قصص تليجرام

حلمى فى صفيحة قمامة كاملة


عندما تهبطين على
ساحة القومِ،
لا تبدئي بالسلامْ
فهمُ الآنَ يقتسمون صغاركِ
فوق صحافِ الطعامْ
بعد أن أشعلوا النارَ في العشِّ..
والقشِّ..
والسنبله..
وغداً يذبحونكِ.. بحثاً عن الكنز
في الحوصله!
من قصيدة أغنية الكعكة الحجرية
للشاعرأمل دنقل

الجزء الأول طبيب إمتياز( بعض القسوة)


فحصت الطفل الهامد الممدد على السرير أمامى، فى حيرة ممزوجة بالرعب..فلم أكن قد رأيت خلال فترة عملى بالمستشفى-و هى قصيرة-حالة بهذا السوء!

بالكاد اسمع -بالسماعة-نبض قلبه الواهن شبه النائم داخل قفصه الصدرى الذى يكسوه جلده الشاحب..فقد كان الولد-جلداً على عظم -بالمعنى الحرفي للكلمة!

يعانى حالة مروعة من سوء التغذية..كأنه لم يأكل منذ عام!

و الأسوء تلك الجروح الغائرة على معصميه،و كاحله الأيسر!

"هو كويس يا دكتور؟..طمني الله يخليك!"

سألت السيدة شاحبة الوجه محمرة العينين،التى أحضرت الطفل:

-أنتى أمه؟!

سألتها فى شك ،و قد بدأت أظن أنها خطفت هذا الطفل من أهله..لتستغله فى التسول..لكننى فوجئت بها تقول بحرقة :

- أيوا..أنا أمه!..ريحنى ربنا يسترك ،هو هيعيش!

قلت بغير ثقة:

- إن شاء الله!..بس ممكن اعرف أيه اللى عمل فيه كده؟!..و أيه الحز إللى على أيده و رجله ده؟!

قالت المرأة في تعاسة:

- أصل هو بقى له أسبوع مكالش، و لا حط لقمة فى بقه!

" واضح!"قلت فى عدائية واضحة ، و قد بدأت افكر فى أن هذه المرأة لو كانت أم الطفل-كما تزعم -لما تركته يصل إلى هذا الحال المفزع!

أكملت المرأة التى لم تلاحظ ارتيابى فيها

- هو رافض ياكل حاجه من ساعة ما ربطته عشان ما يخرجش!

سألتها فى تحفز:

- ربطتيه؟!..ربطتيه بأيه مقطّع أيداه و رجله بالشكل ده؟!حرام عليك يا ستى..ليه كده؟!

ردت السيدة فى تعب:

- مانا غلبت فيه يا دكتور ..و مش عارفة أعمل معه أيه عشان يبطل ضرب!

نظرت للطفل ذى الثمان سنوات،قبل أن أسأل فى حيرة:

- و هو عشان بيضرب أخواته،تعذيبه بالشكل ده؟

اتسعت عينا المرأة فى دهشة ،و هى تنظر لى فى إستغراب-كأنها ترى مخلوقاً فضائياً-:

- أخواته أيه يا دكتور ؟!..بقولك بيضرب كيميا!.. يعنى بياخد برشام!

-.............................!

**********

مدت"نادين"يدها لى بالساندويش قائلة:

- تفطر معايا؟

- لأ ..شكراً مش هأقدر.

قضمت"نادين"قضمة كبيرة من ساندويتشها،و قالت و هى تمضغها:

- ليه؟..أنت أفطرت من غيرى؟

- و لا أتعشيت أمبارح!

سألتنى مداعبة بهتاف مرح:

- ليه يا"جوجو"بس!..كده هتخس..و انا بحب الرجالة المتختخين!

- و انا مش فايق للهزار على فكرة!

ردت"نادين"بابتسامة مندهشة:

- و بتقلوا البنات نكديه!..أنا جايه أفطر معك،و أنا لسه طالعه من العمليات..و كنت مع د."وليد "بقالى ست ساعات واقفه على رجلي و أنت اللى مش فايق؟!..

- تعبان شوية يا"نادين"!

- تعبان مالك يعنى؟!

- يعني..مرهق شويه..ضهرى كمان بقاله كام يوم هيموتنى!

سألت فى مشاكسة:

- جربت تروح للدكتور؟

ابتسمت رغماً عني حين تذكرت أننا نعمل فى مستشفى..و مع ذلك لم يخطر ببالى أن أحصل على فحص..حقاً إن الأطباء هم أسوء المرضى طرا!

- متكبريش الموضوع..ده مجرد إرهاق..عادى..اللى مش عادى الحاله اللى فحصتها النهارده..حالة طفل عندى تمن سنين..أسوء

حالة سوء تغذية شوفتها فى حياتى..و الأسوء كمان إنه addict!

- يا سكر!..و ده مدمن أيه إن شاء الله؟!..مدمن عسليه؟!

سألت"نادين"فى إسخفاف..فأجبت و أنا أتأمل وجهها لطيف القسمات :

- لأ..مدمن تارامادول.

- تارامادول؟!..أزاى يعنى؟

هززت كتفى بمعنى أننى لا أعرف..و سألتها محاولاً تتغير هذا الموضوع الكئيب:

- خلصتي الshiftا بتاعك؟

- آه خلاص مروّحه..أنا الshiftا بتاعى خلصان من زمان..هتوصلنى؟

- للأسف لأ..لسه بدأ الshiftا بتاعى من ساعتين..لما توصلى البيت أبقى طمنينى.

قالت فى مشاغبة:

- لأ!

نظرت لها فى عجب:

- لأ؟..بالله عليك يا"نادين"تتصلى تطمننى..بلاش قلق..يا ريتك أشتغلت فى المستشفى التانيه..كنت هابقى مطمن عليك أكتر.

أخرجت تفاحة و مدّتها لى فى عرض صامت، فتناولتها شاكراً..قبل أن تخرج أخرى،وتقضم منها قضمة قبل أن تقول:

- هنا أقرب!

استحضرت منظر الشوارع المحيطة بالمستشفى..بما فيها قمامة و كلاب ضالة،و بلطجية لا يقلون شراسة عن الكلاب،و قلت:

- لكن هناك أنضف!

قالت"نادين"ممازحة-رغم أنها تفهم قصدى-:

- ليه؟..دا حتى أم"جميلة" لسه ماسحه المستشفى كلها بالفينيك!

قلت متجاهلاً الرد على مزحتها:

-"نادين"..هتتصلى؟

- لأ..مش أنت مش عاوز توصلنى؟.. خليك قلقان!

سألتها ساخطاً:

- هى مستشفى اللى خلفونى يا بنتى؟!..طب خلاص..أنا هبقى أتصل..بس أبقى ردى..و سلميلى على ماما.

تبسمت ضاحكة،وقالت فى مشاكسة:

- لأ برضو!
**************

"دكتور"نعمان"..ممكن لحظه يا دكتور؟"هتفت منادياً دكتور"نعمان"..و هو واحداً من أهم أطباء الباطنة فى المستشفى العام الذى أعمل فيه منذ بضعة أشهر

التفت..و قد تهلل وجهه بالبشر حين رأنى.. صافحنى فى مودة،و هو يهتف:

- أهلاً يا دكتور"مجد"..أيه الأخبار؟تمام؟

أحمر وجهى خجلاً و فخراً-فى نفس الوقت-..من كلمة "دكتور"التى قالها لى ..كأنما قلدنى وساماً ، و غمغمت بصوت مبحوح من فرط الرهبة..فقد كنت أقدر الرجل جداً،و أعتبره أستاذي

- الحمد لله يا دكتور..حضرتك كنت قلت لى إن لو عندى سؤال، أو أستفسار..أقدر أطلب مساعدة حضرتك..

- طبعاً..قول اللى أنت عاوزه من غير مقدمات..مالك مرتبك ليه؟ثم أضاف بإبتسامة مشجعة:

-أنا مكنتش واخد بالى فى الأول..بس برافو إنك بدأت دايت..كدا أحسن كتير.

سألته بدهشة:

- دايت أيه يا دكتور؟..أنا معملتش دايت و لا حاجه!

أرتفع حاجبه فى إستغراب و قال متعجباً بعد برهة:

- معقولة!..شكلك خاسس أكتر من سته كيلو عن ساعة ما شفتك أخر مرة.

لم يكن قد رانى منذ شهور-لا أدرى-أربعة أو خمسة..لهذا لم أقلق..من الممكن أن أفقد بعض الوزن خلال هذه المدة ..خاصة مع نظام حياتى المقلوب رأساً على عقب..

قلت له ضاحكاً:

- حضرتك بقالى قريب من شهرين فالطوارئ..و ما أدراك بالطوارئ!..maximum تلت اربعتيام و أضطر أعمل أختراق ضاحية!..once المريض مات..أهله ينتقموا مننا أحنا كأننا اللى قتلناه!..و الله يا دكتور من ساعة ما أشتغلت الشغلانه ده.. باجرى جرى ما يجريهوش كلب!

هز رأسه ،و هو يتنهد..قال فى ضيق:

- ناس mentally retarded!..لعلمك مش بس دكاترة الطوارئ اللى بيضربوا..لأ..و بيضروا دكاترة العناية و الإسعاف كمان!

أستدركت بسرعة:

-يلا الحمد لله!.. المهم يا دكتور..كنت عاوز أستفسر عن حالة الطفل اللى جه أمبارح..هوا عندهmalnutrition و severe anemia..ممكن أعرف برتوكول العلاج بتاعه.

- عادى..هوا بياخد محلول مغذى و حقن "....."و لما حالته تتحسن هيخرج..أعتقد خلال كام يوم هيكون تمام.

قلت بسرعة:

- فيه حاجه كمان يا دكتور.. الولد بياخد drugs من الopium derivatives..ترامادول على الأرجح..ده هيغير حاجه فى خطة العلاج؟

هرش ذقنه الحليق مفكراً..قبل أن يجيب بسؤال:

- و المفروض حاجه زى دى هتغير أيه فى خطة العلاج؟

- يعنى مش هيقعد وقت أطول فى المستشفى؟..ممكن ده يسعده على العلاج من الإدمان.

تغيرت ملامح وجهه فجأة،و قال فى جفاء:

- دى مش مصحة علاج إدمان يا"مجد"..كل اللى مطلوب مننا أننا نعالجه من الmalnutrition..بعد كده هو حر.. ياخد ترامادول،يشرب دي دي تي مش قصتنا!

فاجأنى أسلوبه العدوانى..،فصمت مذهولاً،و لم أستطع التفوه بحرف..حتى أننى أجفلت، حين ربت بكفه على كتفى و قال بلهجة أبوية:

- أنت شاب ذكى..و هتبقى دكتور ممتاز..عيبك الوحيد..إنك عاطفى بزيادة..أحياناً بتكون محتاج شوية قسوة علشان تقدر تاخد القرار الصح..فى الوقت المناسب..فاهمنى يا ابنى.

هززت رأسى مؤمناً على كلامه لكن فى غير اقتناع..فأضاف مبتسماً:

- و بالمناسبة الولد اللى بتتكلم عنه- تقريباً-اتخطى الفترة الحرجة..يعنى قرب يعدى فترة الأنسحاب اللى هى أصعب فترة فى علاج الأدمان..و نصيحه منى تسيبك منه و تركز فى شغلك!..أتفقنا.

***

رن جرس هاتفى المحمول،و كانت"نادين" المتصلة..وضعت السماعات المتصلة بالمحمول فى أذنى و قلت لها فى لوم:

- لسه فاكره تتصلى دلوقتّ!

سمعت من الطرف صوتاً غليظاً و به بحة غريبة يقول:

- أنا مش خطيبتك..أنا المعلم "كنكه" اللى خطفتها و عايزه..قصدى عايز فديه ..عشان أرجعها.

- "كنكه"؟!..طب أشربها بقى يا معلم "كنكه"..عشان مش عاوزها!

كانت"نادين"هى المتصلة..و قد عرفت صوتها على الفور-رغم أنها حاولت تغييره-لكننى جاريتها بينما كنت فى المطبخ أبحث عن شئ يصلح لغلى الماء:

- طب أنت يرضيك يا معلم"كنكه"؟..بتصل بيها من الساعه عشرة الصبح..أتصلت بيها أكتر من عشرين مرة ..و برضو متردش!..ده كلام؟ ولا دى عمايل؟!

ردت بصوتها الطبيعى:

- مش عشرين مره و لا حاجة!..دا هما تمنتاشر رنه بس!

- يعنى تمنتاشر رنه و عداهم كمان؟!..أمال مردتيش ليه يا بارده؟!

وضعت كوب ماء فى البراد ،و وضعته على النار بينما تجيب"نادين"فى تكاسل:

- مانا أتغظت منك عشان سبتنى أروح لوحدى..كان عندى حكاية عايزه أحكيهالك!

- بتعاقبينى يعنى؟..

- أصلك حنبلي أوى!..فيها أيه يعنى لو زوغت نص ساعة عشانى؟..مكانتش

الدنيا هتتهد!..المستشفى مليانه دكاتره.

أستغربت منطقها الطفولى..لكننى قلت بصبر:

- و مليانه عيانين!..ده كويس أنى عرفت أتكلم معاكى كلمتين..طول الوقت حوادث و عيانين حالاتهم حرجه..عايزانى أسيب كل ده و أروح أوصلك !

قلّبت النسكافيه بالملعقة داخل الكوب-من أجل الحصول على بعض الفوم-و سألتها ممازحاً:

- بس أيه التمثيل الزباله ده؟

سألت فى جزع كأنما تفاجئت:

- وحش!

- زفت..حاجه ضعيفه أوى يا عبد الرسول يعنى.

سألت بصوت ضاحك:

-"عبد الرسول"مين؟!

- هاقولك بعدين!..حد ميعرفش "عبد الرسول"؟!..يا بنتى المخبر اللى....

هتفت فى فهم و قد تذكرت:

- أه..أه أفتكرته..ثم أستدركت سائلة:

- أنما أيه اللى مسهرك لحد دلوقت؟الساعة أتنين صباحاً..أيه؟.. بتفكر فى اللى ناسيك؟

- لأ..بفكر فى "حلمى".

قالت فى تهريج:

- فيا أنا يعنى؟..و لا بتفكر فى حلم الدكتور؟..الأربعه عين و لا الخمسه عين؟

- الأربعه أيه؟!

سألتها مستغرباً بينما أصب الماء الساخن على النسكافيه

قالت فى شرح:

- بيقولوا أول ما الدكتور يتخرج من الجامعه،يبتدى يفكر فى الأربعه عين..عيادة ..عربيه ..عروسه..و الرابعه كانت عماره باين!

قلت ساخراً:

- أو عزبه مثلاً!

- ممكن.. ليه لأ؟

- لأ يا ستى ..كنت بفكر فى"حلمى"الولد الصغير اللى حكيتلك عليه.

- أه يا حرام..و ده هتعمل معاه أيه؟

صمت لحظه أفكر فى سؤالها الذى لم أطرحه على نفسى بعد..ونفخت فى ضيق ثم قلت ببطء:

- و لا حاجه..هوا مع د/"نعمان"و هوا هيعمل اللازم..و قال لى مليش دعوه بالموضوع!

سألت"نادين"باستغراب:

- أيه زعقلك؟!

- لا أبداً..نصحنى إنى أركز فى الشغل..بس اللى فهمته من كلامه،إن "حلمى"هيخرج من المستشفى يوم الأربع..مع أحتمال إنه يرجع للبرشام..يعنى هوا و حظه ..ياعاش يامات!

- و طبعاً معجبكش الكلام؟

صمت فى حيرة لا أجد ما أقول..و شعرت بغصه أليمة فى حلقى ..أبتلعتها ببعض النسكافيه

أضافت"نادين":

- د/"نعمان" مهتم بيك،و حاسس أنك خامه كويسه...

قاطعتها بضيق ،وقد ظننتها ستكرر نفس ما قاله الدكتور"نعمان:

- عارف يا"نادين"..هاحاول أتفرج و انا ساكت!

هتفت"نادين" فى دهشة:

- و هتسيب"حلمى"؟!..يعنى مفيش حاجه نقدر نساعده بيها؟

و مرة أخرى أستغربت سؤالها.و لم أدر أتتحدث صدقاً،أم تسخر منى...فما دام"حلمى"فى نفس الوسط و الظروف التى دفعته للإدمان،فسيعود إليه بسهولة-و بمجرد عودته إلى الشارع-فعملياً ليس بوسعنا عمل أى شئ فى هذه الحالة..الحل الوحيد هو تغير بيئته أو ظروفه..كأن يوضع فى دار رعاية مثلاً.

ساد الصمت برهة.قبل أن تسأل "نادين":

- و أنت هتعمل ايه دلوقتي يا"مجد"؟

قلت فى إحباط:- هاعمل نسكافيه!..اعملك كوبايا؟

- نسكافيه ؟! أنت بتهزر..صح؟

- لأ والله..عامل نسكافيه بجد..هذاكر شويه..و بعدين هاخد دوش و أنام لغاية الضهر..

- طيب تصبح خير .

- و أنتى من أهل الخير.

و قبل أن أغلق الخط..استدركت"نادين"بسرعة:

- آ.."مجد"..عارف أيه اللي محيرنى؟.. أيه اللي ممكن يخلي ولد صغير فى سن"حلمى"يبقى مدمن؟!.. حاجه غريبه اوي الصراحه!

و وجدتنى اسرح مع سؤالها.. فلم أكن أعلم..كيف أدمن ؟لكن فيما بعد أخبرتنى أمه بالقصة كلها ..مرت دقيقة دون أن يغلق أياً منا الخط..

- طيب ممكن نتكلم كمان ربع ساعة!

قلتها ل"نادين"و قد بدأت أشعر بالوحدة منذ قررت إنهاء المكالمة..ردت فى دلال:

- و بعدين ترجع تقول لي عطلتينى عن المذاكرة!

قلت نافياَ فى لهفة:

- عمرى!..يلا بقى أحكى..كنت عاوزة تقولى أيه و أحنا مروّحين؟!

ردت فى مشاكسة:

- لأ.. أبقى أحكيلك فى تزويغة بكرة!

قات مازجاً:

- خلي بالك.. أنتى كده بتضطرينى أني بكرة..مازوغش برضه!

ضحكت قبل أن تقول برقة :

- لأ أحسن أسيبك تذاكر يا دكتور.. كدت أشكرها على إهتمامها بمصلحتى -رغم اللوم-الذى يفوح من مقاطع كلمة دكتور..كما تفوح عينات التشريح برائحة الفورمالين .. لو ما أضافت-بمنتهى الرومانسية-:

-أنا كمان عندى مذاكرة..فاكر لما رغينا المره اللى فاتت فى التليفون و ضيعنا الوقت قبل إمتحان الORAL..قعدت بعدها يومين أضرب نفسى بالجزمه !
******

" يا حبيبى..كبرت قبل الأوان يا ضنايا"قالتها أم"حلمى"لطفلها الذى بالكاد تجاوز السابعة..عندما نقدها أول أجرة حصل عليها من عمله ..و قلبها يتنازعه شعورين متباينين..فقد كانت تشعر بالسعادة لأن ابنها قد صار رجلاً يعتمد عليه خاصة بعد وفاة زوجها-أبو"حلمى"،و فى نفس الوقت أعتصر قلبها الأسى على صغيرها الذى "شال "الهم قبل الأوان..و طفرت الدموع من عينيها..و هى ترمق عوده الناحل المتصالب،بكبريائه الطفولية..فإحتوته بين ذراعيها بحنو..و أنخرطت فى بكاء حار..فمد"حلمى"الصغير أصابعه السمراء الدقيقة..ليمسح دموع أمه التى نزلت تكوى وجنتيها..فلم تكن تنقطع عن البكاء حزناً على موت أبيه،متأثراً بمرضه العضال.

قال له الصبى لائماً و الدمع يغزو عينيه:

- بتعيطى ليه ياما دلوقت؟..متشليش هم الدنيا ياما..أنتى خلفتى راجل.

ضمته أكثر حتى لتوشك أن تخفيه داخل ضلوعها حدباً عليه و خوفاً ..و هطلت دموعها مدراراً،و هى تقول بإعجاب و صوت مبحوح من فرط التأثر و الألم:

- يا حبيبى!..راجل يا"حلمى"و سيد الرجالة كمان.

ربتت على رأسه و هو يبلل كتفها بدموعه،و هو يقول برجولة مبكرة:

- من هنا و رايح مش عايزك تشتغلى..لا انت و لا "فاطمة"مش عاوزكوا تتبهدلوا.

أرسلته أمه و هى ماتزال تحيط خصره الضامر بكفيها،و قالت مستصعبة قوله:

- حمل تقيل عليك يا ابنى يا حبيبى..داحنا سته..أنا و أنت،و"محروس"و التلات بنات..و شغلى أنا"فاطمة"يساعد..حتى يمكن نعرف نعّلم الواد..بلاش البنات.

و لم تكد تكمل كلامها،حتى أعتصر الألم قلبها بكف جبار..و تذكرت أبو"حلمى"حين سماه..قال لها فى أمل،و بسمة تضئ وجهه بالبشر..حلمى الواد ده يتعلم..و يبقى حاجه كبيره أوى!

لكنه لم يخطو داخل المدرسة بقدميه..و لن يدخلها أبداً..بعدما مات أبيه..و ذهب هو ليعمل من أجل قوت اليوم!

و تنهدت فى حسرة..و قالت تواسي نفسها:

- يعنى هما اللى دخلوا المدارس كانوا فلحوا يعنى!

و فكرت فى نفسها أنه من الأنسب أن تترك"فاطمة"و"شهندة"المدرسة..فقد أخبرها المدرسين أن الكراسي التى تجلسان عليها تفهم أكثر منهما!

"طبعاً!..و هوا انت عندك غير"حلمى"حبيب القلب" قالتها"فاطمة"التى جاءت بالفول و المخلل من أجل الغداء مدراية غيرتها بابتسامة

فزجرتها أمها بضيق:

- بس يا بت الجزمة!.."حلمى"بقى راجل البيت بعد أبوك الله يرحمه.

قالت"فاطمة"بغيط:

- راجل عنده سبع سنين!

هتفت أمها بإنفعال:

- سيدك و سيد أبوك يا بت ال.....و اسكتى بدل ما اقوم اديكى شبشبين على بُقك المفتوح زى البكبورت ده..يلا حطى الأكل و نادى أخواتك..عشان ناكل لقمة و نروح نغسل سجاد الست أم"سماح".

هتفت البنت معاندة:

- روحى لوحدك ياختى..أنا حالى مهدود من امبارح..و لا خدى الراجل بتاعك معاكى!

- حاضر..هاخدو بعد ما اخد روحك إن شاء الله يا بت ال....

قالتها أم"حلمى"و هى تهجم على ابنتها الكبرى ذات السنوات العشر لتصفعها بما يعتمل فى صدرها من غل و كبت،و أرادت أن تضربها مجدداً..فأمسك"حلمى يدها،و هو يهتف متوسلاً

-خلاص ياما و النبى.!

- معوجه على أيه يا بنت ال....قال على رأى المثل..أدلعى يا عوجه فى السنين السوده!هتفت أمها وهى تهجم عليها مرة أخرى مصرّة على ضربها..لكنّ"حلمى"حال بينها و بين مبتغاها..و هو يحمى أخته الكبرى بجسد الضئيل متوسلاً:

- سايق عليك النبى..و حياة عضم التربه ما تضربيها!..دا أبوها كان روحه فيها الله يرحمه..و مكنش يقولها غير يا"بطة"و يا حبيبة أبوكى.

