عيناي اللتان تنبضان بالألم من جراء السهر المتواصل..ثم تواصل الخبط بإلحاح وتوسل مجنون..و قد أستخدم الطارق قبضتيه و قدمه و ربما رأسه كذلك!
أليس مكتوباً لى أن أنام فى هذه الليلة التى ليس لها نهاية؟!
..أريد أن أنام مثل باقى البشر!
ماذا سيحدث إذا تركتوني أنام ساعتين فقط؟!
لا أعتقد أن الأنهار ستفيض..
و بالتأكيد لن تثور البراكين..
أو يحدث صدع فى الأرض و يبتلع المستشفى بمن فيها!
تواصل الدق بحجر أو ربما قطعة خشب..مع ركلات قوية توشك أن تخلع مفصلات الباب..بينما ذاك الآدمى يعوى:
- أفتح يا دكتور..أبويا بيموت!
حاولت النهوض فلم تساعدنى مفاصلى المتخلعة من فرط الإرهاق..ميت ..ميت أكثر من أبيك..لماذا جئت إلي الآن ؟..ألا يوجد أطباء فى الطوارئ؟!
قررت تجاهله - مجبراً- من شدة التعب.. أغمضت عيني ،و دعوت الله أن ينصرف ذلك الرجل باحثاً عن غيري..
لكنه كان مصراً كالخرتيت!..ظل يدق فوق رأسي ليمنعني من النوم..دون أن أجد ما يكفى من القوة لمغادرة الفراش-غير المريح-مجرد مرتبة سمكها لا يزيد عن ثلاثة سنتيمتر..و قد ألتصق بها جسدي مفكك الأوصال..بلا أمل فى النوم و لا حيلة فى الإستيقاظ!
و أنحدرت دموع القهر و الغيظ من عيني..أريد أن أنام يا كفرة!
لم أذق طعم النوم منذ36ساعة..قضيتها فى مناوبة متصلة دون إستراحة!
عاد الرجل يزأر غاضباً:
- أصحى بقى يا دكتور الغبرة!..أنتا مُت جوا  و لا أيه؟!
تمنيت من سويداء قلبي أن أموت فعلاً لأستريح من كل هذا العذاب!..بينما أناضل للقيام..مقاوماً تشنج ظهري و أهتزاز عضلات ساقي اللتين لم أعد أشعر بهما -كأنهما - لا ينتميان إلى جسدي من الخدر و التنميل.
أتجهت للباب بالغريزة..كالأعمى الذى يعرف طريقه..فى ظلمة السكن الشبيه برحم الأم -لأن-مصابيحه محروقة-منذ شهور..
فتحت الباب ليطالعني وجهه البائس المعذب صارخاً:
- بقالي نص ساعة بخبط عالباب!..أرحمونا يا ناس...
- خلاص أهدى..قاطعته متثائباً..قلت و أنا أفرك وجهي و عيناي الملتهبتان بسخونة من جراء سهرتي الأسطورية:
- ماله أبوك؟
سحبنى من ذراعي خارج السكن..و هو يقول بهلع:
- كنا نايمين فى أمان الله..فجأه راح صارخ مره واحده..جبته و جيت جرى عالمستشفى..و فى الطوارئ...
خلصت ذراعي من قبضته بلطف..قلت:
- أصبر دقيقة.. ألبس حاجه فرجلى!
و ما كنت أمانع أن أمشي معه حافياً - لولا - خوفي من بقايا الزجاج المكسور أمام السكن..أيضاً كنت أخشى من الثعابين التى تنتشر فى هذا الجو الحار..و تختبئ بين الحشائش الطويلة التى تحيط بالسكن..
- قالولك عنده أيه؟
سألته بينما أتحسس طريقي نحو المرتبة المقعرة التى كنت أنام عليها فوجدت قدمي اليسرى تدخل -بالصدفة-فى فردة الكروكس الواسعة..أكملت طريقي بالفردة الواحدة..بينما يصيح الشاب بصبر نافد:
- قالولي عنده مغص كلوي..يلا بسرعة يا دكتور"عاصم"!
- لأ بسيطه..متخافش!
قلتها مواصلاً البحث عن فردة الكروكس اليمني بلا طائل..أين ذلك الموبايل اللعين حين تحتاجه؟!
قلبت طرف المرتبة المنتهكة مهانة الكرامة..لأجد الموبايل تحت حرفها الذى كنت أضع عليه رأسي..قبل أن يأتينى غراب البين ذاك ليوقظني!
صاح الشاب يستعجلني..و هو موشك على الإنهيار العصبي:
- يلا يا دكتور الله لا يسيئك!
- حاضر يا حبيبي..بادور عالزفت !
قلتها بعصبية موجهاً نور كشاف الموبايل نحو الأرض..وجدت فردة كروكس زرقاء ضيقة على قدمي..لكننى لبستها-على كل حال-متمتماً فى سخط:
- كل هم فى البلد...!
تذكرت شيئاً مهماً..جعلنى أبتر عبارتي سائلاً الشاب بفرحة الخلاص:
- أنتا قولت دكتور"عاصم"؟!..يا فرج الله!
أجلت نور الكشاف فى السكن المظلم..حتى وجدت دكتور"عاصم"أختصاصي المسالك البولية..نائماً على واحد من السريرين الموجودين بالسكن..
- دكتور"عاصم"قوم عايزينك..دكتور"عاصم"قوووووم..قلتها و أنا أهز جسده البدين هزاً عنيفاً..لطمته لطمة قاسية على وجهه..لم تفلح فى رده لعالم الأحياء..بينما أصرخ به :
- قوووم...أصحى الله يا خرب عقلك!
صاح أحدهم من ركناً ما فى السكن متبرماً:
- أيه!.. فيه أيه بقى؟! عايزين ننام يا عالم!
جلست على طرف السرير..النابض بدفء مغر- كحضن أم - و برغم حرارة الجو،و الحرارة المنبعثة من جثة"عاصم"الحية..تمددت جواره بإسترخاء على السرير- بالكروكس -ربت على خده السمين هامساً مستحضراً روح والدته عليها رحمة الله:
- يا دكتور"عاصم"..فيه حاله بره عايزاك!
***
ضوء مبهر سطع فى عيني..أتراه الضوء فى نهاية النفق؟..شعرت بيداً تهزني بغلظة..مع صوت صاحبها يصيح فى غيظ:
- الله يخرب بيتك!..أنتا نمت تانى؟!وقعة أبوك سوده!
- قوم يا دكتور!
- مات!..دكتور"عاصم"ميت مش هتعرف تصحيه!
فتحت عيني بخوف فجأة فأعماني الضوء المنبعث من كشاف محموله..غطيت عيناي اللتان بهرهما الضوء..بينما ضربني سيف أسفل ضلوعي اليمني!
- أيه الغباوه دي؟!سألته بغباء و عدم فهم..فرد بغيظ، و هو يسحبني من مجمع قميصي بغلطة من سرير دكتور"عاصم":
- هوا أنتا لسه شوفت غباوة؟!قوووم يا بيه..دانا هطلع دين أبوكوا كلكوا..يلعن أبو اللى....
و أنفجر فى سباب مقذع صبه على رؤوس جميع العاملين بالمستشفى منذ بدء الخليقة حتى يوم الناس هذا!
ثم بدأ بوصلة سباب جديدة..و هو يسوقني أمامه كما تساق الأغنام..
توقفت عند الباب..فسأل فى سخط مندهش و هو يدفعني:
- أيه؟!و قفت ليه؟
- النضارة!..
دفعني بغلظة نحو الباب المفتوح:
- يحرقك أنتا و النضاره فى ساعه واحده!..يلا بلا نضاره بلا زفت!
- النضاره بتاعتى..ما بشوفش من غيرها يا بنى آدم!
أضطر لتركي-على مضض - حتى إنه بدأ يبحث معى بكشاف محموله..
فوجئت به يضع النظارة على وجهي بحنق..فإصطدمت بعيني..قائلاً بجزة على أسنانه:
- أهه النيله!ا
- شكراً!
لبست النظارة التى وجدها..و خرجنا أخيراً من السكن..و رغم ضوء الصباح بالخارج..لاحظت أن النظارة ليست على ما يرام .. فالرؤية بها شبه معدومة..كأنها..كأنها ليست نظارتي!
تأبط الشاب ذراعي كأنما لاحظ أننى أمشى كالضرير..لكننى لم أجرؤ على أخباره..أن النظارة التى ضيعت وقته من أجل العثور عليها ليست لي..ونظارتى التى أحتاجها - بشدة- مازالت مفقودة!
كدت أسقط على وجهي..فقد تعثرت فى شئ مبهم-وهو يجرني ..قال هازئاً:
- مش عارف تمشى كمان!..عايزني أشيلك؟!
فكرت فى نفسي بأن هذه الفكرة ليست سيئة تماماً..
فقد كنت-بالكاد- أجر ساقاي الثقيلتين جراً - من شدة التعب- لولا أن منظرنا سيكون غريباً فعلاً..
أضافة لأننى كنت أطول منه و أعرض..سيبدو كنملة تحمل صرصوراً!
خلعت النظارة خلست..و حاولت وضعها فى جيب قميصي قصير الكمين..فإصطدمت بشئ فى الجيب الممتلئ ،و رفضت الدخول!