أحتضنته الطفلة الباكية فى امتنان..بينما زعقت أمها:

- شوفتى يا سودا يا بنت الواطية!و الله لولا أخوكى..أنا كنت أكلتك باسنانى!

****************

تخطت أم"حلمى".. أجساد اطفالها النائمين..محاذرة ان تدوس فوق أحدهم..و وقفت تنظر من باب عشتها الموارب على الزقاق المظلم فى قلق.. فقد تأخر"حلمى"أكثر من المعتاد..صحيح أنه أصبح يتأخر-فى الأونة الأخيرة-لكن لم يحدث أن تأخر كل هذا الوقت!

عضت على شفتها فى عجز..لا تدرى ألى أين تذهب..و لا كيف تتصرف.. و لامت نفسها على أنها تركته يخرج ..ثم فكرت أنها ما يجب أن تتركه يعمل و هو بعد طفل..لقد تغير كثيراً منذ ذلك الحين!

لكن ماذا كان بوسعها أن تفعل؟لقد وافقت تحت ضغط الحاجة ..الآن هى لا تدرى كيف تتصرف،و قد وقر فى نفسها أن صغيرها فى مأزق كبير!

- ليه يا"حلمى"؟..ليه يا ابنى تقلقنى عليك كده بس؟!تمتمت بصوت خفيض تحدث نفسها..ثم استدركت

ليه يا ربى كده؟!بعد ما قلت ربنا صلح الحال!

..فقد مرت الأيام و الشهور و"حلمى"يعمل بجد ،و إجتهاد ليساعدها فى نفقة أشقائه و نفقة البيت..حتى ضاعف أجرته..بل و كان أحياناً يحضر بعض الأغراض الصالحة للأستعمال مثل الأحذية ،و الملابس المستعملة..فهو يعمل فى فرز القمامة،و كان كلما وجد ملعقة أو طبقاً أو فرشاة شعر أو أسنان..أحضرها لعشتهم المتواضعة ليستعملوها..و كانت هى سعيدة..بل و نجرؤ أن نقول مرتاحة البال أيضاً..و قد أطمئنت لأن"حلمى سيكون سنداً لأخوته-خاصة أخواته البنات..و خير معين لأخيه على مصائب الدهر..

لكن سرعان ما تغيرت الأحوال!..فقد تغير"حلمى"كثيراً..لم يعد يهتم بشئ..حتى أنها كسرت عصا المكنسة على ظهر"شهندة"أخته التى تكبره بعام واحد-و كان حاضراً-وقتها..لم يحاول منعها،بل و لم يسألها حتى لما فعلت ذلك!

و عندما جاء من عمله ذات يوم،و وجد أخيه"محروس"متورم الوجه و الرأس-بعد أن ضربته أمه بالشبشب-لم يبدو منزعجاً من شئ سوى أنه-أخوه-يبكى بصوت عال،و يمنعه من النوم!

كم تغيرت يا"حلمى"!..لا لم يتغير فقط ..لقد تبدّل!

أزداد جسده سمرة و نحولاً ..حتى أنه لم يعد يأكل أو ينام!..

هى تشعر به كل ليلة، و هو يتململ فى مرقده-حتى أنه-أحياناً كان يخرج ليلاً من العشة..و هو بلباسه الداخلي الممزق-لا يبلى- بالبرد..

كأنما إنعدم منه الأحساس فجأة أو كأن به مس من الجان!

"- هوا "حلمى" فين ياما؟!"سألت"فاطمة"فى قلق..عندما أستيقظت لتشرب فلم تجد أخيها نائماً إلى جوارها..فصرخت أمها بأعصاب منفلته:

- أنا أيش عرفنى؟..ربنا يقطع"حلمى"..على اليوم اللى خلفت فيه"حلمى"...ربنا ياخدنى من وشكوا يا شيخة ،عشان استريح!

اخذت"كوكب"ذات الثلاث سنوات تفرك عنيها وتبكى..و قد استيقظت فزعة على صوت صريخ أمها..فصاحت فيها"فاطمة":

-بس يا بت يا "نونا"..نامى!

فنامت الصغيرة على الفور..بينما وضعت أم"حلمى"على رأسها طرحة..و ذهبت لتبحث عن"حلمى..سألته"فاطمة":

- رايحه فين ياما دلوقت؟

- رايحه أدور على أخوكى..خلى بالك من اخواتك على ما أرجع.

يتبع

الجزء الثاني البحث عن "حلمى"

"مالك يا أم"بيجو"ياختى؟زعلانه ليه يا حبيبتى؟!

سألت أم"إسماعيل"جارتها أم"بهجت"التى أجابتها فى غم:

- متقوليليش يا أم الزفت..قُطع و قطعت سيرته!..دا ضارب أخته مكسر عضمها..أهى نايمه مدغدغه.. مش قادره تقوم تروح الشغل.

و لوحّت بيديها فى الهواء..و هى تهتف فى إنفعال:

- دا هى اللى بتصرف على البيت..و بتصرف عليه هو كمان البغل!..يبقى يورينى هيجيب طفح منين يطفحه..الموكوس أبن الموكوسه!

هتفت أم"إسماعيل" فى ذكاء:

- عشان كده كانت بتصرخ!

هتفت أم"بهجت"الشهير ب"بيجو"فى إستنكار:

- شوف الوليه ال......!..يعنى سامعه صريخ البت ومجتيش تحوشي يا مره ؟!

هتفت أم"إسماعيل"فى تساهل:

- ياختى يا أم"بيجو"..يعنى هوا ابنك بيكبر لحد؟..أديكي أنت أمه و معرفتيش تحوشيه....

و بترت كلامها بغتة،قبل أن تسأل بدهشه و هى تشير بأصبعها نحو أم"حلمى":

- مش دى أم"بطة"؟..مالها ماشيه معمية كده؟!

جاوبتها أم"بيجو"فى قلق:

- أه والله دا هى!..يا أم بطة..يا بت يا أم"حلمى"!

 سمعت أم"حلمى"أسمه فألتفت نحو مصدر الصوت فى إضطراب..و ما أن رأت وجه محدثتها حتى سألتها فى لهفة:

- هوا"بيجو"قاعد يا خالتى؟

-ألهى يعقد مكسّر..لأ غار بعد ما دغ البت"سياده"العلقة زى عوايده..داهيه تجحمه مطرح ماهو قاعد..ثم رفعت ذراعيها تجاه السماء فى ضراعة،و هى تدعو عليه:

-ألهى يجيني خبرك يا"بيجو"من بره ،قادر يا كريم!

قالت أم"إسماعيل"بسرعة و هى تمسك بذراع صاحبتها لتمنعها من الإسترسال:

- استنى بس يا أم"بيجو"..لما نعرف ياختى أيه الحكايه..أيه اللى حصل يا أم"بطة"؟حد من العيال جراله حاجه؟

هتفت أم"حلمى"فى لوعة، و جرت دمعة سريعة على وجنتها:

- الواد"حلمى"لسه مرجعش من أمبارح!

هتفت أم"بيجو"بدهشة مستنكرة:

- يالهوى يا"تهانى"!..الواد بايت بره من أمبارح يا مايله؟! دا أنا أبنى "بيجو" الصايع الضايع عمره ما بات بره البيت..غير بعد ما أتلم على العيال البرشامجيه.

"- ماتقطمنيش يا خالتى و النبى..أنا مش ناقصه،و اللى فيا مكفينى ..و كنت عايزه"بيجو يدور معايا على الوله..أنا رايحه أدور عليه لوحدى!" زعقت أم"حلمى"فى غضب،و قد عيل صبرها،فربتت أم"إسماعيل" على صدرها مهدئة،و هى تقول:

-أستنى بس،و هدى نفسك يا بنتى.."بيجو"أيه ده اللى هيجيبلك أبنك؟ ..دا اللى"بيجو"يعرف طريقه ..يبقى الله يعوض عليه!..أنا هصحيلك"سمعه"يدورلك عليه، هو و"عبده".

********

"ألو..أيوه يا"نادين"..روّحت.. أهو طالع على السلم"قلتها ل"نادين"على الهاتف قبل أن تٍسأل:

- ليه طالع على السلم؟..أمال فين الأسانسير؟!

- راح مشوار بس هيطّول!..عطلان طبعاً كالعادة..عموماً هانت قربت أوصل الرابع .

ثم سألتها مداعباً :

-أيه رأيك فى شقتك يا عروسه؟

ردت فى تخابث:

- تقصد شقة مامتك.

قلت فى ضيق أنا أفتح باب الشقة:

- شقتنا يا"نادين"..أحنا أتفقنا على أننا هنقعد مع ماما!

ردت"نادين"بسرعة:

-ماشى يا أسطى ..مالك متعصب كده ليه؟

ثم أضافت مقلدة الفنان"عبد الفتاح القصري":

- و بعدين أن أديت كلمة،و لا ممكن أرجع فى كلمتى أبداً!

ألقيت الحقيبة على أقرب كرسي جوار الباب..قائلاً:

- و لّا ترجعى!... It's all I can do.

- مالك nervous أوى كده النهارده؟

- مش عصبى و لا حاجه..ضغط الشغل بس..بقالى أتناشر ساعة واقف فى أستقبال الطوارئ من الساعة تمانيه بالليل لتمانيه الصبح.

سألت فى دهشة:

- أتناشر ساعة أزاى يا بنى؟.. shiftالطوارئ ست ساعات بس!

ألقيت نفسي لأجلس على طرف الفراش،وخلعت النظارة،و فردة الحذاء اليمني قائلاً فى أستغراب مماثل:

- مش عارف..مستشفى بايظه!كان المفروض أخلص،و أطلع على المستشفى التانيه..لكن أول ما خلصت أول shift لقيتهم بينادوا أسمى فى الintercom عشان يبلغونى أن عندى shift تانى..قلتها و خلعت فردة الحذاء الأخرى،و ارتميت على السرير 

- و أكيد قضيت الأتناشر ساعه واقف على رجلك!......

-"مجد"..يا"مجد"..أنت نمت و لا أيه؟!

أنتبهت على صوتها ..فتحت عينى بصعوبة..و قلت نافياً:

- لأ صاحى!

كنت بسألك مبدلتش مع زميلك ليه و نمت شويه؟!

- لأ ما هى كانت Literally ليله زرقا..بدأت بحادثة ميكروباص..قضيناها جرى على العناية..و على نص الليل جه واحد واقع من على السقاله-مش عارف بيبنوا أيه-فى الوقت ده!..ده كان عنده fracture base of skull،و تقريباً وصل المستشفى ميت دخل عالتلاجة عالطول ما تعبناش!..قبل الفجر بشويه واحد فرقع فى وشه موقد بريموس ،وختمت بحالة arrest على الساعه سبعه الصبح

- دلوقتي طبعاً رايح تنام.

-انا نايم أصلاً، و باكلمك من على السرير..تصدقي مش قادر حتى اقوم اغير هدومى!.. أنتى فين دلوقت؟!

- لسه واصله المستشفى من نص ساعه.

- يعني وقت ما روحت أنتى جيتى. .يا خوفى  يا"بدران"نفضل على كده ،حتى بعد الجواز ..و اقبلك صدفه فى الصاله..و لا فى الطرقه اللى قدام الحمام!..."نادين" .."نادين" ؟!

لم ترد.. نظرت لشاشة الهاتف فوجدته قد فرغ شحنه..يجب أن اضعه على الشاحن... لكنني لا اتذكر أين وضعته .. حاولت النهوض للبحث عنه..فلم أستطع.. فيما بعد عندما استيقظ،يمكننى تشغيله ومعاودة الأتصال بها

..لكن ربما اتصلوا من المستشفى لأى سبب..لا يهم..هؤلاء بالذات يستحسن ألا يجدونى..

يبدو أنهم اشترونى من سوق عكاظ.. لكنني لا أذكر متى!

لابد أن النخاس قد وقف يومها  و هو يمسكنى من عضدى العاري ينادي -وهو ادرى بادعاءه:

- إن هذا العبد القوقازى نطاسي بارع.. يستطيع أن يعمل٢٤ساعه فى قسم الطوارئ بلا كلل أو ملل..فاشترانى د/"عشماوى"مدير  المستشفى بدرهمين!

وأخذ وعي يذوب كالآيس كريم خارج المجمد فى منتصف يوليو،و تحول السرير فجأة إلى لجة عميقة من المياه.. سقطت فيها غارقاً فى نوم يشبه الغيبوبة 

*********

فتحت عيني بصعوبة بالغة.. تنبأ بأننى لم أنم إلا دقائق معدودة..و قد تذكرت أننى نمت على الفور دون أن أطمئن على أمى-المريضة بالروماتيد- ..و احتجت أكثر من قوة الإرادة كى انتزع نفسي من الفراش..و أذهب للاطمئنان عليها فى غرفتها..كانت نائمة كالملاك .. وضعت كفى على موضع قلبها الواهن،الذى ينبض بحبي.. نبضة خافتة تؤكد أنه مازال يعمل.. لم يخذلني يوماً هذا القلب..قبلت يدها ..و مفرق شعرها كما اعتدت فى بداية كل صباح

ربتت على وجنتى باحدى يديها.. بينما وضعت يدها الأخرى على قلبي.. فتحت عيني و استغرقت بضع دقائق لاكتشف.. أنها هى التى كانت فى غرفتى تتفقدنى..احتضنت ذراعها،وقبلته ..و غرقت مجدداً فى النعاس 

******************

انتصف النهار دون أن يعثر أحد على"حلمى..و بينما كانت أمه تسير وحدها.بعدما تفرقوا-كما أقترح"عبده"-ليغطوا مساحة أكبر أثناء البحث..خطر ببالها أن تبحث عنه فى مكب النفايات،حيث يعمل..و انتعش الأمل فى قلبها من جديد..كيف لم تفكر أن تبحث عنه هناك؟!..المفترض أن يكون هذا أول مكان تبحث فيه..و بينما هى  تجرى نحو مكب النفايات..لمحت ولداً تعرفه يعمل هناك يدعى"رجب"..نادته بأعلى صوت :

-"رجب".. يا"رجب"..أخوك"حلمى"فين؟

أرتج بدن الولد فى صدمة،و سأل مرتبكاً:

"حلمى"؟..ماله"حلمى"؟!

هتفت أم "حلمى"فى هستيرية:

- مرجعش من أمبارح..أنت متعرفش هوا فين؟

هرب الولد بعينيه تلقائياً..و هو يقول نافياً:

- لأ معرفش.

لطمت  أم "حلمى"وجهها..و تفجرت الدموع من عينيها كالينابيع الحارة،و أخذت تنوح:

- ابنى ضاع يا  ابنى.. ابنى ضاع يا "رجب"!

عندما أقبلت عليهما جرياً فتاة بعمر الخامسة عشر ترتدى سروايل أسود اللون.. و  قميص رجالى أبيض يشوبه أصفرار و قد عقصت شعرها بإيشارب بنى متسخ..دفعت الفتاة الصبي فى منكبه بخشونة..و خاطبته محتدة:

- بقى متعرفش "حلمى"فين يا كداب؟!..و الله لتروحوا جهنم حدف على أنتوا بتعملوه فى الوله ده!

تعلقت  أم "حلمى"بذراع الفتاة و هى تسألها بلهفة:

-يعنى أنتى عارفة ابنى فين؟

- بس يا بت يا"سمنه"أخرسى..مالكيش دعوه أنت!

صاح "رجب"بغضب و هو يحاول أن يضع يده على فمها ليمنعها من الكلام ..لكنها كانت اطول منه بكثير..لهذا قالت له استفزازو هى تزيح يده:

- بس يا أوزعه!..

ثم ألتفتت لأم "حلمى"قائلة فى ثقة:

- تعالي معايا يا خالتى و أنا أدّلك على مكانه

  ***   

  مشت  أم "حلمى"مع الفتاة المجهولة،التى تأبطت ذراعها..وقد هبط عليها شعور مزعج من الغباء و عدم الفهم..و بدأت تشعر أنها تعيش كابوس ملون..لكن هذا لم يمنعها أن تسأل الفتاة:

- لسه بدرى على ما نوصل يا"سمنه"يا بنتى؟

ربتت الفتاة على كفها ،و هى تقول:

- أسمى"عزه"يا خالتى..أبويا الله يرحمه سّمانى "عزه"..لكن لما أشتغلت فى المقلب سمونى "سمنه".

ردت أم "حلمى"فى سقم :

- طيب يا حبيبتى..كده يا "رجب"؟!..هى دى الأمانه يا بنى؟..تشرب أخوك مخدرات؟

رد "رجب"الذى كان يسير خلفهما بخطوة مدافعاً عن نفسه:

- و الله يا خالتى"هيما"و"عبادة"هما اللى عرفوه طريق البرشام..و أنا ياما نصحته ،مفيش فايدة!

بصقت "عزة"على الأرض،و قالت مستنكرة:

- بس أنت اللى عرفته طريق"كهرمان"..روح يا شيخ ربنا ينتقم منكم!

هتف "رجب"منفعلاً:

- هى اللى قالتلى هاته البيت..أنا قولت هتحن عليه بلقمة حلوه،و لا هدمه نضيفه!

أصدرت الفتاة صوتاً قبيحاً من أنفها قبل أن تقول فى أستهجان:

- .......دى وليه جاحده عامله زى أمى،الله لا يكسبها ،لا هى و جوزها ،اللى ربنا يحرقه مطرح ما راح..و بعدين أيه اللى جايبك معانا يا عرة الصحاب أنت..غور ياله أمشى.قالتها و هى تلطم صدره بظهر يدها بقوة ألمته..فأمسك يدها بيسراه..و مد يده اليمنى ليخمش وجهها..كقط غاضب..فتراجعت للوراء حتى لا يصيب وجهها منمق القسمات..بينما يصيح "رجب":

- متمديش أيدك يا بت.. أما و المصحف أكسرهالك !

سحبت "عزة"يدها و لكمته بقبضتيها المضمومتين فى كتفيه بقوة أزاحته خطوة للخلف..و هى تهتف :

- و لا تعرف تعمل حاجه..دانت بق ياله..صدق اللى سماك "بقو"!

قفز "رجب"ليتعلق برقبتها..بينما أمسكت وجهه بقوة بأصابعها العشرة..فصرخت أم "حلمى":

- يا ناس حرام عليكوا..دلونى أبنى فين؟

قالتها و هى تحاول الفصل بين الطفلين دون جدوى وقد أطبق "رجب"على شعر البنت،و أخذ يشده بقوة كأنما يريد خلعه..بينما غرست الأخيرة أسنانها فى كتفه..و سرعان ما سقط الأثنان على الأرض متشابكين فى عراك شرس

                 *****************************

  صاح"رجب"متألما:

- متفرعنة على أيه يا بت ؟!دانت عايشة فى الشارع وسط الزبالة..لا لكى لبيت ولا متوى!

- أنا عايشه فوسط الزبالة..عشان حاجه ما يفهمها العيل اللى زيك!..عشان مرضيتش حد يلمس شعره منى.

هتف "رجب" بغيظ و استنكار:

-و مين عايز يلمس شعرك المعفن ده؟!دا أنا أيدى أتوسّخت لما مسكته!

" جرى أيه يا غجر؟..جايين تتحنقوا قدام بيتى يارمم.. يا ولاد الكلب!"زعقت أمرأة ،على مشارف الأربعين ..و برغم الغضب البادي عليها بدت فاتنة الجمال ..بوجه  أبيض ممتلئ ،و شفتين مكتنزتين مصبوغتين بأحمر شفاه قانى.. كانت"كهرمان"نفسها!

و برغم أنها كانت تكبر أم"حلمى"سناً بما يقارب العشر سنوات..بدت أصغر منها بكثير..أرتمت الأخيرة على أقدام "كهرمان" الناعمة تقبلها و قد تعلقت بطرف عباءتها  السوداء  المطرزة فى توسل:

- أبوس رجلك يا معلمة..رجعيلى أبنى..دا الواد الحنين اللى طلعت بيه من الدنيا!

- أبنك مين يا مره أنت؟..أنتى شيفانى فاتحه حضانه؟!..مين دى يا "بجا"؟و مين البت اللى بتتخانق معاها دى كمان؟!

رد "رجب" الذى قام ،هو و غريمته ينفضان التراب عن ثيابهما:

- دى  أم"حلمى" يا ست الناس..عيل كده شغال نباش معانا..و دى البت "سمنه"اللى حكيتلك عليها!

برقت عينا  "كهرمان" ببريق عجيب،و هى تسأل"عزة"بلهفة ليس لها مبرر:

- أنت "عزة" بقى اللى بيقولوا عليها؟!

سحبت"كهرمان"طرف عباءتها من أم"حلمى"و هى تقول فى غلظة:

- أوعى كده يا وليه!

و مدت يدها تتحسس قسمات وجه"عزة"الوسيم و هى تقول بدهشة حقيقية:

- دانتى زى قمر بجد!..خسارة فى شغل الزباله يابنت الأيه!

أبعدت"عزة"يدها مشمئزة،و هى تصيح فى غضب:

- لأ أوعى أيدك كده يا ست أنت ..أنا مش مطمنالك أساساً!..وديتى الواد فين.. خلينا نخده و نمشي من هنا,

-أزاى بتكلمى المعلمة كده يا بت؟..دى هى اللى بتوكلك عيش!هتف"رجب"و قد أقترب منها كأنه يهم بضربها..لكن "كهرمان" أوقفته بأشارة من يدها..بينما "عزة"تقول فى ثورة:

- مالكش دعوه يا دلدول أنت!..الله الغنى عن دى شغلانه..الأرزاق على الله!..خليها تجيب الوله لأمه..و مش عايزين حاجه منك و لا منها!

- ماشي يا"عزة"..عشان خاطرك بس هسيبكوا تمشوا!..الواد سكة تمان سنين كده؟

هتفت أم "حلمى"فى لهفة:

-أيوه يا ست الناس.

- خشى خديه مالجنينة!

هرعت  أم "حلمى" تعبر البوابة الحديدية،و هى لا تصدق نفسها من الفرحة..فوجدت صغيرها

"حلمى"نائماً يفترش العشب الأخضر..فحملته مسرعة..و ما أن لمسته حتى تشنج جسده النائم فى خوف!..ثم إستكان بين ذراعيها..فأنطلقت تعدو به..و قد نسيت تماماً أمر الصبيين اللذين جاءا معها!

*****

لم أكن أعلم شئياً من هذا كله -و قد نسيت"حلمى"وأمه.-مؤقتاً-.فهو فى النهاية مجرد حالة من مئات الحالات التى نراها-لن أكون مبالغاً-إذا قلت كل يوم..و لو علمت فى وقت مبكر..لكنت أستطعت الربط بين ما جرى ل"حلمى"،و بين"كهرمان"..لكن هذا لايهم الآن!.. فبعد أسبوع حافل بالعمل و مشاكله..أعتقد أن من حقى الحصول على بعض الراحة..فاليوم هو يوم الأثنين ..أجمل أيام الأسبوع!

لهذا أستيقظت الساعة الثانية ..حلقت ذقنى و أغتسلت،و صليت الظهر- الذى فات موعده - و ارتديت ملابسى على عجل-فاليوم موعد زيارتى الأسبوعية لدار"نادين"خطيبتى..طرقت امى باب غرفتى ففتحت بسرعة ، و فوجئت بانها ما زالت بثياب المنزل..

- أيه يا ماما ده؟..لسه ملبستيش..هنتأخر على الناس !

ردت بابتسامة معاتبة:

- مالك؟..براحه شويه..دنيا مش هتطير..ده بدل ما تقول صباح الخير!

قبلت رأسها معتذراً:

- صباح الخير يا حبيبة قلبى.

- يا بكّاش!حبيبة قلبك برضه؟حبيبة قلبك هناك.."نودا"اللى انت خايف تتأخر عليها.

- مفيش فى القلب غيرك  يا"منمن"يا قمر..بس يالا اجهزى بسرعه  الشوارع زحمة..وأحنا دخلين على العصر!

هتفت بدهشة:

- أنت مش هتاكل قبل ما نمشي؟! ..يالا أنا حضرت الغدا.

قلت مستعجلاً:

- مش مهم دلوقت ..أبقى أتغدى هناك عند"نادين".

قالت أمى فى إحباط:

- دأنا مرضتيتش اتغدى من غيرك.

نظرت لساعة الحائط -لا أرادياً-كانت تقترب من الثالثة و النصف*..قلت بضيق:

- معقوله كده يا ماما!..أنت عندك مواعيد علاج يعنى لازم تاكلى كويس و بالمعاد..يعنى تفطرى الصبح بدرى،و تتغدى الضهر..أخر مره تعمليها لو سمحتي!

قالت فى تبرير:

- مانت نايم من أمبارح..لا فطرت ،و لا أتغديت..و قبلها جاى من بره بالليل متأخر..يعنى ممكن متكونش أتعشيت أمبارح كمان..شايف الهدوم وسعت عليك أزاى!

"- أكلت"قاطعتها مسرعاً كأننى أنفى تهمة:

- أكلت سندويتشات فى الطريق و انا جاى من المستشفى..

كان سندويدشاً واحداً فى الحقيقة و متبقياً من الغداء..لكننى لن أخبرها بذلك بالطبع..و السبب أنها قلقة بالفعل بشأن وزنى الذى مازال يتناقص

ثم أضفت بعصبية:

- ممكن متشغليش بالك بيا خالص..رحت جيت نمت أتهببت..مش مهم ..المهم صحتك أنتى

- خلاص يا"مجد"أنا غلطانة..و من هنا و رايح..أعمل اللى تعمله يابنى..مليش دعوة بيك.

قالتها،و هى تنسحب نحو حجرتها..قتلنى الأنكسار البادى فى نبرة صوتها ..فأمسكت يدها،و قبلتها معتذراً

- طيب خلاص متزعليشش ..أنا آسف.. و الله ماعارف كلمتك كده أزاى..كل الحكاية أنى خايف عليكى.

رفعت رأسها فأحطت وجهها بكفي ّو أضفت قبل أن تقاطعنى:

- و عارف والله أنك خايفه عليا ..بس أطمنى..أنا بعرف أدبر أمورى..يالا بقى نتغدى ..عشان البنت اللى حمضت من الركنه دى!

*******

* حسب التوقيت الصيفي الذى كان معمولاً به فى ذلك الوقت

 يتبع

الجزء الثالث توربينيات!

"- أزيى صحتك دلوقت يا مدام"إيمان"..أتمنى تكونى أحسن"سأل عمى"سمير"والد"نادين"والدتى على سبيل الأطمئنان

"أسأل الدكتور بتاعى"قالتها امى  ..و هى تشير نحوى مبتسمة بفخر و إمتنان لم اكن أستحق ربعهما.. تفاجئت،و غمغمت في حرج:

- الحقيقه أنا مقصر ..بس غصباً عني و الله!

ردت بتباسط :

- ليه بتقول كده يا حبيبي ؟.. أنت عمرك ما قصرت معى.

"لأ بجد يا "مجد"يا ابني.. أنت مالك خاسس،و متبهدل كده ؟!"كانت هذه من حماتى العزيزة..كم أمقت ملاحظاتها الدقيقة!

خاصة أمام امى التى سرعان ما التقطت طرف الخيط..

- شوفتى!.. فعلاً خاسس جامد..مش عارفه أيه اللي جراله!

- مالكوا يا جماعه اتلمتوا على الواد كلكم كده ليه؟!كان هذا عمى "سمير"الذي تدخل لإنقاذي في الوقت المناسب..قالها ثم أضاف محاولاً تهدئة قلقهما:

- ممكن يكون بدأ يعمل ريجيم.. ولا رياضه..و بعدين كده احسن على فكره..

و استطرد بعد لحظه:

- و بمناسبة الرياضه..عايز اوريك حاجه!

قالها و قام مسرعاً قبل أن يتثنى لى سؤاله عما يقصد.. فسألت "نادين"مبتسماً:

- هو بابا أشترى دمبل حديد؟! 

ردت"نادين"ضاحكة:

- لأ..حاجه أجمل بكتير!

"- أيه رأيك؟"سأل عمى "سمير"الذى عاد فى تلك اللحظة ..و هو يضع مسدساً مهيب الشكل تحت أنفى!

- أيه ده يا عمى؟سألته متوجساً..فرد بضيق:

- أيه؟..مش باين؟..مسدس!

غمغمت محرجاً:

- مش قصدى!..أقصد حضرتك جبتوه ليه؟!

- أمسكه كده..أمسك.. أنت خايف منه و لا أيه؟!متخفش متأمن.

حملته بيدى و أحسست بثقله..بينما جلس عمى "سمير"بجوارى..قبل أن يضع يده على ركبتى ،و هو يقول بغموض:

- الدنيا مابقتش أمان يا"مجد" يابنى!..سمعت عن التوربينى؟

التوربينى!..و من لم يسمع عنه؟!إن أخبار محاكمته تملأ الجرائد،و كل وسائل الإعلام المرئية منها و المسموعة

أضاف بإنفعال و حماس:

- خلاص دلوقت كل واحد لازم يحمى بيته بنفسه..ولاد الكلب دول ملوا البلد!

*********************

"أنت رجعت البيت؟"سألت"نادين"فى تكاسل

- أيوه لسه واصل..كويس أن الأسنساير أتصلح!

- أمال  مال صوتك متغير كده ليه؟..لسه ضهرك بيوجعك؟

- ساعات.!

قلت فى أقتضاب و غموض،فلم أكن أريد أن أخبرها أننى قد بدأت أتعاطى مسكناً..لأن الألم صار لا يطاق..صحيح أن قد يختفى تماماً-دون مسكن- لفترة قد تصل ليوم كامل..لكن حين يعود يكون شديد الشراسة.

سألت بصوت ناعس:

- ماما صاحية؟

- لأ ..أول ما وصلنا نامت.

صمتت لحظة كأنما تفكر،ثم قالت:

- شكلك لسه زعلان ..معلش.. أنت عارف بابا.

ابتسمت فى مرارة،وقلت:

- المشكلة إنى عارف بابا!..مفتش فى وزارة تموين..لا هوا مسئول سيادي فى الدوله،و لا شغال فى بنك و لا جمرك،ولا حتى شغال فى شركة بترول..يعنى راجل موظف غلبان زينا..ليه بقى باصص على الناس من فوق أوى كده؟!محسسني أنه "أحمد عز"و لا " طلعت مصطفى"!

قالت "نادين"بلهجة مرحة شابها بعض اللوم:

- أحمد ربنا أنه موظف غلبان..لأنه لو كان زى اللى بتقول عليهم دول..مكنش هيوافق يجوّز بنته الوحيدة،لواحد بيقبض مايتين و وأربعين جنيه فى الشهر!

قلت بسرعة:

-الله يحفظ مقامكم العالى يا افندم!..و حضرتك بتقبضى كام على كده؟!..مش  هما المايتين و وأربعين جنيه برضو..و بعدين أيه حكاية بنته الوحيده دى؟..أمال"عمرو"أخوكى ده أيه؟! أتب طلع له فى ضهره؟!

أهتز صوتها بالضحك..و هى تقول:

- و الله شكله باين عليه أتب فعلاً!

- هو كان فين ؟مابنش طول القعدة!سألتها بدهشة،فردت :

-قصدك الخناقة!.. كان عند صحابه..يدوب أنتو مشيتوا من هنا..هوا جه من هنا...قال كان بيذاكر معاهم..هو كدا كدا مش هيعرف يدخل كليه محترمه..ده جايب السنه اللى فاتت 65%..ميدخلهوش حتى كلية  آداب.

صمتت لحظة..قبل أن تضيف:

- بابا أمله الوحيد دلوقت أنه يتقبل فى الكلية الحربية أو الشرطة.

- حربية أيه و  شرطة أيه اللى يتقبل فيها؟!الحاجات دى عايزة وسطه جامده.

قالت بسرعه:

- و الله عارفه يا"مجد"..بس بابا كان محوش حوالى خمسين ألف جنيه..و قال أنه مستعد يدفعهم كلهم..يعنى علشان حد يتوسط له،وكده.

كانت تقصد أن يدفع  رشوة لأحد المسئولين..ليتجاوز ويقبله..كأنه ليس من حقه دخول الكلية التى يريد!.

قلت بفتور:

- آه طبعاً!

ردت مبررة موقف أبيها:

- أنت عارف..مفيش حاجه بتمشى إلا بالطريقه دى ..أنت مش عايش فى البلد ولا أيه؟!

- البلد!و هى دى بلد؟!..المفارقة الكومدية أن  كلمة مصر معناها  البلد!..و مع ذلك حاسس أنها  مجرد سجن جدرانه ضيقة ..خانقة.

- عارفه يا"نادين"؟.. أنا لولا ماما ملهاش غيرى، كنت هاجرت فى أى داهيه!

-ياه !دانت باين عليك مضايق أوى..كل ده عشان بابا قال كلمتين على أطفال الشوارع؟!سألت"نادين"مستغربة..فقلت بسرعة:

- لا والله..أنتى عارفه أنى بحب عم"سمير"زى بابا الله يرحمه بالظبط..الموضوع حاجه تانيه خالص!

- فاكره اليوم اللى قلتلك فيه إنى خدت shiftزياده..فى اليوم ده أنا نسيت أمضى فى الدفترعلى الshiftالتانى..و أفتكرت تانى يوم.

سألت "نادين" بإهتمام:

- و بعدين؟..عملت أيه؟

- رحت ل"محسن"قلت له و بعد محايله وافق يطلعلي الدفتر..و قال لى أنه ممكن يتأذى هو و"نور"   لو حصل لعب فى الدفتر..بس عشان هوا واثق فيا طلعلي الدفتر..شكرته طبعاً..و لما جيت أمضى لاقيت فيه حد ماضي بدالي!

- تقصد ماضيلك؟!

قلت نافياً :

- لأ..لقيت أسم الدكتورة"مريهان أدهم"!

- "مريهان"ماضيه بدالك؟ليه؟!

قلت بثقة..مش ماضيه بداليي بس..ده فيه حد ماضي لها كمان!

سألت فى عجب:

- و عرفت منين أن حد تانى اللى ماضي؟!

- الخط ده خط راجل..الصوابع دى مش صوابع "مريهان".

ردت "نادين"بغيظ:

- مركّز انت مع صوابعها؟!

قلت بنفاد صبر:

- مش وقته يا"نادين"!..

قلت كذبااً-لأهدئها-:

-أنا أساساً معرفش أن معانا دكتوره فى المستشفى أسمها "مريهان"..أرتحتي؟!..كل اللى أقصده أنه مش خط واحده ست..

سألت ببنرة أكثرهدوءاً:

- و ناوى تعمل أيه؟

- ناوي أخرب بيتها هى و اللى مضى لها طبعاً!

***********************

فى الصباح التالى ذهبت لمكتب دكتور"مصطفى حسنين"النائب الأداري لأخبره بشكوكى ..دون أن أخبره أن"محسن"أطلعني على دفتر الحضور و الإنصراف طبعاً - فهى مخالفة إدارية جسيمة-ستعرضه للجزاء..و قبل أن أصل لبداية الطرقة المؤدية لمكتبه ..خرجت طبيبة شابة من باب مكتبه..كانت د/"مريهان"التى تلفتت حولها تستطلع إن كان أحدهم قد رأها ..بعدها أخذت تسوى هندامها المهوش،وخصلات شعرها المبعثرة..ثم أخرجت المرآة من حقيبتها الأنيقة،و بدأت تضع طبقة أحمر شفاه جديدة..بدلاً من تلك التى لعقها سيادة النائب الأداري المحترم من على شفتيها! 

جمدتنى الصدمة فى مكانى لبضع ثوان كالمشلول..أنت يا د"مصطفى"!

كنت أتوقع شيئاً كهذا من "مريهان" فهى تبدو كفتاة لعوب..لكن من يتوقع أن يصدر هذا الفعل من ذلك الطبيب الخمسيني الوقور ذي الصلعة اللامعة!

أنتزعتنى  دقة كعبها العالى من شرودى..و هى تمشى بسرعة تقترب من الهروالة..و أحتلت أنفى رائحة عطرها الفغم قبل أن تصتدم بى بصورة بدت عفوية

- آه..أنا أسفه يا دكتور..خبطت فيك من غير ماقصد!

تعثرت الحروف فى حلقى فغمغمت بصوت غير مفهوم..قبل أن تضيف هى بابتسامة مرحة و براءة الأطفال فى عينيها:

- صباح الخير يا دكتور؟!..أنا قولت لك أنا أسفه..سمعتنى؟!

قلت فى فتور:

- صباح!

أرتفع حاجبها فى دهشة..ثم سألت بانزعاج و قد بدأت تشك أننى رأيتها  و هى تغادر مكتب الأخير:

- هو فيه حاجه؟!..قصدى أنت جاي عايز د/ "مصطفى"فى حاجه؟

حدجت في وجهها بنظرة ثابته زادتها ضيقاً ..و وضعت يداى فى جيوب الباطو  ،قبل أن أقول ببرود و تعالى :

- مش دلوقت ..خلاص مش مهم..هابقى أعدى عليه وقت تانى!

******************

داعبت رأس الصبى الممسك بقطعة شوكولاتة كبيرة..و هو جالساً على السرير الذى يتشاركه مع أحد المرضى.. سألته متظاهراً بالجزع:

-  أيه ده ؟..هوا فيه حد بيجيب لك شيكولاته غيرى و لا ايه ؟ 

رد"حلمى"مبتسماً بسعادة..حين رأني:

- دكتورة جميلة زيك!

- أنت عارف.. مفيش حد  بيقول لى أنى جميل غير أتنين..أنت و ماما!

تحول وجه الصبى فجأة وبدا موشكاً على البكاء

- لأ..ليه زعلت كده فجأة؟..أنت بقيت كويس خالص و الله!

قال فى أسف:

- زعلان عشان تعبت أمى أوى الفتره اللي فاتت..و أنا و الله كان نفسي اريحها!

ضحكت متعجباً من قوله..و قلت مداعباً:

- دا أنت غلبان  قوي!..يا ابنى دا انا لسه تاعب ماما لغاية دلوقت!

ضحك من كلامى..فسألته متظاهراً بالضيق:

- و بعدين كل دى شيكولاتايه!..اديك العقلة إللى أنا أجيبها ازاي دلوقت ؟!

خطف قطعة الشيكولاتة من يدى فى لهفة المحروم..و قبل أن يفتحها..قلت له:

"- يلا يا بطل أقلع عشان أكشف عليك"قلتها ،ومددت يدى لأساعده على خلع ملابسه..رد يدى بكلتا يديه فى ممانعة

- أنت  مكسوف؟..طيب لو سمحت يا حاج دوّر وشك الناحيه التانيه على ماكشف على الراجل ده!

أدار الرجل العجوز وجهه ناحية الحائط..دون أن يتفوه بكلمة.

 تركنى"حلمى"أساعده على خلع رداءه..ثم تمدد على السرير محرجاً من عريه..سألته مداعباً أثناء الفحص:

- هتدينى حتة لما تفتح الشيكولاته؟

فقال بسرعة:

-لأ!

- لأ؟!..مكنتش أعرف أنك بخيل كده!..خلاص يا عم بالهنا و الشفا..بس أفطر الأول قبل ما تاكلها..نام على جنبك

نام الصبى على جنبه،و هو يقول:

-  أنا مش هفتحها أصلاً..علشان لما أروح البيت أقسمها مع العيال.

قلت أمازحه:

- ما شاء الله!..أغيب عليك يومين..أرجع ألاقيك خلفت!

قال و هو يضحك متعجباً من سذاجتى:

- خلفت أيه يا دكتور..أنا قصدى على العيال أخواتى.".بطه" و "شوشو" و" محروس" و" النونا".

هتفت فى ذكاء:

- النونا دى أصغر واحده فى أخواتك طبعاً!..و"نونا"دا أسمها الحقيقي؟..نام على بطنك بقى!

نام على بطنه،و هو يجيب:

-لأ .. أسمها"الحقيقي.كوكب".

قلت بدهشة،..بينما كنت أفحص شرجه:

- ياه..دى النونا بتاعتكوا دى..كبيره أوى !

-كبيرة أزاي؟..دى قد كده!

رد "حلمى"ضاحكاً فى عجب و هو يشير بيديه ممثلاً حجمها.

- خلاص أتعدل!

كنت فى تلك اللحظة قد أنهيت الفحص..و قد و جدت شكى فى محله للأسف!

جلس يرتدى ملابسه..بينما كنت أفكر فى حجم تلك المصيبة..فبرغم أننى توقعت شيئاً كهذا منذ البداية..لكن صدمة الإكتشاف

جعلت عقلى يشل.. لماذا لم يخبرنى د"نعمان"بالأمر؟هل يعقل ألا يكن قد لاحظ؟!

أنتزعنى من خواطرى صوت نسائي يصيح: 

"د"مجد"عايزينك"!..كانت"قمر" الممرضة تهتف بلهفه كأنها عثرت على ناقتها التى ضاعت منها فى الصحراء

سألتها مندهشاً:

- مين اللى عايزنى بالظبط؟!

*****************************

"  الدكتور"مجد خالد سعيد"برجاء برجاء التوجه إلى مكتب الدكتور "مصطفى حسنين"للأهمية"

تردد النداء فى أروقة المستشفى..عبر مكبر صوت يشبه المستخدم فى الموقف فتقلصت احشائى فى رعب!

- ترى ماذا يريد؟!.. هل أخبرته الدكتورة"مريهان"بما حدث بيننا؟

..و شعرت فى قرارة نفسى بالندم!..لماذا تركتها تعلم أننى علمت؟!

فقد فقدت الرغبة فى البحث عن سبب ما حدث تلك الليلة..بسبب ما رأيته منذ قليل.

ثم عدت أطمئن نفسى أنه ربما استدعانى لسبب آخر..خاصة أنه لم يكد يمضى أكثر من ساعة ،على ذلك الموقف الذي ليس له داع..

فى هذ ه اللحظة كنت قد وصلت لمكتب د/"مصطفى..ترددت لحظة قبل أن أطرق الباب 

- أدخل.

-"صباح الخير يا دكتور" قلت فى وجل ..فتفحصنى بنظرة مزدرية قبل ان يقول بغضب مكبوت،و هو يجز على أسنانه:

-صباح..الخير!

بداية غير مبشرة!

نظفت حلقى بسعلة قصيرة..قبل أن يقول د/"مصطفى": 

- قالولى إنك عايزنى..خير؟

أهلاً!..يبدو أن "سالومى"الصغيرة تعرف أسمى!

ملكة المستشفى المتوجة التى يحلم الجميع بأن تلقى عليهم تحيه الصباح..قد ذكرتنى بالأسم عن سيدها..يال حظى الحسن!

حاولت الكلام فتحشرج صوتى بسعلة أخرى!

قلت محرجاً:

- آسف..

رد ببسمة هازئة:

- سلامتك..أيه مالك؟..عيان؟!

قلت بصوت متحشرج:

- لا أبداً..مرتبك شويه بس..فى الحقيقه جيت لحضرتك من شويه عشان موضوع..بس بعد كده فكرت أنه مش مهم..فمشيت!

- و أيه الموضوع على كده ؟!

تنحنحت و قلت فى حرج ناظراً لطرف حذائى:

- من يومين كنت سهران فى الطوارئ..و لما خلصت شغلى و قبل ما أروح..فوجئت بيهم بيبلغونى إن عندى shitتانى..و بعدين اكتشفت انه كان شغل حد تانى!

صمت لحظة كأنه يزن كل كلمة قلتها..قبل أن يضيف ببطء:

- و أنت مضايق علشان شيلت شغل زميلك اللى غاب يومها.

ضايقتنى كلمة"زميلى" ..و تذكرت أسم الدكتورة"مريهان" المكتوب بخط يده فى دفتر الحضور..فقلت باندفاع:

- ضايقني إنى أشتغل شغل مش بتاعي..و بعدين كانت زميله مزوغه مش زميل غايب !..

لم أكد أكمل عبارتى حتى ندمت على التنويه بمعرفتى بأننى كنت بديل"مريهان"بالتحديد و ليس أحد غيرها!

بدوت كأننى أقول له ..أنت من قمت  باستغلال سلطتك و سخرتنى للعمل.. من أجل إمرأة أنت فى علاقة غرامية معها..

و بدت كلماتى كتهديد واضح وصريح!

بدا متفاجئاً ،و صمت يفكر للحظة قبل أن يقول متائنياً:

- يعنى أنت متضايق من شغل الطوارئ..طيب أيه رأيك؟..من بكره هتنزل عنبر الحروق..محتاجين دكاتره هناك!

"- تمام يا دكتور!"قلتها فى إحباط،و هززت رأسى بقبول المضطر..فقسم الحروق هو أسوء قسم فى المستشفى كلها..و كل من يعمل هناك يطلب النقل بعد أيام..لكننى مستعداً للعمل فى أى مكان..بشرط أن ينتهى هذا الموقف السخيف.

- أي خدمة تانيه؟

سألنى بابتسامة صفراء..و الطلب على طرف لسانى..ممكن ارجع الطوارئ؟!

لكننى احتجت لمجهود جبار..كى أرد عليه بابتسامة أكثر اصفراراً من ابتسامته..قلت:

- لا شكرا!

***********

"سامو عليكو آتكتور"

يا فتاح يا عليم!

توقفت عن الكتابة..و رفعت رأسى لأرى من القادم..مفكراً فى كيفية رد هذا السلام الذى يبدو أقرب للسباب..كان"حماده"لهذا قلت بتنهيدة متعبة:

- و عليكم!

سأل الأخير،و هو يفرك كفيه فى قلق:

- شكلك أضايقت لما شوفتنى؟

 قلت دون أن أتوقف عن الكتابة:

- لا أبداً..ها.. فين الحرق اللى جاي تعالجه؟

رد فى فزع:

- حرق أيه أ تكتور؟.. فال الله و لا فالك!..مانا قدامك زى الجن أهو!

مد رقبته ليتطلع من فوق كتفى على ما أكتب..قبل أن يقول:

- خطك حلو أوى أ تكتور..هو أنت بتكتب أيه؟!

"- مش شغلك!"سددت كلمتى كقطعة فلين لتسد حلقه..لكنه قال فى سماجة:

- هه!..ماشي أتكتور.. مشكرين!

قلت ببرود:

- العفو..أى خدمه!

سأل بدهشة:

- مالك أتكتور؟..كلامك واقف كده!

نحيت ما أكتبه و سألته بنفاد صبر:

- أنت جاي عايز أيه دلوقت؟

قال بسرعة:

- عايز أتبرع بدمى.

كأنه يتبرع بالمجان!

و الحقيقة أنه يبيع دمه مقابل خمسين جنيه،وعلبة عصير..و هو ثمن بخس- برأيي -حتى مقابل دمه المليئ بالبانجو و حبوب الباركينول المهلوسة الشهيرة ببرشام الصراصير!

سألته فى سخط :

- و أنا مالى يا ابنى ؟.. مرحتش المعمل ليه؟

يتبع

الجزء الرابع  لكمة خطافية!

أضفت و قد بدأ الصداع يضرب عينى اليسرى:

- و بعدين أنت مش لسه متبرع من أسبوعين؟!