أخرجت الشئ الملفوف بقطعة قماش قطنية ناعمة من الجيب بحذر..و لم أصدق فرحتي حين وجدتها.. نظارتى الحبيبة ذات الإطار الأسود!
يبدو أننى وضعتها فى جيبي قبل أن أنام..من الجيد أنها لم تنكسر!
و برغم تشوش الرؤية بالنظارة-كأننى- أنظر عبر زجاج مصنفر..
كدت أبكى فرحاً - حين - لبستها فوجدت العالم مليئ بالتفاصيل و الألوان!
- صباح الخير يا دكتور"أسامة"!هتفت"ياسمين"ذات الشعر الكيرلي..بإبتسامة ساحرة - لم تداريها بكفها - بدت لها غمازتها الواحدة..و قد أرتدت الثوب الوردي-الذى يجعلها فاتنة..فرددت تحيتها بهزة رأس متعجلة..
- طيري..لو لاحظك ذاك الفتى الغاضب - مرافقي-..فسيهشم عنقك الرقيق خنقاً!
كنا قد وصلنا للشيخ الراقد على الأرض، يصيح متألماً..و قد دفن كفه المعروقة بين أسنانه- التى تساقط أغلبها- يعضها بما تبقى من قواه الواهنة..
تلوت أمعائى فى قلق..من منظره،و حالته المزرية..و أنتابنى خوف مفاجئ -على نفسي- حين تذكرت محاولتي الغبية لطمأنة أبنه-حين كنا-فى السكن!
لابد أن الطبيب الذى يصف كل هذا الألم و المعاناة بأنه حاجة بسيطة-برأيه-حمار كبير..حمار له ذيل و أذنين طويلتين!
خاصة حين يقول هاتين الكلمتين..ثم يرتمى نائماً فى أحضان زميله كالعشيقين!
لو لم أتصرف بسرعة..سوف أنال علقة يرد ذكرها فى كتب الأساطير!
لكن كيف أفعل..- و السهر- جعل عقلي خاو كعقل أسفنجة بحر..
أزدادت نوبة المغص الكلوي سوءاً..و قد بدأ المريض فى العواء و التلوي بعنف حتى أوشك ظهره بارز الفقرات ينقطم إلى نصفين..و .. أقتربت راكعاً على الأرض بجواره متجاهلاً البقع العنبرية المدممة..أجس جبينه..لم تكن هناك حمى- لحسن الحظ -
حاولت بما تبقى من وعيي المشتت أن أتذكر التصرف الأنسب..من ذكرياتي عن فترة عملي بالطوارئ..دون جدوى..الإرهاق و عدم النوم..و مجال عملي البعيد كل البعد.. حالت دوني و دون التوصل إلى حل..
أصدرت معدتي أصواتاً مزعجة - من الجوع - ..فلم أكن قد أكلت فى السهر سوى سندوتش فينو طعمه كطعم سن القلم الرصاص و قطعة جبنة يشبه طعمها معجون الحلاقة أعطتهما لى ممرضة - كتر خيرها -..لكننى لم أهتم!..كنت جائع جداً..لكن ليس لدي شهية للطعام -خاصة-أن الأكل رديئ للغاية و قليل الكمية بشكل محزن!
كل ما أريده-الآن- هو العودة إلى النوم..فهو أفضل علاج للقلوب الكسيرة..ربما ليس علاجاً تماماً بل مُسكن..لكنه مُسكن فعال..
فقط لو أستطعت الحصول عليه!
مُسكن!
بالتأكيد أعطوه حقنة المغص الكلوي بالإستقبال
الأمر واضحاً منذ البداية..لكنه بدا -تلك اللحظة- كألهام عبقري هبط عليّ فجأة من السماء!
قلت لأبنه مطمئناً:
- متقلقش..دلوقت المسكن يوقف الألم
- أبوك عنده سكر أو ضغط؟
- عنده الأتنين!قال بإقتضاب..و هو ينظر لي نظرة من طراز بالطبع يا مغفل!
سألته على سبيل التجديد:
- و حالة قلبه عامله أزاي؟ ممكن ترفعه معايا على سرير الفحص؟
أمسك بساقيه النحيلتين..بينما رفعته من تحت أبطيه..و وضعناه على سرير الفحص..جسست نبضه من رسغة..و فحصت كفه براحة يدي..بينما حركته المتملمة تجعل الفحص غير ذى جدوى..
- مش هتكشف عليه بالسماعة؟!سأل الشاب..فقلت بسرعة
- روح هات سماعه من بره..
- نعم!هتف الشاب بدهشة وقد ظنني أطلب منه شراء سماعة من خارج المستشفى..فقلت موضحاً:
- أطلب من أى ممرضه تجيب سماعه..خلاص خليك أنتا جنب المريض و أنا هاروح!
قلتها متوجهاً لباب الخروج..هرع فى أثري مجازفاً بسقوط والده من على سرير الفحص-مرة أخرى-..هتف فى حيرة:
- يا دكتور!
أشرت لعاملة النظافة البدينة التى ظهرت بالممر..حاملة الدلو الخاص بالتنظيف..وضعت دلوها،و أقبلت تهز أردافها الممتلئة فى تثاقل إستجابة لأشارتي..بينما الشاب ينقر على كتفي بأصبعيه..هاتفاً:
- يا دكتور!..هى مش دى سماعه برضه؟!قالها مستغرباً..و هو يخرج سماعة ليتمان صيني من جيب بنطالي!
لم تكن سماعتي..لكننى تذكرت أننى وجدتها فى سكن الأطباء حين كنت أبحث عن النظارة..و وضعتها فى جيبي دون إنتباه..ثم نسيت الأمر برمته!
اللعنة على قلة النوم و ما تسببه من فقدان التركيز!..
و الأسوء أننى - بمعدل - سهري الأسبوعي مناوبتين أو ثلاث تمتد - أحياناً - ل 48 ساعة..
سأصاب بجلطة قلبية !
- أيوه يا دكتور؟سألت المرأة و هى تلهث بصوت مسموع عن سبب إستدعائي لها..بينما صمتّ محرجاً..تطلعت لها دقيقة..ثم مسحت الغرفة بعيني بحثاً عن سبب يسوغ لى تكبيدها كل هذا العناء..وقعت عيني على بقع البول الداكن فى منتصف الغرفة..أشرت نحو البلل،و قلت بصوت خافت:
- أمسحي!
نظرت لى و قلبت شفتها فى إمتعاض - كأنما-تبولت أنا على الأرض..و ترجرجت لتحضر دلوها و هى تغلي غيظاً!
نظرت للمريض كبير السن- بهم-و دعوت الله فى سري..ألا تكون هناك حصوة تسد الحالب..و هو إحتمال وارد يستدعى جراحة عاجلة..فقد رأيت د"ياسين"طبيب التخدير -منذ ساعة-يترنح فى طرقات المستشفى كالسكارى- من السهر- و الله أعلم بحال الجراح!
بعد هذا.. إذا ما أخطئ أحد البائسين..سيجد المشانق فى إنتظاره..
أظن أنه قد صار واضحاً..كيف تحدث جرعات التخدير الزائدة..و الأخطاء الطبية و الجراحية المريعة و-أحياناً-القاتلة التى تقرأ عنها فى الجرائد!
فحصت قلب المريض بالسماعة بينما هو يكتم نفسه بيده كى لا يصرخ!
- لأ أتنفس عادى!
- خد نفس..
-أه!
- طلعه براحه..
-أاأاه!
قلت مشجعاً:
- ممتاز..قربنا نخلص..خد نفس كمان
- آااه!
-الألم فين بالظبط؟سألت المريض..فصرخ بصرة على الأسنان..و هو يضع يده على جنبه الأيسر ناحية الظهر :
- هنا!
وضعت يدي على موضع الألم ..سائلاً:
- هنا فى المكان ده؟..حاسس بأيه؟
- كأنه فيه حجر فى جنبي..
- فى حرقان فى مجرى البول؟
- نار قايده يا دكتور..
- هوا هيفضل يتألم كده كتير؟!سأل الشاب فى قلق..بينما أكتب الأبحاث و الفحوص المطلوبة..قلت بلا إنتباه:
- أول ما المسكن إللي أخده فى الطوارئ يشتغل..هايهدى...
قاطعنى  سائلاً فى توتر:
- و هتديله المُسكن ده أمتى؟!
نظرت له فى إستغراب لا يقل عن إستغرابه..قلت بضيق :
- أديلو أيه؟!..أنا قصدي على حقنة الزانتاك و الفولترين اللى أخدها فى الإستقبال يا ابني!
قال بغباء:
- بس أبويا ماخدش حقن فى الإستقبال!
قلت بإصرار:
- أكيد أدولوا حقنة كوكتيل مُسكن ومضاد حيوى..ممكن أنتا متكونش خدت بالك بس!
زمجر فى غضب:
- باقولك ما خدش حاجه!..قالولي بس روح شوف الدكتور فى المعمل..و فى المعمل قالولي شوفه فى الحمام..مالقتهوش فى الحمام..روح شوفه فى السكن..قالها بأداء كونشيرتو متصاعد..أصاب مخي بالأرتجاج..و هو يلوح بذراعيه بعصبية شديدة!
- خلاص أهدى..روح هات الحقنه دي من الصيدلية..صيدلية المستشفى..قلتها مستدركاً بسرعة..قبل أن يفتك بي!