رد بسرعة:

- ماهوا أستاذ"نبيل"بتاع المعمل قال كده برضوا!

..سألته متألماً:

- أستاذ"نبيل"مين؟!..قصدك د"ميخائيل"؟

- الله ينور عليك!..هوا تكتور"نبيل"..قال ما ينفعش .. 

قلت مؤمناً على كلامه:

- عنده حق..لازم فتره..شهرين على الأقل. قبل ما تفكر تتبرع تاني.

هتف مستنكراً:

- حتى أنت أتكتور ؟مشيها أنت الله يرضى عليك...محتاج فلوس.متعملش زى أستاذ"نبيل"!

قامت وقفت بجواره واضعاً كفى على كتفه..وقلت بصبر:

- أولاً أنا مليش دخل بالمضوع ده خالص..ده تخصص د"ميخائيل"..ثانياً أسمه  د"ميخائيل منير"..ماسموش"نبيل" ..و مش أستاذ على فكرة..ده دكتور..و ما دام قال مايتفعش تتبرع.. يبقى ما ينفعش!

سأل بخيبة أمل:

- يعنى مش محتاجين دم دوقتى!

سوقته ناحية الباب..ثم أشرت إلى النافذة العريضة فى منتصف الرواق..و قلت له بضيق: 

- شايف الشباك الكبير اللى مفتوح هناك ده..لو عايز تنتحر..روح أرمي نفسك منه..عشان أنتا عندك انيميا أساساً.. لو سابتك تتبرع بدمك هتموت هنا حالاً!

أصفر وجهه فى خوف..لكنه عاد يلح:

- طب أعمل أيه دوقت..مزونق أتكتور و المصحف..

فركت وجهى بكفى فى ضيق..قلت:

- أطلع بره يا"حماده"!

أضاف فى توسل:

- طب عكش خمسين جند سلف.

كان يقصد خمسين جنيه سلفاً..لكن لم يكن لدي فائض مال أو حتى رغبة فى أقرضه ..خاصة أنه سيشترى بما سيأخذ مخدرات على الأرجح..لهذا قلت فى أصرار:

- أطلع بره!

و ما أن أستدار خارجاً من الباب حتى هرعت إلى حقيبتى أبحث عن شريط المسكّن..كان فارغاً بالكامل..رغم أننى كنت متأكداً من أن به حبتين حين وضعته فى الحقيبة!

أفرغت محتويات الحقيبة على المكتب فى فزع مجنون..فبالكاد أستطعت تمالك نفسى أمام"حماده..كيف سأقضى بقية اليوم بذلك الألم..تناثرت محتويات الحقيبة على المكتب و الأرض..بحثت بعناية عن حبة المسكن دون جدوى بين أغراضى المبعثرة..و ركعت بجوار المكتب لأبحث عنها..ربما تدحرجت على الأرض..عندما شعرت بالحبة تسحق تحت ركبتى..يال الكارثة!

كيف سأتصرف الآن؟!

ليتنى لم أطرد"حماده"..ربما كانت معه حبة ترامادول!

**************************************************

"ممكن أعرف أيه اللى أنت عملته ده بالظبط"قالها د"أحمد"الذى أقتحم عنبر الحروق كالعاصفة..قمت من مكاني بسرعة،و قلت بصوت خفيض:

- أهدى لو سمحت..فيه عيانيين محتاجين الراحه!

لكنه صاح فى غضب:

- أنت متقوليش أهدى..ليك عين كمان تتكلم!

لم أكن أعلم عما يتحدث بالضبط..لكن..هل يعقل أن يكون قد رأنى، و أنا أجرى خلف "حماده"فى الرواق؟!..

- أنا جايلك من البيت مخصوص!..أمبارح أفتكرتك مُت..و النهارده أعرف أنك جاي المستشفى الساعه سبعه..طبعاً نايم طول الليل..أمال أيه؟..مش فيه حمار سهران بدالك!..بسببك مارحتش الكليه النهارده..مع أنه اليوم الوحيد اللى كان ينفع أروحه!

ارتسمت على شفتي ابتسامه خفيفة..قلت فى نفسى:

يا عينى!.. أنت من أخذت shift السنيورا بالأمس..لهذا أنت غاضب؟

الحمد لله.. ظننتك رأيتنى أخذ حبة الفراولة-من "حماده"!

"حماده"!..ترى هل غادر المستشفى؟

هرعت نحو النافذة التى تطل على مدخل المستشفى..أبحث بعينى عن ذاك الوغد..آملاً فى أن يكون قد رحل دون أن يلتقى بدكتور"نعمان"..ربما أفلت لسانه بشئ أمامه

- ممكن أعرف بتبص على أيه؟!سأل د"أحمد"بسخط حين رأني أنظر من النافذه

قلت ببساطة:

- بشوف عربية البطاطا لسه راكنه تحت..و لا حد خدهاّ! 

سأل بدهشة وضيق مستنكراً:

- عربية بطاطا أيه؟!..أنت بتقول أيه بالظبط؟!

ألتفت إليه،و قلت:

- ما هو حضرتك محسسني أنك الوحيد اللي مشغول هنا..و أنا باجي المستشفى أبيع بطاطا!..عموماً يا دكتور  آسف لحضرتك..عشان معرفتش تحضر النهارده فى الكليه..برغم إن ده مش ذنبى!

عقد ذراعيه أمام صدره..و سأل بإستنكار:

- و الله !..أمال ذنب مين؟!..مش أنت اللى غبت فى shift الطوارئ بتاعتك أمبارح؟!

قلت نافياً بضيق:

- لأ مغبتش..!..علشان أتنقلت من الطوارئ  أمبارح...و نزلت عنبر الحروق!

سأل بجفاء:

- طيب و أسمك بيعمل أيه فى جدول السهر؟!أنا قريته بنفسي!

سألته فى حيرة و قلق:

- جدول أيه؟..وفينه الجدول ده ؟!

رد بسرعة:

- عند د"مصطفى"فى مكتبه! 

لكمة فى الوجه!

و رن فى أذنى جرس أنتهاء الجولة الأولى !

أنهاها د"مصطفى"بلكمة خطافية غير متوقعة..

 لم أكن أعلم أنه يجيد الملاكمة!

 أختار د"أحمد" بالذات..و -هو- أكثر أهمية  من أن يكون بديلاً لى..كى يصيبه بالجنون..

كأنه-د"مصطفى"-أراد أن يسند باب غرفته بحجر..فلما لم يجده..أسند الباب بالميكروسوب! 

غادر د"أحمد" المكان-بعد أن فرغ شحنه العاطفى- و هو يتمتم ساخطاً:

- ما هى ناقصه  قرفك  أنت كمان!

ابتلعت أهانته التى لم أجد رداً مناسباً عليها..و قد تسمرت مكانى لدقيقة كاملة أنظر ناحية الباب الذى خرج منه للتو..ثم ذهبت لأتفقد مريضاً يتململ فى فراشه

- لسه نايم!

-بسم الله الرحمن الرحيم!

..ألتفت ورائى فوجدت د"طارق"زميلى فى عنبر الحروق جالساً فى ركن قصي..يقرأ رواية  من روايات الرعب..كأنه لا يكفيه كل هذا الرعب الذى يملأ المكان حولنا!

..متى جاء هذا؟!..ربما دخل بينما كنت مشغولاً بالشجار مع د"أحمد"

أضاف بهدوء مرعب، دون أن يرفع عينه عن كتابه ذى الغلاف البشع:

- آخد حقنة مورفين عشان يعرف ينام..معظم مصابين الحروق مابيناموش من غير المسكنات!

كيف رأنى من وراء كتابه الذى يشبه الكومود؟!..و لماذا لم يتدخل حتى بكلمة ليفض الإشتباك الذى وقع منذ قليل؟!

الحق إنه لإنسان غريب..غريب!

*****************

"لفت نظر..و عنبر حروق فى يوم واحد!"قلتها"نادين"بإستغراب..بينما كنا نسير فى الطرقة بين العيادات..

- هو أيه اللى بيحصل معاك بالظبط؟!

تذكرت المقلب الذى دبره لى د"مصطفى"..و كرمه الحاتمي فى عدم مجازاتى على غيابي عن سهرة الطوارئ-التى لم أخُبر بها -و أكتفى بلفت النظر..حين قال:

- أنا قلت هتنزل عنبر الحروق من بكره..فحضرتك مصدقت..و سبت الshift بتاعك و روحت!..كان المفروض تراجع الجدول الأول!

قلت لها:

- أصلاً اللخبطه كلها حصلت بسبب النقل..بس دى غلطتى..كان المفروض أراجع الجدول علشان متحصلش غلطه زي اللى حصلت دى!

توقفت"نادين"و عقدت ذراعيها أمام صدرها..و سألت بضيق:

- و الله!..و فينه الجدول ده إن شاء الله؟!..مش المفروض يتعلق؟

قلت مدافعاً دون سبب:

- ما هو الجدول كل شويه بيتغير!

نظرت لى بشك..قبل أن تسأل:

- و أيه حكاية خناقتك مع د"أحمد"؟..أزاي يروح يزعق و يهلل وسط العيانين؟

ما أسرع إأنتقال الأخبار فى هذا المكان!

- ..د"أحمد" معذور برضو فاللى عمله..مناقشة الPh بتاعته قربت..و كان محتاج يراجعها مع د"صفاء"..بس أنا من غير مأقصد ،بوظتله كل حاجه!

تطلعت لى فى حيرة..قبل أن يقول بإندهاش:

- ماشي يا حضرة الملاك!..على كده مديقتش لما جه يزعق معاك؟

-أتضايقت طبعاً..بس عارفه ايه إللى هيجيبلي جلطة قريّب ..و احتمال أتشل بسببه..د"طارق"زميلي فى عنبر الحروق!

ضيقت عينيها محاولة تذكر الأسم..سألت:

- د"طارق"مين؟ ثم  أضافت هاتفة و قد تذكرته :

- "طارق"اللى دقنه خفيفة ده،يدوب منبته و عنده شعر أبيض فى دقنه..اللى شكله مكتئب ده؟!..عمل ليك أيه دا كمان؟!

- كئبنى والله !..النهارده ساعة ما د"أحمد"جه واتخانق معايا..و كان فضل شويه ،و نضرب بعض.. بعد ما مشي..مش عارف ليه بصيت ورايا ..فلقيت الأستاذ قاعد فى ركن..كأنه مش شايفنا..بيقرا قصة رعب..و لا على باله حاجه..كأنه فى كوكب تانى!

علقت ضاحكة:

- حاجه غريبه أوى فعلاً! ..و عملت ايه فى موضوع "مريهان"؟

- مالها"مريهان"؟!سألتها فى دهشة..كأننى نسيت الأمر برمته..ثم صحت بعجب مدعياً التذكر:

-آه.. الموضوع ده طلع بلح!

- طلع بلح ازاي يعني؟!

سألت فى دهشة فأجبت بضيق متحاشياً النظر في عينيها

- يعني طلعت غلطان يا"نادين"!

ثم اضفت بنبرة اهدئ:

- كنت مصور الجدول كذا صوره..و لما راجعت الصور..اكتشفت إن الخانه إللى فيها أسم د"مريهان" فى shift طوارئ تانى..في اليوم إللى قبلي.

سلطت عينيها الواسعتين..كأنها كشافات معسكر نازي تمسح المكان بحثاً عن فدائي فرنسي يتسلل..و قالت في شك:

 -شكلك مش طبيعي.. أنت عرفت حاجه كده..و بتحاول تخبيها!

نظرت بعينيها محاولاً تحمل وهجها..و قلت منهياً الحوار:

- أخبي أيه ؟..أصلاً مفيش حاجه عشان أخبيها..انا عمري خبيت عليكي حاجه؟!..حتى لو حاولت مش هاعرف!

ثم أردف محاولاً تشتيتها: 

- شوفتي"حلمى"؟

ردت بسرعة:

- أنا مش بس شوفته..دانا بعدي أطمئن عليه كل يوم..ده ولد زي العسل!و بيحب الشيكولاته موت!..هوا مش المفروض كان يخرج يوم الأربع اللي فات؟

- آه فعلاً..بس د"نعمان"مدد إقامته كمان أسبوع..اعتقد إن ده ليه علاقه باللي اكتشفته إمبارح!

- طب و هوا أيه إللى حصل إمبارح؟!

قلت في جديه:

-إمبارح..حصل حاجه كده خلتني أفتكر كلام عمي"سمير"عن "التوربيني"و اطفال الشوارع..

كنت أقصد ما حدث بين"مريهان" ود"مصطفى" في مكتب الأخير..لكننى لم اصرح لها بهذا حفاظاً على سمعة أستاذي

- بالإضافه لإنى كنت شاكك مالأول..إنه حصل على"حلمى"حالة إعتداء جنسي..فعملتله فحص ..و طلع شكي في محله للأسف!..و إنه فعلاً تم اغتصابه..خمس مرات على الأقل!

اتسعت عينيها في رعب..و سألت مصدومة:

- تقصد ايه؟!قصدك إنه لسه فيه"توربيني"تانى..متساب بيغتصب الأطفال في الشوراع؟!

- المره  دي"توربينه"..مش"توربينى"!..لأن إللى اغتصب "حلمى"واحده ست!

********************

"واحده ست؟!..أزاى يعني؟!"سألت"نادين"بإندهاش وصل منتهاه ..فقلت بثقة:

- مش أى واحده ست..دى case!..عندها 

Pedophilic disorder وsexual sadism بدرجه كبيره..واضح إنها أتعرضت لsadistic rape فى فترة طفولتها!

هتفت"نادين"بدهشة و إنفعال :

ـ يا سلام!..و عرفت منين كل الحاجات دى يا عبقري؟!

هززت كتفي فى إستهانة..قلت:

- من الفحص..فيه على جسمه خدوش و كدمات،و love bites..و.....

قاطعتنى بضجر:

- دا على أساس إننا عايشين فى النمسا!هنا الناس بتضرب ولادها عادى!..مش ممكن تكون أمه هى اللى ضرباه و عضّاه،و مفيش love bites،و لا إغتصاب و لا حاجه!

قلت أسايرها:

- معاكي..فعلاً فيه أهل بيضربوا أولادهم بوحشيه..و فيه حالات بتيجي المستشفى بإصابات أحياناً بسيطة،و أحياناً كسور و شروخ عظام..و شوفت عضات كتير كمان فى أماكن غريبة..تخيلي مره واحده عضت أبنها من دماغه!..بس مستحيل أم تعض أبنها فى المكان ده!

عضت"نادين"على شفتها فى حرج ،و سألت قد تورد خدها بحمرة الخجل:

- ليه هي عضّاه فين؟!

تجاهلت الرد على سؤالها منعاً للإحراج،و قلت:

-ده بإضافة لتوسع عضلة الشرج..وده بيحصل بس...

قاطعتنى بسرعة:

- متنساش أنه مدمن تارمادول..و دا أعراضه الإنسحابيه بتعمل ساعات أسهال شديد..و لو سلّمنا أنه أتعرض لأغتصاب فعلاً فى منطقة الanal..المنطقى يكون المعتدى راجل..أيه اللى مخليك مصمم إن المعتدى أنثى!

قلت بإندفاع:

- فى طرق كتير للأعتدءات الجنسية ..ممكن باستخدام عصايه أوsex toys..لكن المؤكد إن العض و الشراسه دى وراها female..أنثى فى قمة الشبق..غالباً سنها بين التلاتين للأربعين..و زارعه تركيبة أسنان بورسلين جميله جداً..تحفه!

نظرت لى بذهول،و عدم تصديق..ثم قالت بإستهزاء:

- آه طبعاً..مانا نسيت إنى هتجوز شرلوك هولمز!..خبير المعمل الجنائي ..لأ و خبير خطوط كمان..بأمارة صوابع الست"مريهان"!

قالت عبارة الأخيرة بغيرة واضحة!

كانت تُلمح لفشلى المزعوم،فى معرفة خط يد الآنسة "مريهان"..

آه لو عرفت الحقيقة يا صديقتى!

إبتسمت -رغماً عنى-لغيرتها عليً..سألتها بدهشة،و سرور لم أفلح فى أخفائه:

- أنتى غيرانه يا دكتوره!

ردت مستنكره بضيق:

- أنا أغير!..ليه؟ هوا أنتا فاكره أحلى مني؟ّ!

- و الله أنا مش فاكرها أصلاً،و لا شايفها من أساسه!.لما الشمس بتطلع كل الكواكب بتختفى!قلت مهدئاً..فردت بابسامة خجلى جعلتنى أذوب حرفياً.. قالت و قد تورد خداها:

- يا سلام!

قلت فى هيام:

- أنتى ما سمعتيش نزار قبانى ،و هوا بيقول:

أنا لا أفكر..

أن أقاوم ، أو أثور على هواك..

فأنا وكل قصائدي..

من بعض ما صنعت يداك..

إن الغرابة كلها..

أني محاطٌ بالنساء..

ولا أرى أحداً سواك..

قالت و قد ازداد تورد خداها بحمرة محببة:

- كذاب أوى !..بس عجبنى ردك الصراحه..المره دي براءه!

****************

أخذت أشق طريقي بين الزحام بصعوبة..برغم أننا مازلنا فى بداية يوم العمل..لكن المختلف هذه المرة أن الجمع المتزاحم يتكون من عدد كبير من الأطباء و الممرضين.

سألت "محسن" الممرض الذى كان يتصعب،و يضرب كفاً بكف بصوت مرتفع ليتمكن من سماعي:

- أيه؟ في أيه يا"محسن"؟..أنتوا عاملين إضراب و لا أيه؟

هتف ،و هو يتشبت بذراعاي فى لهفة:

- د"مجد"..شوفت اللى حصل!..د"نعمان"ود"عشري"المدير،بيتخانقوا من الصبح..و محدش عارف يسلكلهم من بعض!

د"نعمان"يتشاجر مع د"عشماوي"!

- و ليه بيتخانقوا؟..هو أيه اللى حصل؟!سألت بدهشة..ليجيب "محسن":

- أصل د"عشري"طرد عيل كان بيتعالج مع د"نعمان"!

لم يخطر ببالي أنه يقصد"حلمى"..فكلمة "عيل"،هذه تطلق فى مصر على  فئة عمرية تمتد من سني العمر الأولى حتى بداية مرحلة البلوغ 

سألته:

- و ليه المدير طرد الولد ده؟

- هوا مش طرده طرده ..هوا الواد ده كان المفروض يمشى الأسبوع اللي فات..بس د"نعمان"مامشهوش!

فى تلك اللحظة و بينما كنت أتوغل فى قلب الزحام., سمعت د"عشماوى"يصيح:

- أنت تحترم نفسك لما تكلم معايا!..عشان أنت مش محترم!

لم أتخيل أن أسمع مثل هذه الكلمات توجه لدكتور"نعمان"في أي يوم من الأيام!

- أنت اللى معندش ضمير..صدق اللي سماك"عشماوى"!..أزاي ترمى طفل زي كده فى الشارع يا مفتري؟

"حلمى"!

ألتفت ورائي لأسأل "محسن"عن اسم ذلك الطفل فلم أجده!..ذاب وسط الزحام..

- كل اللي فى المستشفى مسمينك "عشماوى" علشان .......و مفيش فى قلبك رحمه!

-أحترم نفسك بقولك و بلاش سفالة!..متنساش أنك بتكلم مدير المستشفى!

- يا عم روح...........!

يعنى ايه مدير يعنى!.. هترفدنى؟!..أنا اللى هاقدم أستقالتى فى الوزارة بكره الصبح ..عشان ميشرفنيش أشتغل مع شوية ولاد........حراميه زيكوا!

- د"صلاح"!هتفت منادياً فالتفت:

- متعرفش الولد اللى أنطرد ده أسمه أيه؟

نظر لى بدهشة ممزوجة بالغيظ.و لسان حاله يقول-هل هذا كل ما يهمك؟!.. قال بإنزعاج.:

- لأ يا دكتور معرفش!

- طيب متعرفشي مشى أمتى؟!

تجاهل الرد علي تماماً..فقط رماني بنظرة مشمئزة و أنصرف!..عندما شعرت بكف عملاق يوضع على كتفي من الخلف..قال صاحبه -الذى لا أعرف أسمه-فى أسف:

- مشى أمبارح العصر يا دكتور!

سألته فى لهفة:

- و عرفت راح فين؟

- تعالى أوريك راح فين..

أمسك بكفى ،وأخرجنى من وسط الزحام ، بجذبة واحدة..فوجدت نفسى واقفاً أمام عملاق بالكاد أصل إلى مستوى كتفه..قال بحزن:

-  أنا اللى شيلته أمبارح و وديته مكان بعيد عن المستشفى!..بس أعمل أيه؟..حكم القوى عالضعيف!

***************

"- ألو..د"طارق"أنا"مجد"ممكن تعملي أجازه عارضه؟"سألت د/"طارق"زميلي بعنبر الحروق على الهاتف..فرد بصوت مشوش:

- ......"مجد"أ....فين؟....الدنيا مقلو....كتا......عالى بسرعه!

- مش فاهم أنت بتقول أيه يا دكتور..أنا أجازه النهارده..عندى ظروف قهريه،و مش هقدر آجي..أنت سامعنى يا دكتور؟

- أيوا..صوت كدا أحسن..كنت بتقول أيه؟سأل د"طارق"الذى يبدو أنه أنتقل بجوار النافذة لأن صوته صار أوضح..،بينما الرجل العملاق يبتعد قاصداً المكان الذي ترك فيه"حلمى"-و قد تركني خلفه-قلت فى عجلة:

- أعمل لي أجازه عارضه..سلام دلوقت يا دكتور! أغلقت الهاتف،و وضعته فى جيبي ،و أنا أجد السير خلف مرافقي الضخم،منادياً

- يا عم أنت أستنى ..رايح فين؟يا عم!

توقف مكانه،و التفت إلي ّبعد عدة نداءات..وصلته بعد أن أنقطعت أنفاسى من الهرولة خلفه..سألته فى سخط: 

-هوا أنت جريت روحت فين؟ أحنا مش ماشين مع بعض؟!.. لسه كتير على ما نوصل؟

لم يرد..فقدرت أنه قد تبقى يومين حتى نصل!

يبدو أنه كان يتعامل مع الولد على أنه قطاً يريد تسريبه..

تباً لك يا"عشماوى!

"و الله يا دكتور الواد ده قطعّ قلبى بعياطه،و هو بيقولّي أنه مش عايز يمشى من المستشفى غير لما أمه تيجي تاخده"

قالها الممرض العملاق،ذو الرأس الحليق الذى لا يتناسب حجمه مع حجم جسمه شديد الضخامة..و و على وجهه علامات إنكسار لا تليق بقوته العاتية..أضاف و هو ينظر للأرض فى خجل:

- لولا أنو عندى سبع عيال..كنت خدته البيت عندى!

 سبعة أطفال!..يبدو هذا عدداً قليلاً لينجبه هذا الهرقل!

يا رب كل ما اتمناه أن أنجب طفلاً واحدا أو طفلين..لن أكون طماعاً.. و لا أريد إرهاق ميزانية الدولة..!

لا أدرى لما خطرت لى خاطرة الغريبة الآن..و برغم أن مرافقي ظل يتكلم طوال الطريق لكننى لم  أسمع أى شئ مما يقول ..فقط كنت أشعر بطنين قوى فى أذنى..و بثقل غريب فى جسمى،كأنما أمشى فى قاع البحر ..عندما قال فجأة بعد  نصف ساعة من المشى الشبيه بالهرولة:

- هنا!

نظرت إلى المكان الذى وصلنا إليه تحت كوبرى مزدحم تمر السيارات من كل مكان فيه! 

  أخذت أتلفت حولي فى حيرة باحثاً بعينى عن"حلمى"بين المارة..بعض أطفال يبيعون المناديل الورقية للعابرين..و أخرون ينامون على الرصيف وسط القمامة..و انتابنى اليأس..و ازداد شعوري بالمرض..عندما لمحت مجموعة من الأطفال يستنشقون صمغ الأحذية الشهير ب"الكلة" من كيس..ربما كان"حلمى"بينهم !

أسرعت نحوهم محاولاً أجتياز حارة مخصصة لعبور السيارات..عندما دوى بوق مزعج لسيارة ميكروباص

- حاسب يا دكتور!

صاح مرافقى عندما صرت فجأة معلقاً فى الهواء ..فقد خطفنى بذراعه الشبيه برافعة الونش من أمام السيارة..لو تأخر دقيقة لكنت تحت عجلاتها الآن!..

و انتابنى شعور مفاجئ بالغثيان..فتقيئت على مؤخرة السيارة ..بينما سائقها يسبنى ساخطاً:

- أيه ده يا حمار !..شاربين أيه عالصبح الله يخرب بيوتكم!

 يتبع

                             

الجزء الخامس قوانين الضرب!

"خلاص يا بنتى ماشيه!"سألت أم"حلمى"عزة"و هى تفطر معها هى و أطفالها الخمسة ..قبل أن تضيف فى أسى:

- مش عارفه ليه مصممه تسبينا؟!..ما تخليك قاعده  معانا!

- هاتى حتة فلافل يا بت الجزمه!

ردت"عزة"معتذرة:

- يا ريت ينفع يا خالتى..أنتو عيشتكوا يدوب على القد..و مش ناقصين حد يجي يزاحمكوا!

- أخص عليكي يا بت يا"عزة"!..دانتى الحمل منك ريش..و احنا هنتقل منك يعني؟!..و النبى دانتى بقيتى فى غلاوة عيالى !

- معلش يا خالتى..خليني على راحتى..أصل أنا أتعود على البراح..هابقى مرتاحه لو رجعت المقلب..و بعدين أنا خايفه من الواد اللى أسمه"بيجو"ده..سارح ورايا فى الرايحه و الجايه..مش عارفه عايز مني أيه؟!

نظرت لها"فاطمة"شذراً..قبل أن تمسك يد"محروس"،و هى تقول زاجرة:

-بس متخلّصشي المخلل كله يا فجعان!

شهقت أم"حلمى"فى جزع:

- الله يخيبه البعيد أكتر ماهو خايب!..دا أمه بتدعي عليه دعا يوقع الطير من عالشجر..ربنا يجعله من حده و نصيبه قادر يا كريم!

قامت"فاطمة"غضبى..فسألتها أمها فى دهشة:

- ماكملتيش أكلك ليه يا "بطه"؟!

ردت"فاطمة"محتدة:

- و هما عيالك خلوا حاجه تتاكل!..و بعدين مالك أنتى ب"بيجو"؟..بتدعى عليه ليه يا وليه؟!..مش كفايه أمه اللى تتشك فى لسانها!

هتفت أم"حلمى"بدهشة غاضبة:

- ألهى تتشكى فى قلبك أنتى و هو، فساعه واحده!.. أيه اللى عاجبك فيه الصدمان الندمان ده؟!

صاحت"كوكب"باكية فى نفس اللحظة..فهتفت أمها فى غيظ:

- بتعيطى ليه أنتى كمان؟!

- "حلمى" قرصنى .. جنبى!

ربتت"عزة"على كتفها،و قالت مهدئة:

- متزعليش من"بطه"يا خالتى..دى لسه عيلّه صغيره مش فاهمه حاجه!

- سبنالك الفهم يا ست العاقلين..أنتى أتحدفتى علينا من أنهى داهيه؟!..و أيه اللى مقعدك معانا..ماتغورى بقى..هى المشرحه ناقصه قتلى! 

 قالتها"بطه"بغل:شديد..و خرجت..بينما أمها تهتف فى أثرها:

- آه يا بت الصرمه!..أصبرى عليا يا......دانا هقطّع لحمك يا واطيه يا بت......!

- متأخذنيش يا"عزة"يا بنتى..دى عيله مطيوره!..أمسحيها فيا انا..أصلها موعوده له من ساعة ما كانت فى اللفه!قالتها أم"حلمى"معتذرة ل"عزة" ..قبل أن تضيف سائلة بدهشة:

- هوا أنتى مش قولتى أن جوز أمك مات؟..مينفعش ترجعى أسكندريه عند أمك؟

سرحت "عزة"لحظة ،و بدت كأنما تذكرت شيئاً جعلها تعض على نواجذها قهراً.. قالت و قد أمتلئت عينيها بالدموع:

- مش هينفع يا أم"حلمى" ..أمى بلغت عنى البوليس..و أتهمتنى إن أنا اللى قتلت جوزها! 

*************

"هوا حد يعرف عنوان بيت د"نعمان"؟"

سألت بعض الزملاء بينما كنت أتناول بعض البسكويت على سبيل الإفطار..فأجاب د"رامى"بسؤال مندهش:

- ليه بيته؟..لو عايزه.. روحله قسم الباطنة!

سألته بدهشة لا تقل عن دهشته:

- هوا جه النهارده؟!

رد مبتسما:

- أيوا يا ابنى عادى..أيه إللى هيخليه ميجيش؟!

قلت بسرعة:

- سمعت إنه قدم استقالته!

"هوا مين ده إللى جايبين فى سيرته عالصبح يا دكاترة؟!"

ألتفت مندهشاً لصاحب الصوت..كان الدكتور"نعمان"بنفسه!

"صباح الخير يا دكتور"

نظر لى برعب كأنما رأى شبحا ! 

حدجنى بنظرة غضبى..ثم قال بصوت آمر:

- تعالى ورايا!

تبعته فى صمت متوجس..متسائلاً فى نفسى عن سر غضبه مني..

- فطرت؟سألنى دون أن يلتفت أو يتوقف عن المشى..فأجبت محاولاً ابتلاع البسكويت الذى تحول لأسمنت سريع التصلب فى فمى:

- بافطر!

رماني بنظرة حارقة،و سأل مستنكراً:

- بتفطر بسكويت؟!

كان من العسير أن أشرح له.. إننى إن ذهبت للعمل دون إفطار سأظل دون طعام حتى أعود إلى المنزل..وقد أحتضر جوعاً قبل أن أنسى منظر الحروق و الغيارات الملوثة بالقيح و الصديد..فمن المفترض أننى طبيب ،و معتاد على رؤية هذا.. لكن من سيقنع معدتى بهذا الكلام!

- أنت كنت فين أمبارح؟!أتبع سؤاله بسؤال قبل أن أتمكن من الرد على سؤاله الأول..قلت مرتبكاً:

- كنت...

و صمتّ محتاراً فيما يجب أن أقول ..فقد تأخرت عن موعد العمل ثلاث ساعات قضيتهما فى البحث عن"حلمى"وإعادته لبيته.. لا أعتقد أن هذا سيعجبه!

سأل مستنكراً:

- أيه؟..نسيت كنت فين أمبارح؟!

- لأ..بس.....!

رد فى ملل:

- خلاص مش مهم!..بس ما تبقاش تعمل كده تاني..عارف إن مكافأة الإمتياز ملاليم..بس لو اتعرف إنك بتسيب شغلك..و تروح  نابطشياتprivate.......و لم يكمل كلامه الذى فهمت فحواه 

- تخيل بقى رهبان العلم اللى ماليين المستشفى و فكرنكوا أصنام خشب لا بتاكل و لا بتشرب هيعلموا فيك أيه ؟! 

قالها بسخرية حزينة قبل أن يضاف بضيق:

- لأ و أنتا رايح تخطب!.. مش عارف ليه مستعجل على الخطوبه و الجواز!..أدينا اتجوزنا وخلفنا.. خدنا أيه؟!

استغربت كم هو دانياً من مشاكلنا إلى هذا الحد..فقد كان -بإستثناء موضوع الزواج- يتكلم بلسانى و لسان أغلب إن لم يكن كل الأطباء الشبان.. و وجدتنى أسأل نفسى بدهشة لماذا لم يقبل هذا الرجل المحترم بمنصب مدير المستشفى؟!..كان ليكون الحال افضل على يديه

كنا قد وصلنا إلى المعمل،الذى أمتد أمام بابه طابور لا ينتهي من المرضى ..أجتازهم د"نعمان"فأفسحوا له المجال إحتراماً لمعطفه الأبيض،و الشيب الذى وخط فوديه..و تبعته بلا إعتراض

- صباح الخير يا "شوقى".

- صباح النور يا دكتور!هتف د"شوقى" بحماس:

- أيه الزياره الجميله دي!..أى خدمه أقدر أقدمها لحضرتك؟

رد د"نعمان"و هو ينظر نحوى:

- زميلك د"مجد"كان محتاج شوية تحاليل..

عاد ينظر ل د"شوقى"..و قال آمراً:

- يا ريت تخلصلي التحاليل بتاعته أول حاجة.

قالها و ظل يكتب التحاليل المطلوبة بسرعة على ورقة وجدها على مكتب د"شوقى"

 يا خبر أسود!

سأتأخر!..لقد أفلت من براثن د"مصطفى"بالأمس  بسبب الربكة التى حدثت، وبركة دعاء الوالدين فقط..لكن لن تسلم الجرة فى كل مرة!

- أيه؟فيه عند حضرتك إعتراض!..

رددت على سؤاله الساخر بهمهمة غير مفهومة..فأضاف زاعقاً:

- معلش ماهو كان لازم أسحبك من أيدك زي العيل الصغير..عشان لما قولتك روح حلل من تلت أيام نفضتلي،و مروحتش!..مش بتقولوها كده يا دكتور و لا أيه؟!

تدفق الدم فى أذناي إحراجاً ..يبدو أننى صرت "ملطشة"المستشفى..لا يكد يمضى وقت حد يأتى أحدهم ليصرخ فى وجهى!

و ما زاد شعورى بالإرتباك و الحرج ،ان يحدث هذا أمام كل هذا الحشد من المرضى،الذين بدا عليهم الإستمتاع..عندما أضاف د"نعمان"فى لوم غاضب:

- مانت لو شايف نفسك شكلك بقيت عامل أزاى..و خسيت قد أيه.. كنت أتخضيت!

- بس يا دكتور....!حاولت الإحتجاج،فقاطعنى  واضعاً أصبعه على فمه ينهانى عن الكلام:

- هس! ..و لا كلمه!..أنت تقعد هنا،و تعمل اللى أقولك عليه!قالها و دفعنى لأسقط جالساً على الكرسي الوحيد الموجود بالمعمل..فأسرع  د"شوقى"يغرس محقنه فى ذراعى الذى شمرته فى خضوع،ليسحب عينة دم..

- ميطلعش من هنا ..قبل ما تعمل له كل التحاليل اللازمه..وجه كلامه ل د"شوقى"ثم أضاف منذراً قبل أن ينصرف

- يا أما هاعرف شغلى معاكم أنتوا الأتنين..مفهوم!

********

تمتم  د"شوقى" ساخطاً و هو يسحب الدم :

-هوا  يطرقعله ..يجي يفش غلًه فينا.. و أحنا مالنا أحنا!

كان يقصد د"عشماوى" المدير و مشاجرته مع د"نعمان"!

ضايقتنى لهجته المتبجحة..لكننى لم أعلق-حتى لا أُتهم بالنفاق- ..فسأل:

-  أيه رأيك فى إللي حصل أمبارح؟

قلت متصنعاً البله :

- و هو أيه اللى حصل؟!

هتف فى دهشة و هو يسحب المحقن:

- حمد الله على السلامه!..و أنت كنت مسافر و لا حاجه؟!..أزاى متعرفش؟..يعنى محضرتش الخناقة إللى كانت لرب السما..بلاش..د"نادين"محكتلكش؟!

أضاف محاولاً أثارة فضولى:

- مش عايز تعرف مين إللى كانوا بيتخانقوا؟..و اتخانقوا ليه؟

تثائبت فى ملل..و قمت من على الكرسي متوجهاً لباب الخروج قائلاً:

- مادام "نادين"عارفه هابقى أسألها!

قفز أمامى وألصق ورقة التحاليل بوجهى حتى لامست أنفى..و هو يسأل مستنكراً:

- رايح فين يا بويا؟!.. التحاليل دي هاعملها لمين؟..لأمي؟!

أخذت منه الورقة و طالعتها سريعاً..صفرت بفمى بدهشة:

-الله أكبر..كل دى تحاليل.. لا يا عم دا جاي على بيات..و أنا عندى شغل مش هينفع!.. هابقى أعدي عليك بعدين!

-  بعدين أيه الله يخرب بيتك!..متدبسنيش مع د"نعمان".

- خلاص يا"شوقى بلا رخامه!..د"مصطفى"مستنيلي على غلطة..لو أتأخرت هيخرب بيتى!

طويت الورقة و وضعتها فى كفه..و هو يهتف بإنفعال:

- و د"نعمان" هيعلقنى أنا!..و أنت كمان..و لا نسيت قال أيه؟!

لم أعره إلتفاتاً و خرجت و هو يصيح فى أثرى:

-أستنى يا زفت رايح فين؟..يا د"مجد"؟..أنت يالا!

*******

فى الصباح التالى-وكان يوم الأجازة- أستيقظت عازماً على  عدم تناول المسكن..و هى الفكرة التى تراودنى منذ أول يوم لى فى عنبر الحروق..خاصة حين تكلم د"طارق عن المورفين"و وجدت نفسى أفكر -رغماًعنى-فى تلك المادة السحرية!

..و ما جعلنى أشعر بخطورة الموقف..  أننى لم أعد أفكر فى شئ  و على  مدار يوم كامل سوى فى حقن نفسى بالمورفين! 

لم ينقذنى سوى مراقبة د"طارق"اللصيقة- بحكم أننا نعمل فى نفس المكان-..فلو تركنى وحدى مع المورفين من كان يدرى؟!

و حين أويت للفراش مبكراً فى تلك الليلة،و ما أن أغمضت عينى حتى رأيتنى بعين الخيال ..واقعاً فى فخ المورفين لا أستطيع أن أعيش دون الحقنة اللعينة..و بدأت أرتجف ذعراً!

تشاغلت بممارسة هوايتى برسم الخط الديوانى..محاولاً نسيان مخاوف و هواجس الليلة الماضية ..و ما أن مر بضع دقائق..حتى رن هاتفي.. كانت"نادين"المتصلة..وضعت السماعة فى أذنى..قلت :

- صباح الخير..لسه كنت بفكر فيكي!

"أنا زعلانه منك!"قالتها"نادين"بصوت شهى..لسبباً ما بدا صوتها جميلاً جداً..فابتسمت..قلت أراضيها:

طب أنا آسف!

سألت فى دهشة:

- كده من غير ما تعرف ليه؟!

قلت مواصلاً رسم الخط بسهولة ولّدها المران الطويل:

- مقدرش أزعل القمر!..ها..زعلانه ليه يا ستي؟

صمتت  برهة متفاجئة..ثم قالت:

- واضح إن مزاجك رايق النهارده!..بس برضو أيه اللى أنت عملته أمبارح ده؟!

يبدو أننى أغضبت الجميع بالأمس! 

- ليه مكملتش التحاليل بتاعتك..حرام عليك يا"مجد"..لو مش خايف على نفسك ..أحنا كلنا خايفين و قلقنين عليك و عايزين نطمن!

- متكبريش الموضوع يا"نودى"..الحكايه مش مستهله!..أنتى عارفه إن ظروفى مكعبله فى الشغل شويه..و د"مصطفى"واقفلي على الواحده.

هتفت فى إنفعال:

- هوا الموضوع كبير لوحده!..يا ابنى دا انت خسيت النص الكام أسبوع اللى فاتوا دول..لدرجة إن هدومك كلها وسعت عليك

 جداً..و بقيت تلبس حاجات باباك الله يرحمه!

- و بعدين د"نعمان"كده هيزعل منك..مش كفايه إنك أختفيت يوم خناقته مع د"عشماوى"كل اللى فى المستشقى كانوا واقفين ،و أنت 

ما شافش وشك غير تانى يوم..و بالصدفه كمان!

قلت بسخرية:

- آه ..كانوا واقفين بيتفرجوا..لو حد فيهم كان عايز يسلك ما بينهم..مكنش وقف ساكت..بس كله كان جاي يتفرج على خناقة الديناصورات..الديبلودوكس (Diplodocus)آكل العشب ضد التيراكس( terax)آكل اللحوم!

قالت"نادين"بلوم:

- و أنت مدّخلتش ليه؟..سبتهم يتخنقوا عادى..و روحت تدور على"حلمى"و ياريتك لقيته!

- لقيته!..هتفت بسرعة..قبل أن أضيف:

- لقيته..و روحته بيته..و أظن ده اللى  د"نعمان"كان هيعمله لو كانت ظروفه تسمح..

هتفت بدهشة مستنكرة:

- ما قولتليش بعنى؟!..كل اللى قولته أنك ملقتهوش ،فى المكان اللى الممرض سابه فيه!

فطنت فى دهشة لإننى لم أحكى لها باقى الحكاية..لهذا قلت بسرعة:

- بصى يا ستى...

********

بينما كنا عائدين للمستشفى..جذبنى الممرض العملاق-الذى عرفت أن أسمه "عبّود"من ذراعى جذبة مؤلمة..فسحبت ذراعى من يده صائحاً فى غيظ:

- نزل أيدك..أنت عايز أيه؟..مش كفايه اللى أنت عملته؟!

فى هذه اللحظة كنت مستعداً للشجار- رغم تفوقه الجسدى الواضح-لكنه صاح بفرحة غامرة:

- الواد هناك أهه يا دكتور!

نظرت حيث أشار فوجدت"حلمى"يتهادى على الجانب الآخر من الطريق المزدحم بالسيارات..أسرعت أجتاز السيارات محاذراً أن تصدمنى أحداها،و أنا ألوح بذراعى..طالباً تقليل السرعة..بينما أبواق السيارات تدوى منذرة بالويل..فى أغرب منظر قد يراه المرء فى الثامنة صباحاً..رجل يرتدى معطف طبيب..يحاول المرور من بين السيارات..يركض خلفه ممرض عملاق بزى التمريض الأزرق..لابد أن الإنطباع العام عنا..هو ممرض يحاول إعادة مريض عقلى ..متنكر بزى طبيب..هارب من مستشفى العباسية!

- حلمى!..صحت منادياً بأعلى صوتى..فألتفت الولد الذى جذبته الضجة..ابتسم حين رأنى أقترب..قبل أن تختفى ابتسامته..ويطلق ساقيه للريح..لم أفهم لما يهرب منى..إلا عندما رأيت "عبّود"يركض قادماً من ورائى..تخطنى بوثبة واحدة..لينقض على الصبى المرعوب،ليمسكه من قذاله كأنه يصطاد أرنب..بينما الأخير يحاول التملص منه فى رعب.

********

-"حلمى"!..أنت رجعت؟.. يا ألف نهار أبيض!

هتفت سيدة  سمراء ،متغضنة الوجه ،قد تساقطت أغلب أسنانها..من قاطنى المنطقة العشوائية..التى تسكن فيها أسرة"حلمى"..حين رأته يسير بيننا..سألت بحيرة:

- مين دول يا وله يا"حلمى"؟!

رد "حلمى"الممسك بيدى..و هويشير إليّ:

- ده دكتور"مجد"اللى كان بيعالجنى فى المستشفى..و ده.....

عمو زفت!قلتها فى سري ..حين صمت"حلمى"محتاراً،لا يدرى بما يقدم "عبود".

- يا حلوه يا ولاد!هما فى المستشفيات بيوصلوا العيانين لبيوتهم اليومين دول؟!هتفت السيدة  الخمسينية مبدية دهشتها من منظر موكبنا العجيب-ومعها حق-قلت فى نفسى ..بل يلقونهم فى الشارع فى الواقع!

توجهت للسيدة المخيفة سائلاً:

- لو سمحتى يا ستي.هى الست أم"حلمى"فين؟

- أم"حلمى"راحت الشغل هى و "بطه"بنتها الكبيره يا ضنايا!

ثم أضافت قبل أن أسأل:

- مش هيرجعوا قبل المغرب لو هتسأل!قالتها و هى تسحب الولد من يدي:

- خلي"حلمى" معايا على ما يرجعوا.

تمسكت بيده الصغيرة رافضاً تركه..فلم أكن أعرف تلك السيدة..و لا أدرى هل يجب أن أتركه معها..خاصة أن أمه قد أغلقت الباب على أخويه الصغيرين..لم تتركهما مع جارتها تلك.

قطع"عبود"حبل أفكارى هامساً:

- يا دكتور!

-أيه؟.. عايز أيه؟!

- أنا باقول نسيبهولها..و هى تتصرف مع أمه..لو أستنيناها ممكن مترضاش تخده!

ألتفت أنظر إليه فى دهشة..فأضاف شارحاً:

- أصل أمه من ساعة ما جبته المستشفى من عشرتيام ماجتيش  تسأل عليه،و لا تشوفه..شكلها مش عايزاه!

همست من بين أسنانى بغل:

- و لسه فاكر تقول لى دلوقت!

سألت"حلمى"متشككاً فى كلام الثور الأدمى الذى يصاحبنا:

- هى أمك ماجتش تزورك،من ساعة ما دخلت المستشفى؟!

أبتلع الصبى ريقه متوتراً،و قد بدأ يشعر بأن شيئاً ما ليس على ما يرام ..قبل أن يهز رأسه مؤمناً على كلام"عبود"

الله يخرب بيتك على بيت أمك!

عندما فكرت سريعاً فيما يجب عمله.. لم تعد فكرة تركه مع تلك الجارة التى لا أعرفها، سيئة إلى هذا الحد..تبدو عجوز طيبة..و لا أعتقد أنها تلتهم الأطفال!

- طيب يا ست....

- أم"بيجو" يا خويا..عندى أسم الله "بيجو"من دورك كده..قالت المرأة بسرعة..قبل أن تصيح متعجبة و هى تنظر ورائي:

- أستنى كده !..أهى أم"حلمى رجعت هى و "بطه"

"-دانتى وليه ظالمه ..منك لله يا بعيده"هتفت"بطه"،و هى تلوم أمها فى حنق..قبل أن تضيف ساخطة:

- أدينا أتمشورنا رايح جاي على قلة فايده!

- يعنى و أنا كنت هاعرف منين إن الست مش فى البيت يا بنتى!

- كل ده عشان كام ملطوش!..قالتها البنت قبل أن يتبدل حالها فجأة لتصيح فى فرح وهى تجرى نحو"حلمى":

- "حلمى" رجع يامه!..أخويا رجع يا"تهانى"!

************************

- بس يا ستي.. بعدها الست دخلتنا..و حكتلى الحكايه كلها مالأول..بعدها مفيش دقايق لقيت د"طارق"بيتصل..بيقولّى أرجع المستشفى حالاً!

قال لى إنه مضى بدالي فدفتر الحضور..قلته له ليه يا دكتور تعمل كده؟!..كنت أعملها أجازه عارضه!..فلقيته بيقولى بهدوئه الشديد المعروف عنه..ماكنش ينفع..الأجازات ممنوعه..مفيش أجازات  لا عارضه و لا غيره..حرام عليك يا أخى ..هوا أنت عايز د"عشماوى" يجي يولع فعنبر الحروق بالدكاتره و العيانين اللى فيه؟!..فاضطريت أرجع جري!