أعتصرت ذهني المكدود بحثاً عن أسم مُسكن غير الستيوريدي متوافر فى صيدلية المستشفى..و كتبت المُسكن المطلوب على قصاصة ورق..و أعطيتها للشاب..
- روح هات الحقنه دى من صدلية المستشفى بسرعة..
سكبت عاملة النظافة التى نسيت وجودها- أظن- أسمها"فاتن"الماء على الارض ..وتناثر الرزاز على أقدامنا..فلم يعترض أحدنا..بينما ذهب الشاب مسرعاً..ليجلب الدواء..وقفت بجوار المريض مانعاً أياه من السقوط بجسدي..أراقب حركات"فاتن"العصبية بدهشة..
لماذا هى غاضبة على هذا النحو؟!
..لقد جاءت للتو من منزلها منتعشة كزهرة -بعد-ليلة هانئة نامت فيها كفايتها..لو كنت فى موقعها لما تذمرت..أننى على إستعداد أن أبادلها أرهاق اليوم و نصف عمل متواصل- دون- راحة..بليتها التى نامت فيها حتى أنتفخت عيناها..و سأمسح سراميك المستشفى كله راضياً..بلساني!
******
- ألحق يا دكتور!تنبهت على صياح الشاب المفزوع..و فطنت أننى نمت واقفاً كحصان.,.حاولت فرك عيني..فغرست فيها النظارة..سألته بضيق:
- مالك؟ ..فى أيه؟!
- الدوا مش موجود فى الصيدلية!
سألته فى غباء:
- دواء أيه؟ الديكلوفيناك؟!
- أيوه!
- طب ما عندهوش بديل؟!
- لأ!
تباً!..أما لهذه الليلة من أخر؟!
لن أنام أبداً فيما يبدو!
كذا فكرت فى تعاسة عاقداً ذراعاي.. أتامل قدماي فى فردتي الكروكس المختلفتين فى اللون و الحجم..فردة خضراء واسعة..و الثانية زرقاء ضيقة..زهرية اللون كما كانت "ياسمين"تقول..
قلبي يهوى على الأرض..و يتناثر إلى شذرات..
فأجمع المسحوق بجاروف و فرشاة و أصبه داخل وعاء من خزف..و أعيده إلى موضعه بين الضلوع!
تالله تفتأ تذكرها حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين !
لماذا تطوفين بذهنى دائماً؟..
لماذا يا "ياسمين"؟!
و لماذا لا يوجد مُسكن فى صيدلية المستشفى؟!
عدت أسأله بإلحاح:
- مفيش أي نوع؟!
- مفيش غير المورفين و...
-أيوا..أيوا..الحاجات دي بتتصرف للمحجوزين بس..
وقف يتطلع إلي بمزيج من الشك واليأس و خيبة الأمل..كمن وجد المصباح السحري..لكنه تفاجئ بأن خادم المصباح-أنا- مشلول و فاقد الحس..لا نفع منه و لا ضرر..كل أمانيه فى الحياة هى أن يعود للنوم!
وقفت"فاتن"بجوارنا بعدما أنتهت من المسح - وقفة حاجة لله - حتى توقعت أن تمد يدها إليه و تقول متوسلة كل سنة و أنت طيب يا باشا!
تريد أن تأخذ أكرامية من هذا البائس لقاء خدمة أبيه..الحمقاء!..تحسبه أباً يستقبل مولوده الأول..لكنه-من همه- لم يلاحظها حتى!
..سألنى بإحباط:
- أيه العمل دلوقت؟
قلت له عالماً..أنه سيتقدم بشكوى ضدي ما أن يستيقظ موظفو الأدارة بالمستشفى:
- أسمع ..رغم إنه ممنوع..بس الحل الوحيد..إنك تروح تجيب الحقنه من الصيدلية إللي جنب المستشفى..هتلاقيها فاتحه..علشان بتشتغل أربعه وعشرين ساعه..و أنا أديهاله!
أعتدلت"فاتن"فى تحفز كأنما سب أحدنا والديها..بينما قال الشاب فى سخرية غاضبة:
- طيب و ليه تتعب نفسك؟!..ما أخد أبويا فى أيدي..و أخلي الراجل اللي فى الصيدلية يديله الحقنه بالمره ..بدل ما نتعبك!
فكرة عظيمة!
كدت أصافحه، مباركاً فكرته العبقرية..لولا- شكي- فى أنه يسخر من أقتراحي..
- بس دا ممنوع!
صاحت"فاتن"بإباء و شمم..فلم أرد عليها تسفيهاً لرأيها - رغم - خوفى وكنت على علم بصحة ما تقول..لكن يمكن - دائماً - أن يمر الأمر دون أن يعلم أحد بالإدارة..
إذا حفظ ثلاثتنا السر..أنا لن أتكلم..لكن ماذا عنهما؟!
سرني أنه لم يلتفت لها..إذ سأل فى قلق:
- هى الحقنه غاليه؟
- لا خالص..دى بخمسه جنيه!
عادت الحمقاء تنق كالضفادع موجهة كلامه للشاب:
- أوعى تشترى حاجه من بره..كده غلط على فكره!
نقل بصره بيني و بينها فى إرتباك و حيرة..قال فى تشكيك:
- بس الممرضة قالت..
قاطعته فى ضجر:
- أولاً دى مش ممرضة..ثانياً مفيش غلط ،و لا حاجه..أبوك هيبقى تمام،لو فيها أذيه هتكون ليا انا!
نظرت لى بلوم..و قالت بخيبة أمل كأنها تحدث أبنها العاق:
- د"سعيد"أتجازى بسبب حاجه زى كده!
صحت فيها زاجراً:
- د"سعيد"أتجازى بسبب تانى خالص..ممكن تسكتي أنتى؟!أنتى أيه اللى موقفك معانا؟..مش خلصتي شغلك؟.. أطلعي بره يلا!
مطت شفتيها بضيق متأسية على وقاحة الشباب هذه الأيام..بينما أغلق-جاهداً- محبس السباب الذى يريد أن ينفجر فى وجهها..
كأنها تنقصك!
ألا يكفيني تدخلات الممرضات التى لا تنتهى!
راقب الشاب أنصرفها الغاضب..سأل فى حيرة و هو يتطلع لأبيه الذى سكن و هدئ فجأة:
- هوا لازم الحقنه دى؟!.. أبويا شكله هدي!
كدت أصاب بالفالج من شدة الغيظ..كل هذا  الجدال من أجل خمسة جنيهات ثمن حقنة السبازموفين!
- أيوه يا ابنى..بس المغص الكلوي بيجي فى نوبات..ساعات الألم بيهدى..و بعدين يرجع تانى....
قلت له بصبر نافد..قبل أبتر عبارتى فى قلق..ترى هل أعطوه حقنة الزانتاك والبريمبرين و الفولترين و البوسكوبان أم لا؟!
شعرت بضعف مفاجئ فى ركبتي-من الرعب-..فالسبازموفين يتعارض مع البريمبران و الفولتارين..و لا يخلط مع أى دواء غالباً..
ما هذه الورطة السوداء؟!..كل هذا و الطبيب المختص غافياً فى السكن ،كدب قطبي فى بياته الشتوي..
سامحك الله يا د"عاصم"!
- روح الأستقبال أسأل..أبوك أخد حقنة الكوكتيل عندهم،و لا لأ..بعديها نتصرف!..
حدجنى بنظرة كاوية..أمتزج فيها الشك بالكراهية..بينما تطلعت - بذعر- للطخة السوداء التى غطت أنفه..متى ظهرت هذه البقعة؟!
تراقصت نقاط سوداء صغيرة أمام عيني..بينما بقعة الزيت الأسود التى لاحظتها للتو على ظهر قميصه - حين أستدار-منصرفاً تتسع ببطء!
******
أختلست النظر لوجه"ياسمين"الذى تهلل فرحاً..بينما كنا نقرأ الفاتحة فى دار عمها..و ابتسمت
..كفيها البضتان يداريان بسمتها الخجولة..فيها عذوبة و براءة جميلة للغاية..لم أكن أصدق بدوري أن تلك الفتاة المذعورة المرتبكة-التى طالما أثارت جنوني..
بل و كنت دوماً أعنفها على ميوعتها..و رقتها المبالغ فيها..أثناء تدريبى لها فى مناوبتنا المشتركة بالطوارئ..
حتى أننى صرخت بها ذات مرة-أمام الجميع-واصماً أيها بالفشل و الخيبة..و أنها لا تصلح طبيبة من الأساس..
..ستصير خطيبتي..سبحان مغير الأحوال!
لاحظت- بدهشة -و أفتتان خصلات شعرها الكيرلي الكثيف الذى يحيط بوجهها- متسائلاً -بعجب-كيف تداريه بالحجاب كانت -أول مرة- أرى شعرها..-وإن كنت-تخيلته على هذا النحو!
لم تحب أمى شعرها بينما لاحظت "لميس" الخبيثة - أختى-أن لديها ناباً واحداً-لأنها-خلعت الأخر فى عملية تقويم خرقاء لأسنانها..
ما شأنكم أنتم !..إننى أراها أجمل مخلوقة فى الكون -وسأظل- أراها كذلك..حتى لو كانت صلعاء و ليس لديها أسنان!.