 قالت"نادين"فى تفهم:

- علشان كده مبسوط..بس اللى أنا مش فهماه ..أزاى الست دى تسيب أبنها فى المستشفى؟،و متحولش و لا مره تتطمن عليه؟!

رددت عليها بسرعة:

- هو دا بالظبط اللى كنت بفكر فيه لغاية ما شفت الأوضه اللى هما عايشين فيها..أوضة أيه؟!..دى عشه!..عايشين فيها هما السته..تخيلي أمه كانت ربطاه  بجنزير حديد -قبل ما تجيبه المستشفى-علشان ما يخرجش !

- تعرفي أول مالأطفال الصغيرين شافوا"حلمى"راجع ..خافوا يقربوا منه..عارفه ليه؟..علشان حاول يشنق أخوه بالجنزير..علشان يخلى أمه تسيبه يجيب pills

شهقت"نادين"متقاجئة..قلت مصدومة:

- للدرجه دى!

- أمه لحقته يومها قبل ما يموت..تصورى الجنزير لسه سايب أثر واضح على رقبة الولد!..علشان كده كانت خايفه إنها ترجعه البيت.

سألت"نادين"فى إستغراب:

- يعنى هى كانت فاكره إن ابنها هيعيش فى المستشفى بقية عمره؟!

-معاكى إنها غلطانه..بس أنتى متعرفيش كم المعاناة اللى وصلها لكده.. الفقر و المعيشه الصعبه بتعطل التفكير..ساعات بتحول الناس لوحوش..يمكن أنسب تلخيص للموقف كله..بيت شعر للشاعر حافظ إبراهيم..بيقول فيه:

لو سألوك عن قلبي ومـا قاسى
فقل قاسى وقل قاسى وقل قاسى

أستدركت"نادين":

- آه بمناسبة القسوه..شوفت د"عونى"عمل أيه أمبارح؟!

- أيوا طبعاً..المستشفى كلها بتتكلم عن الست اللى ضربها بالقلم على وشها..و الله ما هساتغرب لو لقيتها طلعت فى نشرة تسعه اللى بتيجي عالتلفزيون!

هتفت"نادين"فى غيظ:

- ما هي تستاهل برضو يا"مجد"..الست جايه لابسه drass لونه أحمر مستفز..و شايه أبنها يا حبيبى ريحتو طالعه..و هدومه حاجه تقرف..ده غير ريحة اللبخه اللى حطاها عليه علشان عنه overtemp-درجة حرارته40-..و برغم إن توأمه مات و هيا بتعلجه بنفس الطريقة..بره مصره على اللبخه،و التخلف ده!

- طيب معاكى.. هى مش فاهمه حاجه..و جت المستشفى علشان ننقذ الطفل..نقوم نضربها!..أكيد مش ده الحل.. ده لو حصل فى مستشفى محترمه كان اللى عمل كده بعتوه ماشي لقمر من أقمار المشترى !

ردت"نادين ضاحكة:

- تلاقيه أشتغل فى الطوارئ كتير!.. شوف بقاله كام سنه بيضرب..كوّن خبره كويسه فى الملاكمه ،و  قال يضرب هو المره دى!

- بتضحكى؟!سألت مستغرباً..فأجابت:

- أعمل أيه؟.. بضحك غلب و الله!..بيقولوا الرياضه غالب و مغلوب..دلوقت المستشفيات الحكومى بقيت ضارب و مضروب!

أضافت"نادين"كأنما تذكرت شيئاً فجأة:

 - بس عارف أغرب حاجه مش مصدقها؟..أنك رحت وصلت "حلمى"و قعدت و حكيت..و عرفت قصة حياته..و رجعت المستشفى تانى..كل ده فى ساعتين..و من غير ما حد يلاحظ غيابك حتى!

أثار كلامها أستغربى..كيف لم ألاحظ هذا القدر الهائل من حسن الحظ،الذى رافقنى فى ذلك اليوم؟!..أننى حين أتأمل الآن ما حدث..أشعر أنها كرامة تقترب من كرامات الأولياء الصالحين!

..لكن لم تكن تلك الحادثة الفريدة هى الوحيدة، التى حدثت لى بينما كنت أحاول مساعدة تلك الأسرة البائسة... 

*يتبع*

الجزء السادس أرزاق!


بعد ثلاثة أو أربعة أيام عرجت على منزل"حلمى"قبل أن أذهب للمستشفى..ففوجئت بأخته"شهندة"الشهيرة ب"شوشو"تبكى بصوت مرتفع ،و حرقة شديدة..سألتها مغتاظاً-من بكائها المستفز-:

- أيه مالك؟..بتعيطى ليه؟!

مسحت مخاطها بيدها،و قالت بكأبة:

- لا و لا حاجه!..أنت جاي ل"حلمى"؟

يا بنت ال...!..منعت نفسى قهراً من تهشيم رأسها، بزجاجة البيرة الفارغة التى ألقاها أحدهم هناك بجوار ذلك الجدار الأسود العطن..فسيكونن تفسير ذلك بعدها-لأمها-عسيراً بعض الشئ!..

قلت فى جفاء:

- كل العياط ده عشان و لا حاجه؟!..أيوا يا ستى جاي أطمن على "حلمى"..

تقدمتنى متجهة لعشتهم،كأنها تمشى إلى المقصلة..و قد أستعادت mode البكاء..و أخذت دموعها تهطل بسخاء..حتى ظننت أنها ستترك خلفها خيطاً من البلل !

يال المصيبة!

ماذا ستقول أمها حين تراها تبكى بهذا الشكل؟..بينما أتبعها كخروف أبله..!

على الأغلب ستظننى حاولت التحرش بها..لهذا تركتها تسبقنى ببعض خطوات..و قد أحكمت قبضتى على سير الحقيبة التى أحملها على كتفى،فربما أحتجت للركض بعد قليل!

و صدق ظنى فقد دوت صرخة حادة..و قبل أن أقفل راجعاً من حيث أتيت..سمعت أم "حلمى"تصيح:

- ضيعتيها فين يا موكوسه؟!

***

ركضت باتجاه البكاء و الصريخ..فوجدت أم "حلمى"تعجن البنت الواقعة على الأرض بين قدميها ..و هى تصيح فيها:

- اللهى تتشلي يا بعيده!..ضيعتي الخمسه جنيه فين ياللى تتجني؟!

"- أستهدي بالله يا ستى!..البنت هتموت فأيدك".قلت محاولاً تخليص البنت من بين يديها..بينما هى تصيح غاضبة:

- تموت و لا تطلع روحها.. أشرب نارك يا"شوشو"يا رب..أخد عزاكى عن قريب قادر يا كريم!

حاولت البنت الفرار من أمامها زحفاً ،على يديها و ركبتيها..فهوت الأخيرة براحتيها المفرودتين على ظهر الطفلة بضربة قاصمة..فتكومت مكانها صارخة باكية..بينما أمها تصيح فى غل:

- الفلوس دى أنقطم ضهرى أنا و أختك بيهم ياللى تتعمى..تقومى تضيعيهم زى الجاموسه!

- ميصحش يا ستى كده!..خلاص هندور عليهم و نلاقيهم قلت محاولاً تهدئتها،فصاحت البنت البلهاء من بين دموعها:

- أنا دوّرت فى كل حته..و ملقتهموش!

- طبعاً تلاقى حد لقاهم و خدهم..مش زي خيبتك!

قالتها الأم الغاضبة محاولة الفتك بالبنت التى أختبئت وراء ظهرى..فحجزتها منها صائحاً:

- ندوّر تانى!.. أنتى بس سمى الله..و إنشاء الله نلاقيها.

هدئت قليلاً و بدأت تبحث فى الأرض حولنا..أخرجت من جيبى خمسة جنيهات مهترئة،و وضعتها على الأرض.بينما كنت ألتقطت حقيبتى التى سقطت على الأرض أثناء المعركة ..و ما أن قمت حتى صاحت "شهندة"بفرح،و هى تنظر تحت قدمى:

- لقيت عشرين جنيه!

تحسست الورقة الراقدة فى جيبى فى شك..فقد كان معى خمسة و عشرين جنيه-أول عن آخر-و يبدو أننى أسقطت العشرين بدلاً من الخمسة!

أجر سهرة أمس بطوارئ المستشفى الثانيه ضاع بسبب غلطة غبية

..نظرت للعشرين جنيه فى يدها متحسراً بصمت..مجهود تسع ساعات سهر و حرقة أعصاب ضاع فى نصف دقيقة!

خطفت أم "حلمى"العملة من يد البنت التى أتسعت أبتسامتها-من الأذن للأذن-و هى-الأم-تهتف بسعادة-:

- وشك حلو يا دكتور..أنا عمرى مالقيت فى الحته دى ربع جنيه مخروم!

***

"معك عشره ساغ!"سألنى د"محمد".بينما كنت أنوى شراء البسكويت للأفطار..بحثت فى جيبى فلم أجد أى عملات معدنية..

سامحك الله يا أم "حلمى"!..بسببك لم يعد معى نقود-بإستثناء خمسة جنيهات- حتى آخر الشهر

قلت معتذراً-و أنا أوصل البحث عن الخمسة جنيهات فى الجيب الواسع:

-و الله يا دكتور ما معايا غير الخمس...متيين جنيه دى!

..أكملت جملتى فى حيرة وعجب ...،مطالعاً العملة التى خرجت من جيبى بإندهاش:

ورقة بمائتي جنيه جديدة كأنها خرجت للتو من المطبعة!

من أين جاءت؟!

فلم أكن حتى هذه اللحظة قد لمست بيدى تلك العملة التى تم أصدارها هذا العام*

برقت عينا د"محمد"زميلى حسداً..و هو ينظر للعملة الجديدة فى يدى..قبل أن يقطع عم"جمعة"عامل المقصف أفكارى بهتافه:

"- يا دى النيله!..أنت كمان ما معكش فكه؟!"،نظر لى شذراً قبل أن يضيف فى ضيق:

- يعنى ما حدش فيكو يجمد و يشترى بخمسه جنيه حتى،عشان أفكلك المتيين جنيه دى؟!..إلا واحد عايز يصرف جنيه و التانى عايز يصرف نص!..أمال أخر الشهر هتعملوا أيه؟!

- خلاص يا دكاتره يبقى لى و اللى عن الله ما يروحش!

***

كنت ذاهباً إلى عنبر الحروق،و على يدى علبة البسكويت التى أضطررت لشرائها بأثناعشر جنيهاً-أكثر من بدل التغذية- من عم "جمعة"-حتى لا يتهمنى بالبخل-عندما

قالت دكتورة"مريهان"بصوت عذب ،و ابتسامة لطيفة:

"صباح الخير"

لم أرد..فقد ظننتها تحدث شخصاً آخراً..لكنها أضافت بابتسامة مجاملة:

- شكلك بقى أحلى كتير لما خسيت!

نظرت حولى بدهشة..لم يكن ثمة أحد غيرنا فى الطرقة

- حضرتك بتكلمينى أنا؟!

- أيوا بكلم حضرتك..هو فيه غيرنا يعنى؟!هتفت فى مرح..فقلت:

- عشان كده مستغرب!

ضحكت بإفتعال واضح:

- و ليه مستغرب؟!..للدرجه دي مستهون بنفسك؟!

اخذت لمبة إنذار تومض فى عقلى..ماذا تريدين يا فتاة؟!

لست من تنشدين..ألا يكفيك كل الرجال الذين يدورون فى فلكك؟!

قلت بنفاد صبر:

- حضرتك لو فيه حاجه مهمه.. قوليها مباشرة.. عشان معنديش وقت للكلام الفارغ!

قالت منفعلة:

- خلاص يا دكتور.. انا آسفه! ..كل الحكايه إنى كنت عايزه أزيل سوء التفاهم إللى بينّا.

قلت بلهجة قاطعة:

- أحنا مفيش بينّا تعامل اصلاً ..غير فى حدود الشغل..يعني مفيش مجال لسوء تفاهم و لا غيره!

ردت هى بسؤال مستنكر:

- حد قال لك قبل كده أنك قليل الذوق؟!انت حد جلياط جداً على فكره!

قلت فى برود:

- و ساعات ببقى قليل الأدب..فياريت نحترم نفسنا عشان متزعليش !

- قلة أدب!

قالتها وانصرفت و قد عقد الغضب سحابة سوداء فوق رأسها..راقبت انصرافها الغاضب فى استمتاع سادي.. هل تظننى سأصدقها بعد ما حدث؟. .تحسبنى أحمق تلك الغانية!

*****

وقفت أتأمل جذعى العارى فى المرآة مستغرباً..عن أى حُسن تتحدث تلك الأفاقة!..أبدو بهذا الجسد الهزيل وهذه العظام البارزة كسحلية مصابة بالجفاف..فقط لو أن السحالى تصب بترهل الجلد!

"- و ليه مستغرب؟!..للدرجه دي مستهون بنفسك؟!"

أنعقد حاجباى فى غضب عندما تذكرت كلماتها الساخرة و ثقتها المبالغ فيها..تحسب نفسها شئ تلك الحمقاء!

تتصرف و كأنها قمة يرنو إليها الطامحين..بينما هى-فى حقيقة أمرها-قعر هاوية مظلمة..لا أكثر و لا أقل!

طرقت أمى الباب،قلت بسرعة:

- لحظة يا ماما!

سارعت بارتداء جاكت البيجامة-لا أريدها أن ترى هذه الفضيحة-و ذهبت لأفتح الباب:

- أنت جيت يا حبيبى؟..حالاً الأكل هيكون جاهز.


- براحتك ..مش مستعجل
- أيه دا يا"مجد"؟!..أنت لبست البنطلون ده برضو؟!..عشان كده ملقتهوش فالغسيل!



هتفت أمى فى ملامة..جلست على طرف الفراش قائلاً فى تبرير:

- أعمل أيه ؟هوا دا البنطلون الوحيد اللى بيجيي على مقاسى!هدومى كلها وسعت..يعنى كان لازم توزعى هدوم بابا كلها؟..كان زمنها نفعت دلوقت!

جلست بجوارى،و هى تقول فى استغراب:

-يعنى هو أنا كنت هاعرف منين أنك هتخس أوى كده!..عموماً أظن كان فيه بنطلون بتاعك ،ماكنتش بتلبسه علشان ضيق ..أظن كده ممكن تلاقيه بقى مقاسك..البنطلون السمنى..فاكره؟

- آه..أفتكرته..بس دا تلاقيه قصر!

تنهدت أمى فى تعب:

- طب ما تشترى حاجه جديده..بدل بنطلون أبوك وقمصانه اللى أتهلكوا دول!..و بعدين أنت شاب و دكتور.. مينفعشى تمشى مبهدل كده!

ابتسمت رغماً عنى..قلت كاذباً:

- آه..إن شاء الله!

- ممكن أسلّفك لو ما معكش فلوس.

- و دي هتبقى السلفه الكام على كده ؟! سألت بضيق..فردت بابتسامة عذبة:

- ما انت بتديني المرتب بتاعك أول كل شهر.

قلت ضاحكاً بمرارة:

- الله على المرتب إللى بتحطى عليه من معاشك..علشان تدفعي الجمعيتين إللى عاملهملي!

- أمال يا ابنى هنستر نفسنا مع الناس ازاى؟! و بعدين ده خير ربنا،و معاش أبوك الله يرحمه.قالتها قبل أن تضيف سائلة..كأنما تذكرت أمراً :

- انت فاكر يعني أبوك الله يرحمه اتجوزنى ،من غير ما جدك الله يرحمه يساعده؟!..ده يمكن لولا مساعدته هو،و جدتك الله يرحمها..كان زمنّا عنسنا أحنا الإتنين!

قلت لارضيها:

- خلاص يا ماما ..هبقى أصّغر الهدوم إللى عندي على مقاسى.

ردت فى أسف:

- ليه؟..خساره..ما يمكن ترجع تملى تانى؟..انت لو تبطل الحبوب إللى يا بتاخدها دي..هتبقى كويس خالص!

اصفرّت الرؤية فجأة أمام عيني..و سألت برعب:

- حبوب أيه ؟!

********

- حبوب التخسيس!...أنت مش قولت لى....

- آه..آه..إن شاء الله هبطلها!قاطعتها متنفساً الصعداء .. نسيت إننى أخبرتها أتناول حبوب للتخسيس..كى تتوقف عن الهلع بشأن وزنى الذى يتناقص بإطراد..حقاً على الكذوب أن يكون ذكوراً!

من الجيد أنها لم تعلم أيضاً،بأننى اتعاطى كمية ليست بقليلة من المسكنات!

قامت أمى وقالت و هى تأخذ البنطلون من جوارى :

- هاروح اسخن الغدا

امسكته من يدها فقالت :

- هطلعك البنطلون السمنى..

- برضو!

تمددت السرير بينما سألت أمى بدهشة:

- إيه دا يابنى ؟!..هما قبًضوك تانى الشهر ده!

سألت بدهشة مماثلة:

- لأ طبعاً..ليه بتسألى ؟!

نظرت إليها فوجدت فى يدها باقى المائتين جنيه التى أخرجتها من جيبى..فقلت بسرعة:

- قصدك على باقى المتين جنيه اللى لقيتها فى جيبى..اللى فيها عشرين جنيه مقطوعه من النص..لأ معرفش جت منين الفلوس دى!

ابتسمت مظنة أننى أمزح..و قالت بلوم :

- و الله عيب كده!..أنتا كلامك كله هزار عالطول؟!

*******

رن الهاتف،فخفق قلبى طرباً!..كانت"نادين" المتصلة كما توقعت..لهذا وضعت الهاتف على أذنى بحب كأننى أحتضنه..

أتانى صوتها الحبيب سائلاً:

- لسه صاحى!..

تنهدت قائلاً:

- مستنيكى تتصلى!

سألت بضحكة متعجبة:

- و مين قالك إنى هتصل دلوقت؟!

- آمم..كنت بتقلب فالسرير،مش عارف أنام..و لقتنى بفكر فيكى..قلت ياسلام لو كنتى بتفكرى فيا..لقيتك بتتصلى!

- يا سلام على الرومانسيه!..عموماً أنا لسه طالعه من العمليات حالاً..ببص فى الساعه لقتها أتنين و تمنتاشر دقيقه..قولت أغلّس عليك و اصحيك..

و أكملت ببهجة:

- بس طلعت صاحى للأسف!.

-.كنت سهران بتذاكر أيه على كده؟

تنهدت فى تعب:

- كنت بحاول أذاكر..بس لقتنى مش فاهم حاجه..كأن الكتاب مكتوب بالصينى!

- شكلك زهقان..طب ما تجرب تعمل حاجه بتحبها..عارف أنا لما ببقى زهقانه بطلع الموبايل و ألعب لعبة الدوده!

سرحت قليلً فى كلامها،و فكرت أن الأكتئاب الذى ينهش روحى.. يمضغنى تماماً كدودة تأكل ورقة شجر..ربما كان ما يخفف عنى قليلاً زيارتى لبيت"حلمى"..على طريقة من شاف بلاوى الناس!

وعلى ذكر البلاوى

- شوفتى الست الحامل اللى جت المستشفى أمبارح بعد الضهر؟

- آه يا حرام..دى البنت اللى كبت على نفسها جاز،و حرقت نفسها فى الحمام!..كان أسمها"بدريه"صح؟

قلت مؤمناً على كلامها:

- "بدريه"آه.."بدريه"الفقريه!..يدوب سلمت من صلاة الضهر لقيتهم دخلين بالزفه بتعتها!..أمها و أختها و جوزها..و زعيق و صريخ،وخناق..قام د"طارق"طردهم بره المستشفى..يكملوا خناق مع الأمن بره!

سألت"نادين":

- بيتخانقوا مع بعض؟

- مع بعض ومع د"طارق"و معايا!

ردت"نادين"بتعاطف:

- ربنا يكون فى عونهم الصراحه..و هى حالتها عامله أزاى؟

- جسمها كله محروق..و أغلبها حروق من الدرجه التالته..تخيلى إن عضم ضلوعها باين؟!..بس هتعيش!

- الطفل اللى فبطنها ربنا جعله سبب فى إنقاذ حياتها..الStem Cellsاللى فى الحبل السرى للجنين كانت بتجدد خلايا جسمها اللى بتموت!

سألت فى فضول:

- هوا صحيح جوزها زعق مع د"طارق"؟و قال له يفتح بطنها و يطلع الbaby و مش مهم هى تعيش؟

- هرشت رأسى محاولاً التذكر..قلت:

- آه..أظنه قال حاجه شبه كده!

- oh my god..مش كفايه إن هو السبب فى إنتحارها؟!..كويس إن د"طارق"طرده!. فى كام شهر جواز زهقها فحياتها..رغم أنه كان بينهمbig love story . .هى سنها ستاشر سنه صح؟

سألتها بدهشة:

- و أنتى عرفتى كل ده منين يا"نادين"؟

ردت بسرعة:

-و هوا فيه حاجه بتستخبى فى البلد دى؟!

أقشعر جلدى رعباً..اللهم سترك من الفضائح!

- و بالمناسبة يا"مجد"..هوا أنت كنت بتتوشوش مع الست"مريهان"أمبارح فى أيه؟!

***

"لا..ده احنا بقينا عال خالص!"ربت على كتف"حلمى"مشجعاً..ابتسم بينما سألت أمه بحبور:

- و النبى خّف يا دكتور؟

ارتسمت ابتسامة خفيفة لا تلاحظ على وجهى..مع شعور خفى بتأنيب الضمير..فلم أكن حتى أعالجه من شئ ،سوى محاولة فك أرتباطه بالمخدر..بالوهم و حبوب البلاسيبوPlacebo!

أخذت ألملم عدة النصب بخفة..كالحاوى!..فى الحقيقة لم يكن ثمة سبب-حقيقى-لوجودى هنا..فقد كنت أطارد خيالاً و شبحاً!

خيال أمرأة مهوسة بحب الأطفال،و شبح الإدمان..و للآن لم أقبض على أياً من هما!

يبدو أن"نادين"و د"نعمان" كانا محقان

لقد تماديت فى غيي..بينما أحتاج كل دقيقة من وقتى فى العمل و المذاكرة..أقتطع ساعتين من وقتى من أجل هذه الزيارة التى لا لزوم لها!

و فكرت أنه من الأفضل أن تكون هذه هى أخر زيارة..و بينما أتأهب للإنصراف..

فجأة تذكرت أثر تلك العضة ..فسألت أم "حلمى"فى إحراج منتهزاً فرصة خروج"حلمى":

- هوا لما كشفت على"حلمى"فى المستشفى ..كان فيه ف..جسمه يعنى أثر عضه..شكلها غريب شويه..متعرفيش كانت عضة أيه؟

قالت كأنها تفكر أو تتذكر:

-عضه؟!..أيوا ..أفتكرت ..فيه يوم "حلمى"رجع من بره بيعرج..و لما سألته مالك..قال إن فيه كلبه عضته!

كلبة!..أجل بالطبع..إنها كلبة مسعورة!

بدت لدى كلمتها قرينة ممتازة،تؤكد شكوكى فى"كهرمان"السيدة غير الأخلاقية..التى سمعت عنها الكثير..من نشأتها الغامضة لتجارتها بكل المحرمات من جنس و مخدرات..

لكننى لم أخبرها بشكوكى فى تعرض ابنها لواقعة إغتصاب..فلا أضمن رد فعلها..بالتأكيد ستصاب بنوبة من الهسيتريا..بل و -الأسوء-قد تعاير الولد بما جرى له و هو-تحت تأثير الإدمان- مسلوب القوى و الإرادة.

سألت أم"حلمى"بعجب:

-إلا هوا أنت كان بقالك تلات أربع أسابيع مابتجيشي ليه؟!

هل مر كل هذا الوقت حقاً؟!

أجبت بإبتسامة باهتة..و أنا أتذكر أمتحان النسا الذى إجتزته منذ يومين..بعد تفرغ لا يشوبه الكمال للمذاكرة

- كان عندى غسيل!

قال فى مجاملة:

-و النبى عسل يا دكتور!

قلت فى نفسى..عسل أسود طبعاً

..فهو أيضاً يحتاج للعصر و الغليان!

دعست -دون قصد-على قطعة قماش كارو خضراء-أتضح أنها قميص رجالى-ألتطقته،و نفضت التراب الذى طبعه حذائى فوقه محرجاً..

ناولتها القميص قائلاً فى حرج:

- متأسف..الظاهر إنى دست على قميص المرحوم من غير قصد.

- و لا يهمك ياخوى..و بعدين دا قميص البت"عزه"أبقى أغسله لها تانى!

أرتفع حاجبى بدهشة ساخرة:

- و "عزه"دى بتلبس قمصان رجالى ليه؟!

- و النبى دى بنت غلبانه!..و يا بخت إللى يجًوزها..أنت متجوز يا دكتور؟

- لا خاطب..

سألت بجدية :

- و معندكش أخوات شباب؟

أضفت بابتسامة مندهشة:

- و لا بنات!

-"عزه"دى إللى ساعدتنى أخد"حلمى"من عند"كهرمان"اللى ربنا يعميها.. و النبى دى بت جدعه!

أضافت بسخرية مشيراً للقميص الرجالى الذى كنت أرتدى شبيهه لكن-بلون أحمر،و أبيض :

- و بميت راجل ..واضح!

هتفت مستنكرة:

- ميت راجل ده ايه؟..و نبى دي ست البنات!..و لسه عيله صغيره..عندها خمستاشر سنه تربيتها على إيدك!

قلت ضاحكاً :

- لا يا ستى يفتح الله!..أنا خاطب دكتوره زميلتي..و متربيه جاهزه..متشكر جداً لحضرتك !

تذكرت لوم"نادين"لى على حديثى الهامس مع "مريهان"و أكملت فى سرى..و عاقلة !

حتى أنها لم تشك لحظة فى علاقة تجمعنى بها..فكان لومها من مطلق إتقاء الشبهات أمام الزملاء ليس إلا!

ردت مستغربة من- قلة عقلى-:

- أنت الخسران!..و النبى دي بت ما تهدى غير لملك..أدب و جمال..و عليها شرطة عين تهبل!

- استغفر الله!..عيب يا ستي الكلام ده!

- هوا أنت شيخ يا دكتور؟!سألت و هى تنظر لى بدهشة،فقلت بسرعة كأننى انفى تهمة:

- لا شيخ و لا غيره يا ستي!..يلا انا ماشي..السلام عليكم.

غمغمت فى أسف معتذرة :

- يالهوى..يقطعنى و النبى ما تزعل منى يا دكتور!..أصل البت صعبانه عليا قوى..و النبى خسارة تترمى فى الشارع كده..من بعد عز أبوها..يطمع فى لحمها اللى يسوى و اللى ميسواش!

*****

*صدرت عملة المائتين جنيه فى شهر مايو من العام2007

يتبع

الجزء السابع القاتل

"بُرّيه منك وليه!"هتفت"فاطمة"فى إستنكار حين سمعت طرفاً من حديث أمها معى..و أضفت بحرقة :

- أنتى يا مره ماوركيش شغلانه غير" بيجو"تقطعى فى فروته!

كنت قد رأيت هذا ال" بيجو"من قبل..و قد جعلتنى عبارتها أتخيله كخروف مكسو بالفراء..فبدت صورة تليق به فعلاً..هذه البنت عبقرية!

ربما كانت"عزة"سيئة الحظ لأن" بيجو"يحبها..لكن هذه الفتاة منحوسة حقاً..فهى غارقة فى حبه حتى الأذنين!

-..بتصدقى مُحن البنات......"عزة"أيه دى اللى " بيجو"هيبص لها؟!..لمامة الشوارع دى..اللى نايمه  وسط اكوام الزباله!

و كأنما سكب أحدهم دلو ماء بارد على رأسى..وقفت بين الأم و ابنتها محرجاً ..لا أدرى ماذا أقول..عندما لفت أنتباهى السواد المائل للبنفسجى و الإنتفاخ الغريب حول عيني البنت.. أثار دهشتى كم كان تشخيصى الأول لحالتها دقيقاً!..فما كان شكاً فى المرة السابقة قد بدا لى اليوم يقيناً ..إن هذه الفتاه الصغيرة..بل هذه الطفلة المسكينة مصابة بالفشل الكلوى !..

- و أنت بتبص على أيه أنت كمان؟!..دا أيه النصيبه دي؟!

هتفت البنت التى لم يعجبها تحديقى المندهش فى وجهها،و غادرت المكان غضبى..قبل أن تبكى أمامنا..

- نصيبة تشيلك يا بعيده!..حقك عليا أنا يا دكتور..أمسحها فيا..و النبى دى بت هبله!

مهلاً أيتها الحداءة..أصبرى قليلاً.. فالمصيبة التى ستأخذ ابنتك توزن بالطن لا بالكيلو جرام!

قلت بهدوء"سقراط"و هو يمسح بصقة زوجته:

- لا يا ستى مفيش حاجه!..بس ممكن أسألك سؤال؟..هوا أبو"حلمى"الله يرحمه كان عنده فشل كلوى؟

نظرت لى بدهشة-كأنما ترى عرافاً-يرجم بالغيب،و قالت متعجبة:

- اللهم صلى على النبى!..و عرفت منين يا دكتور؟!لما رحنا المستشفى قالولنا كده!

- طيب و فى المستشفى ما قالولكيش أيه السبب؟

ردت فى إيمان عجيب :

- دى حاجه بتاعة ربنا!..بس هما قالوا الميه المتلوثة هى السبب!

قلت ناظراً للصفحتي السمن الضخمتين الصدئتين المملؤتان بماء-لا أستبعد أن تكون قد ملئته من النيل-:

- ميه ملوثه زى دى يعني؟!

أجبت فى إستنكار:

- بس أحنا ما بنشربش من الميه ده،و بنشرب من الأزايز!

- الحمد لله!

أكملت فى ذكاء:

- الميه دى بنطبخ بيها!

***

  عدت للمنزل مضطرب الأفكار..فالتورم حول عيني الصبية ناتج -غالباً-عن تسرب البروتين من الكلى للبول..و يجب أن تخضع لفحص طبي دقيق على وجه السرعة..لقد لمحّت لأمها،فبدت غير مبالية..ليتنى صارحتها بشكوكى!

لكن وقتها بدا من المحرج أن أسألها إن كانت أبنتها المراهقة تشكو من القئ و  الغثيان ..ألم فى البطن أو الظهر،مع قلة عدد مرات التبول أو زيادته،مع تغيير لون البول..الله وحده يعلم بماذا كانت ستفكر وقتها!

فتحت الباب بالمفتاح،فوجدت أمى تشاهد التلفاز فى الصالة..قلت بلهجة متعبة:

- السلام عليكم

- و عليكم السلام..مالك يا بنى؟..شكلك تعبان؟

أجبت فى أحباط ملقياً بنفسى على الأريكة بجوارها:

- مصدوم..النهاره قابلت بنت صغيره عندها مرض خطير..و ممكن تموت بسببه..و معرفتش أقولها حاجه زي كده أزاى!

سألت أمى التى بدا عليها الإهتمام:

- و المرض ده ملوش علاج؟

صمت لحظة لأتمكن من السيطرة على إنفعالى..ثم قلت متنهداً فى أسف:

- له علاج بس مؤلم و مكلف...

و غص حلقى بباقى العبارة ..ربتت أمى على كتفى فى حنو..قالت فى إشفاق:

- يا حبيبى!.. أنت بتعيط يا"مجد"؟!..للدرجة دي صعبانه عليك!

و فطنت بإندهاش لأننى بكيت بالفعل!

***

جلست على عرشها المزين بالنقوش فرعونية الطابع..فتاة شديدة الجمال بملامح مصرية.. سمراء حوراء العينين..ترتدى ثوباً فرعونياً من حرير أرزق اللون..تنظر بحزن لمراسم تقديمها كتضحية بشرية لآله النيل حابى..كانت"عزة"!

 بجوار عرشها وقفت كاهنة جميلة، ناعمة كالأفعى.. ترتدى غلالة سوداء شفافة.. ترنو إليها بنظرة ثعبانية متمسكنة،تخفى شرسة نمرة متوحشة .. كانت المعلمة"كهرمان"!

 بعد إنتصاف الطقس الجنائزى،و العزف المصاحب بالهمهمات الحزينة..قامت"عزة" تمشى نحو صفحة النيل الهادئ بوقار!

و من خلفها الكاهنة ،و موكب الوصيفات..ثم جرت"عزة"فجأة فى الأتجاه المعاكس!

و أضطرب الموقف ..و أحاط بها الجميع يبغون القبض عليها..و هى تراوغهم..و تتفلت من بين أياديهم الممدودة..عندما ظهر "بيجو"

من العدم.. بصدره العارى الموشم بوشم غير مفهوم.. يرتدى سروال جينز قذر و يجرى نحو الموكب المرتبك،شاهراً مديته

- أوعى يالا..لاشأخ!

حتى فى الحلم يتكلم بتلك اللثغة الغريبة!

ألتفت وراءه ملوحاً بمديته فى الهواء يهدد"فاطمة"التى كانت تلاحقه:

- أرخعى يا بت ..و المصخف أعورخ!

تراجعت البنت فى أسى..بينما هجم هو على الجمع المتزاحم حول حبيبته،بسلاحه الأبيض..فتفرقوا فى ذعر!

 تقدم هو نحو الفتاة الخائفة..بينما تراجعت هى للوراء فى مزيج من الخوف و الإستغراب..فأحاطها بذراعيه ليسد عليها طريق الهروب..ثم حملها على كتفه كأنه يحمل جوالاً..و هى تصرخ و تحاول النزول ..

هنا تدخل عقلى فى مسار الحلم!

-كأنما يأبى أن يتم إنقاذها على يده -لتفلت من يده و تسقط فى النهر تصارع الغرق!

بينما وقف"بيجو"ينظر إليها مذهولاً..يصيح فى هلع واضعاً يده على رأسه :

-البت وخعت!  أخلعها ازاى دلوختي ؟!

***

"مجد"يا "مجد"..أنت نمت؟!..قوم نام جوه..

افقت على ألم رقبتى المتصلبة و صوت أمى..فعلمت أننى غفوت  جالساً فى مكانى ..و التلفزيون مازال يعرض فيلم"عروس النيل"،الذى دمجت أحداثه مع حلم رأيته فى غفوة،لم تدم سوى بضع دقائق ..

فركت جبهتى لتخفيف ألم الصداع متساءاً ..لم يكن من عادتي أن أغفو فى مكانى هكذا!

لكننى أشعر بإرهاق شديد فى الآونة الأخيرة..و أزدادت ساعات نومى كثيراً..لدرجة تدعو للقلق!

قالت أمى فى اشفاق:

- روح ريح ساعه..و هابقى اصحيك  علشان نتغدا مع بعض.

قمت فشعرت بدوار مفاجئ،مع تشوش فى الرؤية..قلت و أنا افرك وجهى استجلاباً لبعض التركيز:

- لأ هاصلى الأول!

هتفت أمى فى حيرة:

- هتصلى أيه؟.. العصر لسه مأذنش؟!الساعه لسه أربعه و نص!*..و لا لسه مصلتش الضهر؟

- لأ صليته فى المستشفى قبل ما اجى!

ذهبت إلى غرفتى و ارتميت بملابسى على السرير..و برغم إنه قد تبقت دقائق قليلة على آذان العصر..لم أقو على البقاء مستيقظاً-رغم محاولاتى-..و غرقت على الفور فى نوم ثقيل تملأه الكوابيس!

****************

بدأت مناوبتى فى قسم الغسيل الكلوى الذى نقلت إليه منذ خمسة أيام بعد نقل زميلى د"هشام"إلى محافظة بور سعيد..

.جزاءاً لإهماله الذى أودى بحياة مريض فى هذه الغرفة ذاتها ..بعد أن تركه على جهاز الغسيل فانفلت الخرطوم الذى يعيد الدم  بعد تنقيته ..ليتصفى كله على الأرض!

 جاءت "سوسن".الممرضة الجديدة متأخرة خمس دقائق..كدت ألومها على التأخير ثم رأيت أن الأمر لا يستحق..إنها مجرد خمس دقائق فى النهاية..لكنها ما أن رأت وجهى حتى صاحت مندهشة:

- يا خبر أبيض!..مالك يا دكتور؟!

- مالي؟!سألتها منزعجاً..فأجابت:

- شكلك خاسس عن أخر مرة شوفت حضرتك فيها!...أنت تعبان؟!

لقد صار الأمر مملاً فعلاً!

لدرجة أننى مستعد لدفع مليون جنيه-لو كنت أملكها-لأول شخص يقابلنى ..و لا يحدثنى عن وزنى و سوء حالتى الصحية!

- بتفكرنى ب"إسلام"ابن عمى لما جاله سرطان فى الدم..الله يرحمه مات و هو فى عز شبابه، لسه يدوب عشرين سنه!..

ياله من أمسية بهيجة!

عدلت النظارة التى لم تعد تثبت على وجهى..و منحتها أحدى ابتساماتى السخفية المصنفة عالمياً ضمن أسوء عشر ابتسامات.. قلت ساخراً:

-الله يبشرك بالخير يا ستى!..عموماً لو عايزه تبلغيه رساله..ممكن تقوليهالي أوصلها له..إحتمال أروح له قريّب!

تقلصت ملامحها-ربما من الرعب-قبل أن تقول ضاحكة بإفتعال:

- دمك خفيف يا دكتور..زى إسلام الله يرحمه تمام!

ما اجملك أيتها البومة البيضاء!

فتحت الخزانة البيضاء المثبتة على الجدار ،و قلت دون ان أتلفت إليها:

- حضري عم "صبحى" لجلسة الغسيل و علقي له محلول..على ما أجهز الحقنة..

وقفت تتطلع من فوق كتفى -دون مناسبة- داخل الخزانة الطبية التى فتحتها للتو بمفتاحى،و سألت مصدومة:

- أيه دا يا دكتور؟!..مش دى حقن الحديد بتاعة الغسيل الكلوى اللى خلصانه بقلها مده؟!

قلت بلا إهتمام:

- أيوا..ماهى جت أول أمبارح.

سألت بدهشة:

- و قافل عليها بالمفتاح ليه؟!

كدت أخبرها بأن كل شئ يُسرق فى هذه المستشفى الشبيهة بالخرابة..حتى المحاقن و غيارات الجروح و الحروق..لكن!

حين وزنت الكلمات التى ستخرج من فمى وجدتها ذات وقع ثقيل على النفس..ستبدو إتهاماً منى لجميع العاملين بالمستشفى-و هى منهم-بالسرقة..لهذا قلت مبرراً بتحفظ:

- الإحتياط واجب يا آنسة"سكر"!

قالت مصححة  فى حرج بينما كنت أجهز الحقنة :

- أسمى"سوسن"يا دكتور!

إلتوى فمى بإبتسامة ساخرة ..كأننى نسيته يا وجه السعد!

قلت مغالباً الغثيان المفاجئ الذى انتابنى -من ثرثرتها-ربما:

- متأسف يا آنسة "سندس"..ممكن حضرتك نشوف شغلنا؟!

*****

كنت عائداً للتو من المرحاض  بعد ان تقيئت كل ما فى بطنى..و قد ابتعت كوباً من الشاى بالليمون ..عندما سمعت صوت د"مصطفى"يجلجل:

"فين الدكتور الحمار..المسئول عن الحاله دى؟!"

كان صوته قادماً من قسم الغسيل الكلوى ..الذى غادرته قبل قليل يصدح بالسباب!

هرعت  إلى هناك مهرولاً..لأستطلع ما الخبر-حتى أن الشاى أنسكب على يدي.ليحرقها بسخونته..

رميت بقيته فى غيظ..وذهبت جرياً لأستبين حقيقة ما يحدث.. بلغت الباب بوثبتين..و ..

أرتددت للوراء مصعوقاً..فقد كان ما رأيته صادماً

..صادماً بحق!


* تدور أحداث الرواية فى عام2007..قبل إلغاء التوقيت الصيفي


يتبع 

الجزء الثامن الأشقياء الثلاثة

هلل د"مصطفى"ما أن رأى وجهى :
 "أنت شرفت يا بيه؟!..كنت فين و سايب المريض بتاعك بيموت؟!"

لم أرد على الفور ..بل حدقت فيه مبهوتاً..و قد إنقلبت حوله وحدة الغسيل الكلوى إلى سيرك..نبض قلبى الواجف طبله!

عم "صبحى"شبه غائب عن الوعى..و قد أُقصى الحامل المعدنى بمحلوله الذى لم يستهلك نصفه بعيداً عن سريره..بينما د"كاميليا"راكعة بجوار فراشه..تعطيه حقنة وريدية ما!

"سوسن"تبكى الفقيد مقدماً.بينما ممرض و ممرضة يهيمان فى المكان بإرتباك!

رباه.. ما الذى يحدث هنا؟!

حاولت تجاوز د"مصطفى"لأطمئن على مريضي الذى بدا فى حالة صدمة.. لكن الأخير جذبنى من ذراعي الضامر و طوحنى بعيداً.. ألمتنى جذبته-لا أدرى لقوتها أم لوهنى-بينما يصيح غاضباً:

- طبعاً أنت فاكر إن الموضوع ده هيعدى..شبه ما طرمخوا على غلطة زميلك لا..

لا يا بابا.. أنسى إن دا هيتكرر تانى..أنت فاهم؟!

ألتقطت النظارة فى الهواء،قبل أن تسقط على الأرض،و أرتديتها سائلاً بعصبية:

- و هوا أيه اللى حصل يا دكتور؟!..أنا يدوب روحت الحمام و رجعت!

- اللى حصل؟!..هاقولك أنا أيه اللى حصل!..زام بعصبية ،و هو يتلفت حوله..قبل أن يصيح فى الواقفين راعداً:

- فين الأكسجين يا بهايم؟!..واقفين تتفرجوا و الراجل بيموت!

ثم ألتفت إليه قائلاً بصوت هادر:

-اللى حصل أنه محدش شايف شغله يا دكتور!..حضرتك داير تتصرمح و سايب الآنسه خيبه هنا لوحدها..

أيه اللى جرالكو بالظبط؟!

و أشار إليً بأصبعه مستنكراً..قال:

- أنت بالذات ايه اللى جرالك؟!..خبت ليه؟.. وبقيت مهمل!..أنت بتتعاطى حاجه؟!

صحت بعصبية:

- لو سمحت يا دكتور مفيش داعى للإهانه..لو حضرتك شافنى غلطان حولنى للتحقيق!

هتفت"سوسن"مستعطفة والدموع تملأ عينيها:

- لأ!..يا د"مصطفى"..د"مجد" ماغبش بره  أكثر من عشر دقايق و الله العظيم!

لم يلتفت إليها الأخير-و قد وجد فرصته للقضاء علي-سألنى مستنكراً:

- يعنى مش عايز تعترف بغلطك..و بتزعق كمان؟!

كم أمقت هذا الرجل!

كل الحب و التقدير الذى حملته نفسى له يوماً  ،يتحول الآن لكره صريح..و السبب أمراة!

"- لأ يا دكتور هوا مش قصده يزعق لحضرتك!"

صاحت"سوسن"بهلع..و هى تتمسك بذراعى كأنها تمنعنى من ضربه ..فتراجع الأخير خطوة للوراء بقلق!

- ممكن  تخرسى خالص،.و متتدخليش.؟!صحت فيها حانقاً،و سحبت ذراعي ، فصاح بذعر:

-أيه؟.. عايز تضربنى!..طب أنت موقوف عن العمل من بكره..و متحول للتحقيق! 

*****************

تقلبت فى الفراش و قد منعنى  القلق من النوم..ترى ماذا حدث لعم"صبحى"بالضبط؟!..و هل تمكنوا من إسعافه؟

إن ما حدث له لن يعدو امراً من أثنين..إما جرعة زائدة من الحديد..و..أو حساسية من عقار "......."و هو إحتمال ضعيف ..لأن عم"صبحى "يتعاطى تلك الحقن منذ مدة دون مشاكل

أعتدلت جالساً فى السرير..و قد أنتابنى ذعراً مفاجئ ..ماذا لو لم يتم تشخيص حالته على النحو الصحيح..و أعطوه علاجاً خاطئاً؟.. 

ربما يموت و يقع الذنب  كله على رأسى!

المثير للإستغراب أننى ظلت بجوار المريض ما يقارب الثلاث ساعات دون أن تظهر عليه أى أعراض ..و ما أن غادرت المكان لمدة لا تتجاوز النصف ساعة..إنقلبت الأحوال فجأة!

حتى أننى-لولا وجود كل هؤلاء الناس -فى الغرفة و حول المريض لظننت أن د"مصطفى"قام بالتلاعب بجهاز الغسيل ..أو حقن المريض بعقار مجهول ليضعنى فى هذه الورطة!

و أختلطت بداخل كم هائل من المشاعر نحو هذا الرجل ..من خوف و إشمئزاز و كراهية..بل و بعض الحب!

شيئاً ما ذكرنى بأيام الجامعة عندما كنت أحد طلابه..حين كنت أراه  قدوة..و  كان هو يتوسم فيّ خيراً..

حتى حين كان يلومنى بغضب و إتهام..كان فى عينيه شيئاً يوحى أنه مازال مهتماً بى على نحواً ما!

ربما كان أكثر ما ضايقنى فى إتهامه..هو أن فيه ظلاً من الحقيقة!

ماذا يُسمى إعتياد المسكنات لدرجة تجعل التخلى عنها أمراًشبه مستحيل..

إن لم يكن هذا إدماناً..فماذا يكون إذاً؟!

"نادين"كم أحتاج إليك فى هذه اللحظات إلى جوارى!

نظرت لهاتفى المحمول فى عتاب..عابثت أزراره فوجدته يعمل!..لماذا لم أتلقى-رغم محاولاتى لإتصال بها- أى إتصالات منها منذ أمس أذن؟

حاولت الإتصال بها دون رد -كالعادة-هل يُعقل أن تكون قد تخلت عنى ؟!

قفزت من السرير و قد تذكرت أمراً كنت قد نسيته فى غمرة ما حدث..جعلنى أرتدى ملابسى ،و أخرج على عجل ..و قد بدا فى -تلك اللحظة-  أمراً لا يقبل التأجيل

*******

"خود آ بشمهندز..أنت رايح فين؟"أشار إليً أحد صًيع المنطقة العشوائية التى تقطن به ام"حلمى"و أولادها الخمسة..و هو يقف بجوار"بيجو"ذو الوشم الظاهر على صدره العارى..و آخر يدعى"شامبو"على ما أتذكر..

- حضرتك بتكلمنى؟!سألته متشككاً..فبصق على الأرض قبل أن يجيب بإستخفاف:

- لا باكلم خيالك!..أيوه يا عم بكلمك أنت..أومال بكلم مين يعنى؟!

-أفندم؟..

- بقولك كنت رايح فين يا حيلتها؟

قلت متحسساً كلماتى:

- أولاً  يا ريت نتكلم بأسلوب أحسن من كده..ثانياً حضرتك أنا راجع ..مش رايح!

أصدر صوتاً قبيحاً من أنفه قبل أن ينعر مستنكراً:

-راجع فين يا كابتن؟!..تكونش سكنت عندنا و أحنا منعرفش؟!