فيما بعد عرفت أن زوجة عمها هى من أختارت لها ذلك الثوب الوردي-كشميري-كما قالت-،و هى من طلبت إليها أن تكشف شعرها..و"ياسمين" لم يكن يعيبها شئ سوى شخصيتها المهزوزة..
قلت لها فى اليوم التالى..
- شعرك جميل أوي..بس مش عاوز أشوفه تانى!
أختفت إبتسامتها،وأتسعت عينيها فى حيرة..قبل أن أضيف:
- غير لما نتجوز..هاصبر لحد ما نروح بيتنا!
و قد خطبتها بعدها ..و هى ترتدى حجابها..و مكثنا عام و بضعة أشهر مخطوبين..لم أرى شعرة من رأسها..لم أمس يدها..و سلمتها..سلمت له الأمانة كاملة..فقط أحتفظت لها بصورة طبوغرافية..منقوشة على جدار القلب..لم أستطع نزعها!
و الآن لا أدرى على ماذا أم ماذا أندم!
.و قد كنت كلما لاموني فيها قلت لهم أتركوني و ما أشتهى..لكنهم لم يتركونى..هى من تركتنى فى النهاية!

يتبع

شبيك..لبيك الجزء 2 

تنبهت على أنين المريض الذى عاودته النوبة..و نفس النقاط السوداء الصغيرة تهتز أمام عيني التى فتحتها-بصعوبة- ..لأجد نفسى ممدداً على السراميك البارد!..مؤخر رأسي ينبض بألم جراء إصطدامه بالأرض..يبدو أننى فقدت وعيي لا أدري متى؟!
صدري ينطبق بألم على قلب ينبض نبضة مغمورة سريعة..تميز الضغط المنخفض..حاولت الإعتدال جالساً لكن غلبني الدوار فسقطت مكاني لاهثاً..و مخاطراً بالإختناق أفرغت كيس الأملاح المعالجة فى فمى مستلقياً على ظهري على الأرضية اللامعة ..و قد شعرت- لأول مرة -بالإمتنان تجاه ما قامت به "فاتن"من عمل..أسندت ساقاي المرفوعتين بزاوية 90 درجة على الحائط-عالماً-أن ذلك الشاب سيعود الآن..سيرانى هكذا و يظننى مجنوناً..
ذلك الشاب -الذى- لولا حضوره..لكنت ميتاً الآن..لكننى لا أدرى أأقبل رأسه  شاكراً..أم أضرب رأسه بالجدار!
لابد أن كل الكافيين الذى أبتلعته-بالأمس-جعل ضغط الدم ينهار..
لقد أحترقت بالكامل و ها أنت ذا موشكاً على الإنطفاء!
ثم.. ننعي ببالغ الحزن و الأسف فقيد الشباب د"أسامة غنيم"أخصائي الكبد و أمراض الجهاز الهضمى 33عام..توفى بهبوط حاد فى الدورة الدموية بسبب الإجهاد!
تخيلت نعي و سرت فى جسدي قشعرية تلذذ باردة..نفس ما حدث مع د"سمير عبد العظيم"الذى قرأت نعيه على الفيس بوك منذ أسبوعين..الفرق الوحيد أنه ممارس عام.. فى الثامنة و العشرين!
وضعت يدي على قلبي المصدوع ألماً..
هكذا يقتلون الأطباء فى مصر!
ساعات عمل طويلة-بحجة- نقص الكوادر الطبية..لا نوم ،لا أكل،لا شرب-و معاملة لا ترقى لمعاملة البشر!
نظام الورديات سويدي..و الأجور صومالي..
أعتذر فالمرتبات فى الصومال أعلى!
فكرت..أن ما يحدث للأطباء..أضافة لأنه جريمة قتل ممنهجة..هو كذلك أمر يخلو من المنطق..من المفترض أننا-كأطباء فئة صرفت عليها الدولة ملايين - كما أقرت - سيادة الوزيرة..
و المنطق البراجماتي البحت يؤيد الحفاظ علينا من منطلق عدم تبديد كل ذلك المال و الجهد حتى..
لكنهم يعاملوننا بطريقة عندنا منه كتير..كما قالت النكتة التى تحولت لمثل!
******
مر عام و نصف كلمح بالبصر!..
لم انتبه..بدأ عمها يقلق..و قلقت زوجته التى كانت "ياسمين"تعتبرها بمثابة أمها..و هى ككل أم قلقة تلح على ابنتها،أن تخبر خطيبها الخائب أن العمر يجرى..بينما هو واقفاً كالمحور فى ساعة الذروة!
.. لم تنبهني"ياسمين"أم-لعلها-لم تبتنه هى الأخرى..بينما نبتنى قصور أحلامنا فى الهواء..أحكى لها عن مناقشة الماجستير الدانية..بعدها سيصير بوسعي أن أفتتح عيادة..بالطبع سيكون علي العمل لسنوات حتى أتمكن من أثبات نفسي وسط الأطباء الأكبر سناً و خبرة فى ذات التخصص..و برغم أن الطريق طويل و شاق..كنا نأمل أن نقطعه معاً..
لكنها كانت تتغير..
لم ألاحظ -لغفلتي-صمتها و شرودها..ظلوا يلحوا عليها-هكذا قالت-و يضغطوا على أعصابها المرهفة..و هى تحتمل..
و كلما أرادت أن تخبرنى بما يجرى فى الكواليس..ترى الحماس المشبوب فى عيناي و تصمت!
بعدها فكرت و قررت..أن الأوان قد حان للرحيل..فرحلت!
تسللت هاربة..-ربما- ذات ليلة نمت فيها كالقتيل بعد مناوبة أمتدت ثلاثة أيام..هربت حافية القدمين كى لا أنتبه على هروبها الغادر!
أنتبهت على هروبها فى وقت متأخر من الليل..و مع غبشة الفجر الوردي أطلقت فى أعقابها كلاب الصيد.. عادوا مع شروق الشمس يبصبصوا بذيولهم فى خيبة..لم يجدوها..فقط وجدوا خفيها..و ثيابها التى نسجتها -فى خيالي-من حرير الصين..و وشيتها بخيوط الذهب،وطرزتها بحبات اللؤلؤ و المرجان..و دبلة خطوبتنا!
ثرت وقتلت الكلاب..و هدمت معبدها الكائن بقلبي..فتهدمت حجراته، و أصبح حفرة سوداء فارغة!
بعدها ظهر هو..و أشعل النار فى بقايا الهيكل الفارغ..!
******
- أيه ده؟هو فيه أيه؟!
فتحت عيني..لأجد الشاب يسأل باستغراب و هو يراني مقلوباً على هذا النحو..بالتأكيد لم يمر سوى دقيقتين..نمت فيهما..لأستيقظ على صداع شنيع..
قلت لنفسي بسخرية:
- بلعب يوجا!
- نعم!سأل الشاب بإندهاش..فقلت له بجدية:
- ممكن أيدك؟
-........!
- ساعدني أقوم يا ابني!
لابد أننى بدوت-له- كشيخ مسن بعد كلمة أبنى هذه..نظر لأبيه الذى يتلوى من الألم..راقداً بجواري..ثم مد يده يعاوني على النهوض..لابد أنه يتسأل- مذعوراً-إن كان بوسعي مساعدة أباه-بهيئتي الزرية-تلك..أم أنه بحاجة لإستدعاء طبيب أخر-لنا-نحن الأثنين!
- أبوك مأخدش مسكن فى الأستقبال؟
قلت له بتقريردون أن أنتظر رده:
- خلاص أنا عرفت هاعمل أيه!
*****
يدق الدف و تدوي الطبول..كأنما أقيمت برأسي حفلة زار..مر عامين و ثلاثة أشهر منذ خطبها ذلك العريس..مأمور ضرائب هو..كما أنه عصبي وضائق الخلق..و قد رأيته يتشاجر معها فى المستشفى أكثر من مرة..لم يكن لى صفة أتدخل بها..لهذا راقبتهما من بعيد متصنعاً عدم المبالاة..شعرت ببعض الشماتة بها-لا أنكر-لكن عادت الشفقة تتلاعب بي!
ثم غلب الغضب كل ما عاده من مشاعر..كانت مليكتي و قبلت أن تكون جاريته،بأمر من عمها..قالت-وقتئذ-بمزيج من البؤس و التعاسة..أنها ستضحى بنفسها من أجل إرضاء عمها الذى رباها و تدين له بالكثير..فبدت -بعيني-مدعية..مبالغة بأدائها الميلودرامي كأبطال مسرحيات القرون الوسطي..كم أمقت مسرحيات القرون الوسطي..
و أمقت"ياسمين"!
..بل أحبها..ولا يزيدني التنائي إلا عشقاً و أشتعلاً..و تعلقاً بها..
و كم كرهت نفسي من أجل ذلك!
**********
- أمبول"مورفين" يا"يسري".
حدق بي د "يسري"مندهشاً..قبل أن يسأل فى فزع:
.- أنت لسه شغال من أول أمبارح؟!..أنا واخد شيف سهر واحد..و خلاص مش عارف أفتح عيني!
قلت له بقنوط:
- بختي!..هات الأمبول..علشان أدي حقنة المُسكن للمريض و أروح أنام..
- فين الروشته؟
كتبت له المورفين على قطعة ورق وجدتها فى جيبي..شاعراً بالأثم و الخطيئة..بينما هو يحضر الأمبول..مد يده..ثم سحبها مرة أخرى حين لاحظ الورقة البيضاء..شعر بالخديعة..فسأل بغيظ:
- أيه ده؟..دى ورقه فاضيه!..فين أسم الحاله،و التشخيص؟!
ما هذه الورطة؟!
أعتصرت ذهني بحثاً عن كذبة يمكنه أبتلاعها..ثم قررت أن الصراحة أفضل:
- بصراحه..ده مش العيان بتاعي..ده مريض عنده مغص كلوي..أبنه صحاني علشان أعالجه..و مفيش عندك غير المورفين!
سأل بشك:
- و أنتا أيه علاقتك بالمغص الكلوي؟!
قلت بسخط:
- أسأل أبنه اللي خطفني من السكن!..هوا جالك من شوية يسأل على ديكلوفيناك..و أنتا قولت له مفيش..
نظر لوجهي الأبيض من الشحوب..فكر قليلاً..ثم أعطاني الأمبول..
-أوعى تنسى تأييده على تذكره عندك!
قلت بفرحة غامرة:
- حاضر..
- أو تكون أنتا اللى هتاخده!
قالها و هو يشدد الضغط على الأمبول الذى نزعته من قبضته المستمية..هاتفاً:
- لأ متخفش..و الله واخده لمريض..
- شكلك مش مريحني يا"أسامه"!
- و لا مريحني أنا كمان..أنجز!
أخذت منه الأمبول الثمين..و هرعت جرياً لأعطيه للمريض البائس..بينما تقف"ياسمين"فى الردهة معقودة الحاجبين فى قلق ..حييت طيفها الهائم الذى عاد ليسكن أطلال قلبي المحترقة..بهزة رأس..عالماً أنها لم تعد بعد من أجازة زواجها..ستعود غداً يوم الأربعاء..بعد إنتهاء أسبوع العسل..الأسود-بإذن الله!
*****
- بالشفا!قلتها محاولاً إغتصاب إبتسامة حرون أبية..بينما أسحب المحقن من ذراع العجوز الضامر..سأل الشاب بلهفة:
- كده هيبقى كويس يا دكتور؟..ممكن أخده و أروّح؟
- الأول هتروح تعمل له أشعه و تحاليل..ممكن يكون عنده حصوه فى الحالب أو الماثنه..بعدين لما عيادة المسالك تفتح تروح توريها للدكتور..قالتها بينما أناوله الورقة التى سيذهب لإجراء الفحوص المطلوبة بها..قبل أن أضيف-مبتسماً- لمرأه معقود الحاجبين.. و هو يحاول قراءة ما كتبته-كأنه سيفهم-:
-النهارده الأربع..أظن د"طلبة الجمال" أستشاري المسالك هوا اللي هيكون موجود..
قال بعجب:
- النهارده الأتنين!
نظرت له بدهشة..اليوم يوم الأثنين؟!معنى هذا أن "ياسمين"لن تعود للمستشفى اليوم!
و تذكرت أننى عملت بالفعل الخميس و الجمعة 48ساعة على نحو متصل-لأن معظم الطبيبات لا يسهرن-و من تسهر منهن فضلت السهر فى زفاف صاحبتهن..و تركننا نشيل الطين-كالعادة-بعدها حصلت على راحة12 ساعة-قضيتها نائماً..بعدها نبطتشية36ساعة-أمتدت حتى الآن-أى أنه مر فقط أربعة أيام من أسبوع العسل!
معنى هذا أننى لن أقابلها ..و شعرت ببعض الراحة لذلك..فلن أحتمل رؤية وجهها المشرق ببمسة الهناء التى يخلفها الإرتواء على وجه العروس الجديدة..و قد أسبلت عينيها-فى حياء-أمتزج بالشفقة على زملاء و زميلات العمل..ممن لم يتذوقوا العسل الذى رشفت رحيقه..
قلت شارداً :
- الأتنين!..الأتنين يوم د"حسين"..دكتور ممتاز برضه..
- ما ينفعش حضرتك تشوف التحاليل؟
تمطيت متثائباً..قلت:
- لأ..علشان أنا متخصص كبد و جهاز هضمي..
قال بسرعه:
- طب ما هو الكبد زي الكلى..مفيش فرق!
- كلام ده فى المسمط يا غالي!
كدت أعيد عليه نفس الدعابة..التى قالها لى د"عاصم"رافضاً..أن أشاركه العمل فى عيادته..عندما كنت أحاول أقنعه أن بعد التخصص لا يعد عقبة-بالعكس-سيكون لدينا مختص بالكبد -أنا-و مختص بالكلى-هو-و مختص بالقلب زميلنا د"سليمان"..لكنه لم يحبذ الفكرة..فهو يستطيع دفع إيجار عيادته التى تدر عليه ربحاً معقولاً وحده.. ليس بحاجة لشركاء..لكن لم يكن الموقف يحتمل مثل هذا التظرف..
قلت بعصبية:
- لأ طبعاً فيه فرق كبير....ده تخصص و ده تخصص تانى خالص..مفيش Linke ما بينهم!
و قبل أن يضيف كلمة أو سؤال..تركته وأسرعت مبتعداً..يجب أن أذهب للنوم فوراً..فقد حل علي تعب الأيام الأربع الماضية..و لم أعد أرى موضع قدمي من شدة التعب..
بينما كنت عائداً للسكن..فكرت - مستغرباً- كيف و متى تسنى لى أن أحب وسط هذه الدوامة..فقط كل ما أعرفه هو أنها كانت هنا..بجواري لساعات طويلة كل يوم..أراها..وأعتاد وجودها..ثم بطريقة ما تشبعت بها خلاياي..صرت أتنفسها..
لهذا أنا الآن أختنق!
قابلت طيفها السارى فى الممر..تفيض عينيها بالشفقة على حالي البائس..فنظرت فى عينيها بتحد!
أبتعدي عن طريقي..أعرف أنك لست هنا..و أن عيناي تخدعاننى..لكن عقلي مازال معي..لن أخبرك أننى أموت بدونك..
أو أنشدك الشعر قائلاً:
من دونك لن أزعم أبداً أنى أتنفس..
لن أقطع شراييني لو كان هذا ما يقلقك..
لكن قد أنام..و لا أستقيظ..فلا تظني من فضلك ..أنك السبب فى موتي!..
"يسري"يظنني سأتعاطى المورفين لأجلك؟!
ألأنك تركتني و تزوجتيه؟!
مللتي من أنتظري،و-لأكثر من-عامين أنتظرتيه؟
لم يكن خطؤك..بل خطأي..لأننى لم أقطع فيك الرجاء!
و أنتظرت..أنتظرتك أن تعودي..أيام و شهور وسنين!
سنتان و ثلاثة أشهر..أراقب خلافاتكما الدائمة دون أن أدري- حتى- أننى أترقب عودتك باكية نادمة!
..كنت مقتنع..مقتنع أننى نسيت..ربما المرة الوحيدة التى أنتبهت فيها-لحالي-حين كتبتما الكتاب..و ذهب زوجك يطلب من عمك ميراثك عن أبيك..
تصورت أن هذه نهاية علاقتكما..لكننى كنت أحمق كالعادة..
فرغم صدمة عمك- فلا يوجد ميراث أصلاً..لأنه -العم-صرفه و أكثر منه على تعليمك..و قد كان عمك ميسور الحال مقارنة بأبيك..لكنه تجاوز عما حدث بروح أبوية..و برغم خيبة أمل زوج المستقبل فى مستقبلكما المالي المشترك-فالبقرة ليست سمينة- كما توقع..لكنه سيقوم بتسمينها..و ستعطيه سمناً و حليباً فى المستقبل القريب..لهذا تجاوز هو الآخر عما كان..
و أتم الرجلان الزيجة فى النهاية!
و برغم هذا.. برغم هذا كله..صدمتني دعوة زفافك التى وجدتها بيدي يوم الأثنين الماضى..و قد تحدد موعد الزفاف بتاريخ16 مايو..يوم الخميس..
فى ذلك اليوم شذبت لحيتى،مشطت شعري بعناية، أرتديت أفضل ثيابي..و بدوت كالعريس..ثم ذهبت للعمل!
ذهبت للمستشفى طبعاً..هل تظنيني معدوم الأحساس بما يكفى لأحضر زفافك؟!
- الآن-يقتلني الفضول لأعرف.. كيف كنتى ستقدمنى له؟!
.هل ستكتفى بتعريفي بصفتى السينيور الذى علمك تركيب الكانيولا، و خياطة الغرز..أم لعلك ستغمزيه-بمجرد- أن أستدير منصرفاً..
هذا خطيبي السابق الذى "علمت" عليه!
لكن كل هذه الأناقة لم تذهب سدى فقد حصلت على صورة تذكارية رائعة مع نائب المحافظ الذى زارنا..و أخذ جولة فى المستشفى فى ذات اليوم..
الغريب أنه فى تلك الزيارة-المفاجئة- وجد سير العمل المستشفى منضبط كالساعة-كما يقولون-و قد أشاد بكفاءة المستشفى و العاملين فيها
..يبدو أن طبيب الإمتياز الشاب.. أظن-أسمه"أمجد" الذى كلفه المديربإصطحاب نائب المحافظ فى جولته-قد نجح فى"بلفه"كما أراد الأخير ..من قال أن أطباء الإمتياز بلا نفع!
و برغم معرفتي بسوء الحال..مازلت أستغرب -لأنه-
لا يوجد مُسكن بالمستشفى؟!
لماذا لا يوجد مُسكن بالمستشفى؟!رغم أنه لن ينفع مع ألمك المزمن!
.. لماذا أحببتك أصلاً؟..
لماذا أنت؟!
ما هو المميز فيك؟!
أنت مجرد واحدة أخرى..لن أشغل بالي بك
فلتفسحي الطريق من فضلك..أنى ذاهباً لأنام!
*******
- أنت يا ابنى..رايح فين؟!..أنت يا حبيبي؟..نظرت للوراء-بفضول-متسائلاً من ذاك التعس..الذى أوقعه حظه العاثرمع د"شوكت"
- المدير-و اليوم مازال فى بدايته..تلفت حولي -بريبة-فلم يكن معه فى الممر أحداً سواي ..معنى هذا أنه يقصدني أنا!
- أيوا باكلمك أنتا..بتدور على مين؟قالها-المدير-عاقداً كفيه خلف ظهره، فبدا كالصقر المستعد للإنقضاض..كان معتكر المزاج-كمن- قضى ليلة بلا نوم..خطوت نحوه-متوجساً-أتوقع شراً..و كما توقعت سأل فى سماجة:
- فين البالطو؟..مش لبسه ليه؟!
- يادي البالطو!قلتها فى سري ،مفكراً فى سر أهمية قطعة القماش تلك..كأنه-البالطو- عفريتاً يتلبسني فأصير طبيباً!..
تطلعت لهندامه الرائع..البالطو الأبيض المكوي و ذقنه الحليق..و طافت بذهني سبة بذيئة-لم أقلها-من السهل أن يبدو هكذا فلديه-على الأقل- وقت ينظر فيه فى المرآة..بينما ليس لدي وقت-حتى-لدخول الحمام!
- دي تالت مره،أبنهك على موضوع البالطو ده!
- بس دي أول مر....
- متكدبنيش!
تفحصنى بنظرة مزدرية..و أضاف:
- مالك منعكش و مفركش كده؟!و لسه لابس البيجامة!..دا شكل دكتوور؟!
اللهم صبرني على بلواي!
كنت أرتدى نفس الثياب التى جئت بها منذ أربعة أيام-بنطلون و قميص يشبهان زي الجراحة-لكن-بلون أسود-و هى نفس الملابس التى أرتديت فوقها البالطو..فى الصورة التى جمعتني مع نائب المحافظ و معه- المدير- وقد وضع يده على كتفي -فى الصورة-كأب فخور!
لكننى -حقناً للدماء-قلت بغيظ:
- حاضر يا افندم..هانام بالبالطو المره الجاية!
- حضرتك بتتريق؟!
- العفو يا دكتور..مقدرش طبعاً أتريق على حضرتك!..ممكن أرجع السكن علشان بقالي حوالي أربعين ساعه واقف الوقفه السو..الوقفة دي!
أشار بيده بملل أن أذهب- غور فى داهية-..فذهبت..لاحظت- فى خجل-الممرضتان الناعستان تنظران إلي من طرفاً خفي..و هما تتهامسان ..هل هذه إبتسامة ساخرة؟!..على ماذا تضحك هاتين الملعونتان؟!
قلبي يقبقب كالبراد على الموقد..أريد العودة لدكتور"شوكت لأتشاجر معه..لكنه أبتعد-لحسن الحظ -فكرت أنه-حتى- لو ظل واقفاً..فجبني الشديد سيمنعني من قول ما أريد!
على الأقل أعرف أنه -على الأرجح- غاضب لتنصلي المستتر من مصاحبة نائب المحافظ فى جولته..من المفترض أن يفهم أن لدي عملاً- أهم -من التسكع هنا و هناك كبيدق الشطرنج..أنا هنا حصان..و المستشفى تعج بالبيادق..يمكن لأحدهم أن يقوم بهذا العمل بدلاً مني..
لكن من قال أننى رفضت-صراحة-كل ما هنالك إننى قبلت فى لحظة شرود..ثم أنبهت فى لحظة واحدة..ضايقنى أننى قبلت فهناك حالات حرجة تنتظرني و ليس لدي وقت لجولة الملاهى تلك..و ضايقتني- كثيراً- طريقته المتذاكية فى إنتزاع الوعد مني ..
لهذا عندما حاول أن يشرح لي ما هو المطلوب مني..قلت بحماس مصتنع:
- عارف يا افندم..هافرجه على كل ركن فى المستشفى!
كان هذا-بالذات-عكس ما يريده..فهو يريد جولة إنتقائية تبرز أحسن ما فى المستشفى و تخفى مواطن التقصير..
قال بصوت مخنوق:
- الدور التانى....
قاطعته..و بمنتهى البراءة قلت:
- أطمن يا يا افندم..مش هاسيب أى مكان..و هابدأ بسكن الأطباء ..علشان سيادة المسئول يشوف الهنا إللي أحنا فيه!
*******
مشيت بضع خطوات مبتعداً..عندما فجائني ألم عاصر فى صدري..قلبي ينسحق بين الضلوع.. قبضة ثقيلة تعتصره دونما رحمة..و لم يعد بوسعي التنفس..فى أذني طنين يشبه رفيف أجنحة ضخمة..ولم تعد الأرض مستوية تحت قدمي !
- يا خرابي!صاحت ممرضة..و ساد الظلام بغتة!

يتبع

 ****

شبيك..لبيك الجزء 3


متى بدأت الهلاوس؟!

****

- د"شوكت عايز تقرير عن حالة المريض اللي عملتوله البذل أمبارح..
قالت ممرضة فسألتها..بقلق:
ليه؟
- علشان مات النهارده الصبح..و فيه لجنه من الوزاره هتزور المستشفى عشان تعرف السبب!
تسألت فى سري عن سبب إهتمام الوزارة..بوفاة عم"جلال"الكواء"مكوجي فلم أفلح فى التخمين!
********
كنت أتشاجر مع د"شوكت-المدير- لا أدري لماذا؟
بينما بدأ العاملين يتجمعون حولنا-كأنما-جاءوا ليتفرجوا على السيرك..كان الوضع يضغط على أعصابي بشدة..
بدأ الجمع يتسائل فى قلق مفتعل عما يجري-أعتقد- أن الشئ الوحيد الذى يقلقهم..هو أن العرض أقل حماسية مما توقعوا..و خطر لي أنه ليس من العدل أن أخيب أمل هذا الجمهور المكبوت!
أرغب-بجنون- فى لكمه..لا شئ يلهب الحماسة مثل مباراة ملاكمة..لابد أن من جعل عقوبة ضرب مديرك مرتين..هى الحبس ثلاث أيام..كان لديه مدير كهذا المدير!
هل يوجد قانون كهذا بالفعل؟..أم أنني أخرف؟..حقاً لا أدري!
- علشان حضرتك لما تشتغل فى مستشفى محترمه..لازم تلتزم بقوانين المنشأه اللى بتشتغل فيها!
فكرت فى أن المشكلة الأساسية أنني أعمل فى تلك الخربة التى يسميها مستشفى..يمكنني أن أحل تلك المشكلة الآن..و أستقيل!
لحسن الحظ كانت بجيبي إستقالة مكتوبة..أعطيتها له..استغرق ألتقاطه للورقة قرن من الزمان..
بدا المشهد غريب كالهلوسة..بطئ كالحلم..من يدري؟.. ربما كنت أحلم بالفعل!
الأغرب أنني كنت أرى نفسي!..حتى أنني أردت أن أنصحني ببعض التعقل..ففى النهاية لا يمكنني أن ألغي سبع أعوام من حياتي بجرة قلم-من أجل-موقف أخرق..لكن-أنا- الآخر هذا كان مجنوناً تماماً..
محمر العينين..منكوش الشعر..موشكاً على الأنفجار كأنبوبة بوتاجاز دون منظم!
و تخيلت أننى" بوعزيزي"أخر يحرق نفسه..تماماً ك"البوعزيزي"مفجرثورة الياسمين فى تونس.."ياسمين" مرة أخرى؟..ما هذا الصدفة الغريبة!
لكن جزء منى كان منتشياً-بتدمير سمعتي- بلذة ماسوشية غريبة..حين فكرت أن"ياسمين"ستعلم بما حدث معي..و رحت أتخيل المدير يحكي لعم"ياسمين-فهو صديقاً له:
- لقد جن الصبى تماماً..و قد وجدته هائماً على وجهه فى المستشفى..يرتدي فردتي كروكس مختلفتي اللون و الحجم!
..كنت-تخيل- سعيداً..بما ألت إليه الأمور..غداً لن أكون هنا..ربما سأكون فى السلوم أو أحدى محافظات الصعيد..فبالتأكيد لن يقبلوا بالإستقالة..بينما عدد الأطباء العاملين أقل مما يجب بكثير..حتى لو قبلوها-لا يهم-سأتفرغ للعمل بالعيادة التى أستأجرتها مع صديقي د"سليمان"طبيب القلب الأوعية الدموية و د"أحمد"طبيب الباطنة..المهم أننى لن أكون هنا..سأكون قد تحررت
..حين تعود الأميرة"ياسمين"سيكون الجنى التعيس قد غادر القمقم..و لن يكون بوسعها أن تأمر فيطيع كعبد مخلص!
ناولته الورقة..فتناولها مبهوتاً..بينما تنفست الصعداء..كأنما إنزاحت صخرة من فوق صدري..طوحت بقدمي اليمني..فطارت فردة الكروكس الخضراء فى الهواء..مرت بجوار ذراع د"شوكت"وسقطت بعيداً..طوحت الفردة الأخرى محاولاً أصابة وجهه لكن لم أصبه - للأسف -بعدها أفترشت الأرض..نائماً فى وضعية نجمة البحر..فهويت..و هويت
و هويت كأننى أسقط فى محيط بارد ليس له قرار!
*****
هويت..فوجدت نفسي فى حلبة المصارعة الرومانية-الكولوسيوم-عاري الصدر..لكنني أرتدي خوذة معدنية،و بيميني درع..بينما أحمل بيدي اليسرى سيف من الصلب المقسى..كان السيف ثقيلاً لدرجة جعلت- مجرد - حمله مهمة عسيرة..تؤلم كتفي..فذراعي..فأصابعي المستمية على المقبض ..كيف سأواجه-إذن- الأخطبوط الذى من المفترض أن أواجهه..أخطبوط!
ألن أصارع أسداً كما جرت العادة؟!
تطلعت لأخطبوط الذى يزحف نحوي..و أذرعه ذات الممصات تتلوى فى الهواء..قذف أحد أذرعته نحوصدري..فأخترقته بوخزة تشبه وخز الأبر! .. تبعه ذراع ثان..ثم ثالث..ليلتصقوا بلحم صدري..و أكتشفت -بهلع-أن تلك الأذرع قد أخترقت الدرع..هذا ليس عدلاً..لقد تصور أن هذا الشئ منيعاً..لكن يبدو أنه مصنوع من الورق المقوي!
- هااااا
صحت بينما أهوى بالسيف فوق الأذرع الثلاثة..فتتساقط مقطوعة على الأرض بجوار قدمي..بينما ألتفت ذراع رابعة حول كاحلي
رجني الأخطبوط رجاً عنيفاً كأنما -أنا- شخشيخة بيد طفل شقي..عظام ضلوعي تتفتت،و قلبي يكاد ينفجرمن الألم!
أفلتني..سقطت مهشم الأوصال..و عاد يخترق صدري بأبره المكهربة..عندما تحاملت على ذراعي الواهنة المهتزة..و غرست السيف حتى مقبضه فى رأسه الكبير -تحديداً- بين عينيه..أخرجت السيف من رأسه،ثم قطعت أذرعته المتشبثة بصدري..بحركة عكسية من السيف
مرتجفاً..يغمرنى العرق و الدم الأزرق..قمت واقفاً..و قد تدلت خمسة أذرع أخطبوط مقطوعة على صدري كالنياشين!
وضع عبدين عباءة بيضاء على كتفاي العاريين..لا..لم تكن عباءة..بل بالطو أبيض..
بينما تحول السيف لحقنة بذل!
*****
د"ناجى إبراهيم"أستشاري الكبد يطالع تقريرعم"رمضان"بوجه جامد متجهم..كوجه إنسان آلي..
قال بلهجة جليدية:
Cirrhosis..The liver no longer works-
تليف بالكبد..
صمتَ فى ضيق..متسائلاً عن كمية الرضا عن الذات التى تتيح له التحدث بكل هذا البرود..بينما يقف بجوار السرير الذى رقد على المريض البائس.. لا يدري لما ساءت حالته فجأة-بعدما-شُفى تماماً..و لا يدري -أيضاً-أنه لم يكن يُعالج ..بل يتم تجريب الدواء الجديد عليه..دون علمه و لا موافقته!
نظر لي د"ناجى" بعجب مستغرباً صمتي..فقلت بلهجة ذات مغزى:
This is not the only case-
قال فى ضيق -دون مراعاة- للحالة الميئوس من شفائها-عم"رمضان"حائر النظرات بيننا:
- كل تجربة فيها نسبة فشل..و الدوا دا ناجح بنسبة 99%..مش مهم واحد يموت!
نظرت ..لعم"رمضان"الذى يريد أن يزوج ابنتيه..و يحضر حفل تخرج ابنه من المعهد ..بألم وصمت متأسف
- أنباء عظيمة..لقد شُفى كل من تناول العقار الجديد..و أنت الوحيد الذى سيموت..
 فليرحمك الله،و يجعلك أخر الأحزان!
و برغم أنني لم أصارحه-بمدى سوء حالته-..لكننى واثق أن الزملاء قد قاموا بالواجب و زيادة!
لكنه لم يكن الأخير.. فالمرضى الذين تدهورت حالاتهم تزيد عن 30%-ربما أكثر-على عكس كلام الطبيب الكبير
لكن لن تُعرف النسبة الدقيقة -أبداً-نظراً لسياسة التعتيم التى تتبعها الوزارة
***
"ريهام"..زهرة فى التاسعة عشر من عمرها..جميلة هى.. أقصد كانت كذلك..قبل أن تصاب بيرقان الكبد"الصفراء" و يصفر لون جلدها و بياض عينيها..ترقد فى فراشها صفراء كالخضر الذابلة..تلتقط أنفاسها الواهنة..نناضل للحفاظ على حياتها..بينما كل من فى المستشفى يمسك قلبه فى لوعة..تسبح القلوب بالدعاء فى خشوع..لا أحد يريد أن تصاب تلك المخلوقة الرقيقة بالأذى
..إلى أن جاء اليوم..و أستردت لونها الأبيض المورد..و ألتقطنا أنفاسنا اللاهثة فرحين بنجاة الصبية..
تأملت وجهها بادي العافية-مبتسماً- فى سرور..هذه لحظة من اللحظات النادرة التى يشعر المرء فيها بالرضا عن الذات..و بأن الحياة رائعة و تستحق أن تُعاش..لم تكن تشبه"ياسمين"أبداً-لكن- للحظة بدت شديدة الشبه بها كأنها أختها التوأم..وقتها أرتعش قلبي بخوف - فرغم-كل ما حدث بيننا-كنت أتمنى أن تكون "ياسمين"بخير..و ألا أراها على فراش المرض أبداً..
حاولت أن أطرد هذا الهاجس الغامض..عندما تفاجئت بأم"ريهام"تحتضن الممرضات و تقبلهن فى مودة..ابتسمت بتأثر و قد هزتني فرحتها ..و فرحة الممرضات برد فعلها العاطفي..كن يستحققن بعض التقدير على ما يقمن به من عمل دؤوب..لكنهن تفاجئن بما فعلت..كما تفاجئت عندما أمسكت يدي و حاولت تقبيلها!
سحبت يدى محرجاً..غمغمت ببضع كلمات مرتبكة بأن هذا واجبي.. ثم تركتها وأنصرفت..و هى تحضن ابنتها و تلثم وجنتيها و كفيها و قدميها ..
****
أم "ريهام"تقبل يدي..أشعر بأنفاسها المحترقة.. أحاول سحب يدي فلا أفلح..كأنما لم يعد لي سيطرة على هذه اليد!..لكن مهلاً لحظة..هذه"ياسمين"!
سقطت دمعة ساخنة من عينها على كفي المشلولة فارتعشت..بين كفيها الدفيئتين..قالت كل كلمات الإعتذار التى-طالما-تمنيت أن تقولها..مع شلال دموعها
لكن بعد أن فات أوان البكاء و الندم!
ترجوني أن أفتح عيناي،و أن أعيش.. لأنها لن تسامح نفسها إن مت..الأنانية!
تريدني أن أعيش مع ذلك الألم-الذى لا يطاق..لتنعم هى بحياتها مع زوجها مرتاحة الضمير!
و برغم ذلك تمنيت أن ألبى طلبها و أعيش..حتى تسامح نفسها..فلن يكون سهلاً عليها أن تعيش بينما نحن الثلاثة-أنا وهى و زوجها-لا نسامحها!
طافت حولي..وأمطار دموعها الموسمية تغرق عالمي بفيضان جديد كأنها " أيزيس" ليلة البكاء على "أوزير"..لكنها "أيزيس"خائنة قاتلة..لهذا لم تحيني دموعها!
لا تبك يا صغيرتي..لكنت لبيت أمرك القاسي دونما تجشمي نفسك كل هذا العناء..لكن الأمر ليس بيدي كما ترين!

يتبع
شبيك..لبيك الجزء 4


- دكتوره"ياسمين".
نادتها الممرضة اللاهثة..همست بذلك الصوت العالي المستفز المميز لهمس أبناء البحر الأبيض..بأن زوجها ينتظرها أمام باب المستشفى..لم ترد"ياسمين"فعادت الممرضة تتوسل إليها لتخرج..
- هيا يا أميرة..علاء الدين -اللص -الوسيم ينتظرك بالخارج..إنه الآن أميرك..فلا يصح أن تتركيه ينتظرك طويلاً!
لو كنت مكانها-الممرضة-لصرخت فيها آمراً أياها بالخروج.. لكانت أستجابت على الفور..لكن الممرضة الحمقاء..ظلت تتوسل إليها!
هنا قامت"ياسمين"أخيراً..أقتربت حتى شعرت بأنفاسها الحارة تلفح جانب وجهي..و ملأت رائحتها المسكرة رئتاي..ثم لم أعد أشم شئ..و قد أنطبقت شفتيها على شفتاي بقبلة طويلة لاهبة صهرت أعصابي ،و أذابت قلبي الهالك..و جففت نخاع عظامي..
قتلتني..قتلتني مرة أخرى!..
تشبثت يدها بيدي..بينما أصابعي المبتلة بالعرق البارد..تنزلق من بين أصابعها-كأنما-سحبتها الممرضة اللعينة خارج الغرفة..
تركتني صريعاً..و أنصرفت !
***
طعم شديد المرارة فى فمي..قلبي يؤلمني بشدة..حتى عظام ضلوعي تؤلمني
فتحت عيني فطالعنى وجه د"سليمان"الوسيم الذى أنهمك فى فحص الأشعة فى الضوء القادم من النافذة..لم أميز ملامحه-النظارة-ليست معي..لكنني ميزت وقفته و قوامه المعتدل كالرمح المغروس فى الأرض-أنه- الطبيب الوحيد الذى يركب الخيل منذ كان فى السادسة-على قدر علمي-ألتفت إلي..قال بابتسامه بدت فى صوته اللائم:
- حمدالله على السلامه..كدا تخضنا عليك؟
أنزلقت عيني على الأقطاب الملتصقة بصدري العاري كممصات أخطبوط..قلت بوهن:
-الله ..يسلمك.. حصل..أيه؟.. الأشعه دى.. بتاعتي؟
- لأ..بس أنتا قلبك تعبان شويه..فجأه مسكت قلبك و وقعت على الأرض..suspected heart attack..و الECG أظهر إن عندك Takotsubo cardiomyo pathy
فخ صيد الأخطبوط!
كم أنت لطيف يا سليمان!
لدرجة أنك نسيت أنني أيضاً طبيب..و أعرف معنى هذه الكلمة جيداً و إلا ما تشير..
..broken heart syndrome
أو متلازمة القلب المكسور..كنت أعرف أنها ستقتلني!
مس "سليمان" كتفي برفق..قائلاً مطمئناً:
- حاول ما تتكلمش كتير..أحنا كلنا جنبك..و أنا اللي هتابع حالتك بالمناسبة ..
- طب ممكن.. أشوف وشك-على الأقل-..مادام هاموت ..على أيدك!
ما أن ألبسني النظارة..حتى طالعتنى النظرة الرقيقة الحزينة التى سكنت عينيه مؤخراً..من وراء نظارته العريضة ذات الأطارالمربع التى تبتلع نصف وجهه الطيب كوجه قديس.. هذا القلق و الأهتمام..و البالطو الأبيض..بدا-فى تلك-اللحظة كالملاك الحارس..
..لأول مرة أشعر بأن مهنة الطب تعويض كافي عن كل ما فقدته فى الحياة-فقط-لو كنت أملك تلك النظرة التى تشفى جراح القلب !
مستعداً أن أدفع ما تبقى من عمري إن كان أحد مرضاي قد رأني أو سيراني- يوماً-على هذه الصورة..
- مش عايز حاجه تانيه؟
سأل مبتسماً بعطف..فقلت بوهن:
- كوباية عصير.. مانجه ..بالنعناع..فيها مكعبين.. تلج!
لمعت فى عينيه بسمة ماكرة..حين تذكر..عصير المانجوالذى هرسه بشوكة الطعام و النعناع العائم على سطحه الرائق كالماء..وسكننا المشترك فى السكن الجامعي..
ملابسه التى كانت أمى تغسلها و تكويها مع ملابسي..حين-طرده أبوه الذى كان يريده أن يدرس الأقتصاد والعلوم السياسية-ليدير أملاكه الواسعة..لكنه فضل دراسة الطب ..لا أعرف أحمقاً-غيره- فعلها.
.و مصروفه الشخصي الكبيرالذى ترسله له أمه-دون -علم أبيه ..مع ذلك كان يقرضنا-نحن-زملاء السكن منه بلا توقف..كلما أحتجنا لشراء الكتب أو الملازم..حتى يصير أكثر إفلاساً منا !
- بس كده !دا أنتا تؤمر..و مش عايز تاكل حاجه؟هبعتلك شوربة خضار..بقالك يومين عايش على المحاليل!
نمت يومين!
خفق قلبي بإضطراب..معنى هذا أن"ياسمين"عادت..هل علمت بما حدث معي..و هل زارتني؟!
أصدر جهاز المونيتور صفيراً مزعجاً..و هو يرصد ضربات قلبي الذى رف كالطير الذبيح ..بينما اتسعت عيني"سليمان"الزرقاوان بذعر و قلق.. و هو يرقب معدلاتي الحيوية على شاشته التى لا أراها..سحب دواءاً ما بالمحقن..ثم حقن به وريدي..قال ناصحاً بصوت به رنة خوف:
-أهدى خالص..حاول ما تفكرش فى حاجه تزعلك!
- هى رجعت؟
تردد لحظة ..أكتسى وجهه خلالها بالأسى..وقال ببطء محاذراً أن يفقء دملاً يلوث روحي بالصديد:
- مدّت أجازتها..جات أمبارح..أخدت أجازه سنه بدون مرتب..
- جت هنا!
- أسامه..متفكرش فيها..
طافت بذهني ذكرى معينة..ياسمين"جالسة جواري..تقبل يدي باكية ترجوني أن أبقى..
أن أفتح عيني و أعيش..و لم أعد أدري..أكان هذا حلماً أم حقيقة!
كل ما أتذكره كلماتي المقتضبة مع د"شوكت"ثم إنقطع البث فجاءة..بعدها توالت المشاهد و الرؤى..لكنني لم أعد أدري..أيها حقيقي و أيها وليد هلاوسات عقلي المضطرب..
لكن فجأة غمرني يقين- لا أدري-من أين أتاني..بأنها كانت هنا بالفعل..فمازلت أشعر بلمستها على يدي..و أحس برائحة أنفاسها فى المكان!
قلت ل"سليمان" بثقة:
- كانت هنا!
- أسامه!
- قعدت مكان مانتا واقف..و..و..
قاطعني بحزم آمر:
- كفايه كده.. فوق بقى يا ابني..خلاص هى باعت..و الله ما تستاهل إنك تفكر فيها..
كأن هذا بيدي..لقد سقطت-مرغماً- فى فخ أخطبوط!
و برغم كونه محقاً فى كل كلمة..لكن لم يكن بوسعي أن أتجاهل هذا الألم الحارق..كما أنه ليس لدي-للأسف- زراً أضغط عليه فيمحو ذكراها..
صمت -مرغماً-فى خجل..داخلي مرتبك..مبعثر..كلما وجدت موضع أضع فيه قدمي..مارت الأرض تحتي..بدأ النعاس يداعب جفني..و طعم قبلتها التى دمرتني و زلزلت كياني كحبيبات سكر مر عالقة بشفتاي..أيعقل أنها-أيضاً- كانت وهماً!
أنزلقت فى منطقة النوم المريحة..نوم بلا أحلام و لا رؤى..نوم تحت سطوة منوم قوي
نمت و استيقظت..لا أدرى كم نمت.. لكنّ الوقت صار ليلاً..والسؤال ما يزال عالقاً فى جو الغرفة كسحابة سوداء معتمة..تتقاطر منها أمطار حمضية..تقتل شجيرات الورد و العشب الأخضر و العصافير!
و تغرق شواطئي بالماء الأسود..لم تكن هنا أذن!..و قبلتها الأثمة..لم تكن لها..بل كانت وليدة خيالي المفتون بها..
غبت فى وسنة خاطفة..أيقظتني منها الممرضة بهزة غير رفيقة..لتناولني حبة المنوم..وكوب ماء..جئت فى وقتك..تناولت الدواء و أغمضت عيني متعجلاً النوم..و قد أعترفت-لنفسي-أننى كنت أتوهم تلك الزيارة و ما جرى فيها..و قد ظللت مقيماً على هذا الإعتقاد..شهرين..هما فترة علاجي..
عندما شُفيت أخبرني"سليمان"أنها زارتني بالفعل!..هذه المرة لم أكن مستعداً للتصديق..لم أعرف حتى لما يخبرني الآن؟!
لكنه أكد لي أنه لم يعرف بأمر تلك الزيارة فى حينها..لكنه أستجوب الممرضات..و قد أقرت أحدهن أنها أخرجت"ياسمين" من العناية فى ذلك اليوم..و أكدت -بإصرار-أنها لم ترها و هى تدخل!
لم يعد هذا مهماً..لقد سافرت مع زوجها إلى أحدى دول الخليج..كما أننى شُفيت من متلازمة فخ الأخطبوط..و منها!
لقد تزوجت الطب..زوجة كئيبة..متعبة و مملة..لكنها تحفظ العهد..و لن تخون العشرة!
حقا؟!يسألني قلبي المغتاظ فى شك ودهشة..ألآن؟ و بعد كل ما جرى لنا؟!..
فأجيبه ضاحكاً:
-أى صديقي الأحمق لا تلومني..لقد أكتشف العلماء الألمان أن للقلب البشري عقلاً..يفكر به..فأين عقلك أنت يا مغفل؟!
من منا يحق له أن يلوم على الأخر؟
لماذا تهوى من تسومنا خسفاً؟..و تعود بعدها لتلومني و الذنب ذنبك منذ البداية!

تمت

قصص تليجرام