       قلت متلاطفاً:
   - ممكن أعرف اسم حضرتك الأول؟

رد بعنجهية:

- ليه هتصاحبنى؟!..أنت مين  و أيه اللى جابك هنا يا بشمهندز؟و جاي لمين فى الحته الوسخه دى؟

كنت قد جاءت خصيصاً من أجل الحصول على عينة دم من"فاطمة"لأقوم بتحليلها..فقلت بغيظ مكبوت:

- كنت عند الست أم"حلمى".

تنخم و بصق بصقة معتبرة..قبل أن يقول بإستهجان:

- أخيي!..ملقتش غير المره العرمه دى؟!..و لا الكلام على البت بطه؟

أحمر وجهى حتى صار كالطماطم من شدة الغضب..فلم يسبق أن تعرضت لهذه الإهانة..و لا أتُهمت بمثل هذا الإتهام البشع من قبل..قلت فى شمم:

- أنا كنت باطمن على المريض بتاعى..مش اللى فى دماغك ده خالص!

- ده دختور"مخدى"اللى خان بيعالخ الواد"خلمى"يا ليس"صفيخه!

تطوع "بيجو"بالأجابة عنى..فسأله الأخير مستنكراً:

- و عرفت منين إنه ضكتور ياض؟!

هتف "بيجو"بذكاء:

- لما خوفته المله اللى فاتت..خان لابس نداله!

سألته متوجساً:

- هوا قال أيه بالظبط؟!

نفث"شامبو"مغمض العينين دخان سيجارته المحشوة من أنفه ببطء..و أجاب كأنما يفيق من حلم أو إغماءة: 

- بيقول لما شافه المره اللى فاتت كان لابس نضارة! 

حاولت فتح الحقيبة لأخرج بطاقتى الطبية..عندما سمعت تكة مطواة"صفيحة..بينما لوح"شامبو"بسنجة شريرة المنظر ظهرت فى يده-لا أدرى من أين - صاح الأول فى غضب:

- ما تفتحش الشنطه..و ارميها على الأرض!

وضعت الحقيبة على الأرض بحذر كى لا تنكسر العينة.. و رفعت يداى الخاليتين بحيث يراهما..قلت بسرعة:

- براحه!..و الله كنت بطلع النضاره..قصدى الكارنيه بتاع المستشفى!

سأل""شامبو"حالماً و هو يهرش بين فخذيه بمقبض السنجة:

و النضارة؟!

- النضارة!.. شكلها مش معايا..نضارة نظر هى.. بس مش بلبسها غير بليل..عشان عندى

Nyctalopia..آ.. عشى ليلي!

رد:صفيحة" بسخط:

- و أنا مال أمى تتعشى لوبيا ولا فصوليا !..كل ده ميخصنيش..و لا حتى يدخل ذمتى بساغ!..بص يا عم"مجدى" أحنا معندناش عيانين هنا..و مش عايزين نشوف وش ديك أمك  هنا تانى..يأما هتزعل!..و هتجيب ناس تزعل!..أستبينا يا كابتن ؟

حملت حقيبتى و أنصرفت دون أن أنبث ببنت شفة..

"- لو شفتك هنا تانى هشقك..أنت فاهم؟"قال صفيحة"مهدداً..قبل أن يضيف بإستخفاف مخاطباً صبيانه:

 - أبن حلال أوى كابتن"ماجد"ده!

- أسمه"مجدى"يا اسطى!

- بس يا .....!

***********

فتحت باب منزلنا..فوجدت أمى تنظر لى بطريقة غريبة ..بدت كأنما تنتظر عودتى ..لكننى أستبعدت أن تكون واقفة هكذا وراء الباب منذ فترة..لقد حدث هذا عفواً على الأرجح!  

حاولت رسم ابتسامة على وجهى ..فلم أفلح..و بصعوبة منعت نفسى من البكاء !

أردت أن أرتمى فى أحضانها ..لكننى عوضاًعن ذلك.. قبلت يديها و رأسها..و سألتها بصوت مبحوح يدعى المرح:

- أزيك يا حبيبتى ؟

- مالك؟!سألتنى ببنرة هادئة..تقول دون كثير كلام..أنها كشفتنى!

- الحمد لله

لمحت فى عينيها عتاب رقيق..قبل أن تقول:

- "نادين"أتصلت بيك على التليفون الأرضي.

-"نادين"أتصلت!..هى فالبيت؟سألت أمى بلهفة، و أصابعى تجرى على أزرار الهاتف الأرضي الموجود بالصالة طالباً رقم منزل "نادين"..رن الهاتف حتى أنقطع الرنين دون أن يرد أحد!

ضربت الأرقام التى أحفظها عن ظهر قلب مجدداً..عندما سألتنى أمى:

- أيه اللى نزلك بدرى؟!..أنت مش قولت إنك واخد أجازة؟!

- أصلى رحت أزور جماعه صحابى!

قلت أمى بأسف"

- كبرت يا "مجد"و بقيت بتخبى عليا!..ماقولتليش ليه إنك أتوقفت عن العمل؟!

وضعت سماعة الهاتف مكانها..و سألتها بدهشة:

- مين اللى قالك الكلام ده يا ماما؟!.."نادين"؟!

- مش مهم مين اللى قال..المهم إن الكلام صحيح!..كل ده يحصل معاك من غير ما تقولى..كأننا مش عايشين فى بيت واحد!

سألتها بحنق:

و قالت لك أيه ست"نادين"كمان؟!

قالت أمى تدافع عنها:

- هى  مكانتش تعرف أنك ما قولتليش حاجه..أتصلت بيك عشان تطمن عليك ..كانت عايزه  تعرف أنت عامل أيه بعد ما وقفوك و حولوك للتحقيق..جرجرتها فى الكلام.. و هى حكت لى كل حاجه!

***********************

رن جرس الهاتف المنزلى..و ما أن رفعت السماعة حتى أتانى صوت"نادين"و هى تسأل بلهفة:

-أيه أخبارك؟ طمنى عليك..عملت أيه فى التحقيق؟!

- أنتى على طول مسروعه كده يا بنتى؟!..لبستنى فى الحيطه مع ماما!

سألتنى بدهشة:

- ليه؟! .. و هوا أنت كنت ما قولتلهاش؟!

- أستنى!نظرت حولى بقلق قبل أسحب الهاتف و أدخل به حجرتى..قلت لها:

- أقولها أيه يا شيخه حرام عليكى!..هى دى حاجه تتقال؟!أنتى عارفه ماما بتقلق قد أيه من كل حاجه!

- أوبا..شكلى لخبطت الدنيا!..طب و ماما عملت معاك أيه لما عرفت؟

قلت ضاحكاً:

- نيمتنى على الكنبه!

-أنت بتهرج!

..هتكون عملت أيه يعنى ؟زعلت شويه.. بس عرفت أصالحها.

و بعدين هاعمل أيه غير إنى أهرج واحد  موقوف و على وش رفد.. عايزه يعمل أيه؟..دانا أثبّت فى الشارع كمان!

- أيه!..ثبتوك أزاى؟!..خدوا منك حاجه؟

- كانوا عايزين ياخدوا النضارة ..بس ربنا ستر! 

-أنت النهارده مش طبيعى!

- و الله يا بنتى أتثبت..و أترفع عليا مطواه كمان!..

هتفت بإنزعاج:

- و مالك مبسوط كده ليه؟!..حصل فين الكلام ده؟..أكيد فى الأماكن الغريبه اللى بتروحها!

كأننى أذهب هناك للتنزه !

قلت بضيق:

- عموماً دى أخر مره أروح هناك..كنت باخد عينه دم من"فاطمه"أخت"حلمى"!..ودتها المعمل عشان شاكك فى حاجه كده!

- يا دى"حلمى"و اخواته!..طب كمل..و بعدين عملت أيه؟

- بس رحت التحقيق الساعه أحداشر..و بعد ما خلصت ..لقيت نفسى فاضى ..رحت القسم أعمل محضر للتلاته اللى ثبتونى!

- عملت محضر فى قسم البوليس؟!

- لا و الله!..مكنش حد فاضى يعملّى محضر..الظابط سألنى سؤال واحد"أنت تعرف أسماء العيال اللى ثبتوك؟..

قلته"شامبو"و"بيجو"و"صفيحه"!..قال لى مترحشى هناك تانى أحسن!

قالت"نادين"فى إستحسان:
- و الله عنده حق!

سألتها مغيراً الموضوع:

- دكتور"مصطفى"عمل أيه بعد ما مشيت؟..

- هيعمل أيه؟..أصلاً محصلش حاجه مهمه!

ثم أضافت بسرعة:

- آه..أفتكرت ..أمبارح"بدرية"ولدت بعمليه قيصرية...جابت بنوته زى القمر!

-"بدريه"مين؟!..قصدك "بدرية"المحروقة!..بس ولدت أزاى يا بنتى ؟!..دى كانت لسه فى بدايات الشهر السابع! 

ردت بلوم:

-لأ كانت فى التاسع يا دكتور..!

أشعرتنى لهجتها اللائمة بالضيق.. كأنه يجب أن أعرف عمر جنينها بدون سونار!

و تذكرت بطن المريضة الصغير و تأكيدات أمها على أنها عروس جديدة ..متزوجة منذ أقل من سبع شهور-كما كُتب - فى عقد زواجها العرفى..

معنى هذا أنها كانت حبلى قبل أن تتزوج!

غمغمت بدهشة:

- طب ال...؟!

-عادى.. بتحصل!قالتها"نادين"ببساطة..

أجتاحت جسدى سخونة مفاجئة..بتأثير من الغيظ،و الغضب بل و بعض الحسد ربما!.. ذلك القط الأجرب-زوج المريضة- الذى يبلغ نصف عمرى و- برغم الظروف- مارس الحب و أنجب -حتى -قبل أن يتزوج..بينما أرى خطيبتى بتصريح أمنى ..بحضور أمين شرطة..و مخبرين!

قالت"نادين" بتساؤل مندهش حين طال صمتى:

- يا خبر أبيض!..أنت لسه ما فهمتش يا"مجد".؟!.خلاص هابقى أفهمك لما تكبر!

- لما أكبر و هاتفهميني؟!ماشى يا ست"نادين"!

قلتها فى ضيق بلغ منتهاه..خاصة عندما أنهت المكالمة قائلة:

- يلا  باى أنت بقى دلوقت..عشان داخله العمليات كمان ربع ساعه

- باى!

أجبت مغموماً حين علمت أن لديها عمل..بينما أنا أجلس فى البيت لا أدرى ماذا سيحدث معى غداً..

رباه لا تجعل هذا الوضع يدوم طويلاً!

يتبع

الجزء التاسع (مظلوم)

قمت من الفراش فى التاسعة صباحاً-رغم- إنى مستيقظ فى السادسة..

لكن حالة مفزعة من الإحباط سيطرت عليّ..لدرجة جعلت -مجرد-مغادرة الفراش عمل بطولي..جهد يستحق الثناء و التقدير!

لن تحاول أمى إيقاظى-فقد إعتادت-على فترات نومى التى تشبه الغيبوبة..من إرهاق و ضغط العمل الذى بدأت أشتاق إليه!

غريباً أمر الإنسان..حتى أمس كنت أشتهى بعض الراحة و الفراغ-لكننى-اليوم و قد نلت مبتغاى أخيراً أكاد أجن!

أضاءت نور الغرفة..و درت فى الغرفة دورتين !..قذفت الكرة المطاطية نحو الحائط لألتقطها مجدداً مرات لا أعرف عددها..ثم نظرت للساعة ..تباً!

بالكاد مرت نصف ساعة..

عندما خطر لى أن أقضى بعض الوقت بالمذاكرة..

فتحت أحد كتب الجراحة و بعد قراءة سطرين ..سألت نفسى و ما الفائدة؟..ما فائدة المذاكرة؟!..و انا مهدد بإنتهاء مسيرتى المهنية و هى مازالت فى بدايتها!

واسيت نفسى ببيت شعر لإليليا أبو ماضى يقول

كن بلسما ان صار دهرك أرقما وحلاوة ان صار غيرك علقما

فكرت بتدوين البيت بخط النسخ .. من الجيد أن أدوات الرسم هنا و لن أحتاج للخروج من الغرفة..

جلست لأكتبه بضمير غير مستريح..مع شعور مزعج بأننى نسيت شيئاً مهماً-لا أدرى كنهه بالضبط-..

كن بلسماً كقريب الأخت"سوسن"!

ابتسمت لنفسى بسخرية و أنا أخط البيت و بذهنى يطوف كلام"سوسن"الممرضة،و صورة "فاطمة"الشاحبة منتفخة العينين!

كان من المفترض أن أذهب اليوم لإستلام نتيجة التحليل..لكننى لم أعد راغباً فى معرفة نتيجته-و هى معروفه سلفاً-كل ما هنالك أنها ستقع عبئاًعلى ضميرى..سيكون من الواجب إخبار الصبية و أمها بالخبر الأسود..بينما لا يمكننى العودة إلى هناك تحت أى ظرف!

لإننى-ببساطة- لا أريد أن أُقتل على يد"بيجو"و أصدقائه الأوغاد..

لكنك ستموت فى الحالتين..لأنك مريض بالسرطان!

.. همس الصوت فى أذنى فانتابتنى رعدة مفاجئة..تباً لك يا"سوسن"!

لقد وضعت أصابعك داخل الجرح المفتوح..لم أكن بحاجة لكلماتك التى أسقطت القلعة المتقنة التى بنيتها من أوراق اللعب..

ليتعرى ما كنت أحاول أخفاه حتى عن نفسى!

ربما كنت قليل الخبرة..لكننى لست غبياً..و أدرك بالضبط معنى أن أفقد اكثر من سته و عشرين كيلو جرام من وزنى -دون سبب-إنه السرطان بالتأكيد!..سرطان الدم على الأغلب..

كنت أرجح أن يكون البنكرياس ..لكن مادام تحليل السكرى بالدم سلبي..فيمكننا إستبعاده مؤقتاً..

ليتنى أكملت الفحص المعملي حين أجبرنى د"نعمان"على الذهاب إلى معمل المستشفى فى ذلك اليوم !

رن جرس الهاتف فى الصالة..فلم أخرج للرد عليه..ربما كان الطالب أحد مندوبى الشركات يحاول تسويق منتجات شركته على الهاتف كالعادة..عاد يرن فى إلحاح دون مجيب!..

**********

تواصل رنين الهاتف..كأنه لا يوجد أحداً بالمنزل ليرد عليه!

ماما!

خفق قلبى فى هلع،و قد وقع فى ظنى أنه قد أصابها مكروه.. جريت لأبحث عنها فى حجرتها..تعثرت قدمى بالتسريحة فى الغرفة المظلمة..قبل أن أضيئ مصباح النيون الذى ترقرق ليضئ الغرفة الخالية!

السرير مرتب..و الغرفة منسقة-كالعادة-..بحثت عنها فى المطبخ..ثم طرقت باب الحمام المظلم..ليست بالداخل..لكننى فتحت الباب على سبيل التأكد،و أضئت مصباحه الصغير ..

ربما ذهبت لشراء الخضروات من السوق القريب؟

اليوم الخامس عشر من الشهر ..لقد نسيت !

أنه موعد صرف معاش أبى ..

يبدو أنه ذهبت لتصرفه ،و لم تحاول إخبارى مظنة إننى نائم!

أخيراً هدأ قلبى المتواثب و انقطع رنين الهاتف فى نفس اللحظة!

ساد سكون يثير الضيق و الكآبة فى النفس..جعلنى أتسائل فى أسى ..كيف تمر الأوقات على أمى و هى وحيدة هكذا؟..حتى حين أعود للمنزل-نادراً-..أقضى جل وقتى بالنوم!

إن هذا البيت الكئيب بحاجة لطفل يبعث الحياة فى أرجائه..و أزداد شعورى بالكآبة..هذا إن عشت-طبعاً-حتى أنجب هذا الطفل..

أحنُّ إلى

خبز أمي

وقهوة أُمي

لمسة أُمي..

وتكبر فيَّ الطفولةُ

يوماً على صدر يومِ

وأعشَقُ عمرِي لأني

إذا مُتُّ ,

أخجل من دمع أُمي !



طافت أبيات الشاعر"محمود درويش"برأسى كترنيمة حزينة..جعلتنى على وشك البكاء!

رباه..أمد فى عمري حتى لا تعانى أمى هذا الوجع..

مازلت صغيراً على الموت!

******

فى الصباح التالى قابلت"نادين"فى المستشفى..و ما أن رأتنى حتى صاحت بدهشة:

- "مجد"!..أنت رجعت الشغل أمتى؟

قلت مبتسماً بإبتهاج لعودتى للمستشفى:

- طب قولي صباح الخير الأول!..رجعت النهارده الصبح..رغم إن التحقيق لسه مخلصش!

- صباح الخير الأول ..قالتها بعجلة قبل أن تسأل:

- د"مصطفى"لغى قرار وقفك؟!

- متهيئ لى د"مصطفى"ده لو يقدر يشنقنى مش هيتردد!..لأ يا ستى د"محمد حربى"هو اللى أتصل و زعق معايا..قالى أنت ما تجيش المستشفى إمبارح ليه يا ولد؟.. أنت بتستعبط؟!..قلتله د"مصطفى"وقفنى لحد ما التحقيق ما يخلص..طلع ما يعرفش حاجه عن الموضوع..بس قال لى تعالى و أنا هاتصرف مع د"مصطفى"!..و الله خايف بدل ما د"حربى"يقنع د"مصطفى"يرجعنى الشغل..التانى يقنعه يرفدنى!

- لأ..إن شاء الله خير..ما تقلقش!

- صحيح يا"نادين"..هوا فين تليفونك؟باتصل بيكى عليه ما بترديش!سألت فى عجب،فأجابت:

- تليفونى ضايع فى المستشفى بقاله يومين..دورت عليه فى كل حته ملقتهوش!قالتها"نادين"قبل أن تضيف مازحة:

- الظاهر إنى نسيته فى بطن"بدرية"!

سألتها بدهشة :

- و أنت أيه علاقتك بالولادة؟!..أنتى مش بتتمرنى جراحه عامه؟

ردت بسرعة:

- لأ..ما هوا انا قولت أدى للنسا و التوليد فرصه تانيه.بس شكل الجراحه ورايا ورايا.. الدكتور و هو بيولدها فتح لها المثانة..فاضطر يخيطها و أنا كنت معاه!

وضعت يداى فى جيوب معطفى..وقلت مازحاً:

- يعنى زميلنا د"هشام" من أسبوع سايب الراجل ينزف لحد ما دمه أصفى..و دكتور النسا فتح مثانة الست،و هو بيولدها..و أنتى ناسيه موبايلك فى بطنها ..و عادى!..أنا عشان سبت المريض دقايق رجعت..لقيت نفسى متحول للتحقيق!

ردت ضاحكة:

- المفروض كانوا يدوك جايزة الدوله التقديرية!

قلت مبتسماً:

- شوفتى الظلم و النبى!ثم أضفت ضاحكاً:

-عموماً لو كنتى نسيتى الموبايل فبطن المريضة فعلاً مش فأى حته تانيه.. فالحسنه الوحيده إنك هتلاقيه!..

"أيه اللى جاب البنى آدم ده هنا؟!"هتف د"مصطفى" فى إستنكار-حين رأنى-رميته بنظرة مغتاظة..و تنهدت فى ضيق..فى حين أجابت"نادين"بسرعة:

- د"حربى"أتصل بيه و قال له........

قاطعها و هو يحدجنى بنظرة نارية:

- ماشى ماشى..مش مهم!

و أضاف ساخراً:

- أهى فرصه كويسه يودّع زمايله..إحتمال ما يشوفهمش تانى!

قالها و سار مبتعداً..و معطفه الأبيض يتطاير حول كرشه!..بينما"نادين"تتسأل بعجب"

- ماله ده؟!

********

"د"محمد حربى"جه؟!"سألت أحدى الممرضات التى أجابت فى ملل:

- الساعه بقت عشره..مادام مجاش لحد دلوقت..يبقى مش جي!

نظرت لساعتى بضيق..إنها العاشرة بالفعل!..

ما دام لا يريدنى فى أمر هام -كما قال-فلماذا طلب إلي الحضور فى موعد الدوام الصباحى؟!

لا بأس..رب ضارة نافعة..مادمت هنا و لا أعمل..يمكننى الذهاب للمعمل لإجراء بعض التحاليل!

طويت معطفى و وضعته بالحقيبة..و ذهبت إلى المعمل الذى أحتشد المرضى أمامه فى طابور طويل غير منتظم..

أخيراً وجدت مكاناَ لأقف فيه..عندما دفعنى أحدهم فى كتفى من الخلف..صائحاً:

- أنتا رايح فين؟!..دا دورى!

ألتفت لأتشاجر مع الواقف خلفى ..فوجدت كهل أربعيني يضع يده على وجنته اليسرى المتورمة..فقلت بأدب:

- متأسف..حضرتك أخر الطابور..و أنا وراك؟

سأل الرجل ساخطاً:

- أخر الطابور أيه؟!..أنا أول واحد فى طابور الأشنان!

نظرت مضيقاً عينى-ليتنى أحضرت النظارة- للافتة المعلقة"عيادة أسنان"..لقد كنت أظنها دورة مياه!

- أمال فين طابور المعمل يا حاج؟!

أشار بيده نحو طابور أغرب من الذى نقف فيه من حيث الشكل و الكثافة..يلتحم مع طابور عيادة المسالك البولية..و بعده هذا الطابور كعجين واحد ملتصق..و صاح بغضب مبعثه الألم الذى يشعر به:

- هناك..طابور المعمل..هناك!

تركته مفكراً فى كم الإحباط الذى سيصاب به..حين يرفض الطبيب خلع ضرسه ،لأنه متورم..و بحاجة للعلاج بمضاد حيوى قبل الخلع!

- لو سمحت ؟..ده طابور المعمل؟..مسالك؟!..أسف!

******

وقفت فى طابور المعمل الذى دخلته بمعجزة،قرابة الساعتين..كل دقيقة أو دقيقتين يأتى من يدعى أن دوره أمامى أو أمام واحد أخر...ليأكد الجميع فى حماس..إنه دوره فهو حاجز من ساعة..من ساعتين.. من أول أمس!

..الخلاصة أكتشفت أنه لا أمل لى فى الوصول إلى ذلك المحراب المقدس..

لكننى ظللت واقفاً على سبيل تزجية الوقت!

"بس يا غجر!..كله يقف فى دوره و هو ساكت"ألتفت ورائى لأرى من ذلك الوغد الذى يسب الواقفين دون تمييز..فوجدت رجلاً يقف أمام باب عيادة المسالك القريبة من مكانى فى ذيل طابور المعمل

- الصوت يا بهايم ..الدكتور جوا مش عارف يشتغل!قالها الوغد و هو يخبط على الحائط بخشبة مستطيلة كالمسطرة،تشبه عصا أستاذ"حبشى"ناظر مدرستى الإبتدائية..

صحت -من موقعى-مستنكراً:

- و أنت بتزعق ليه يا بنى آدم أنت؟!..ما تخلى عندك شوية ذوق..و تعامل الناس بإحترام!

زعق ذاك الشخص المجهول -أظنه ممرض-بأعلى صوته:

- الإحترام ما ينفعش مع الأشكال اللى شبهكوا!..و بعدين واقف بتزعق مكانك ليه؟..ما تيجي كدا توريني نفسك!

الأشكال اللى شبهنا!

ذهبت إليه لأريه نفسى-كما قال-قلت بغضب:

- أدينى جيتلك أهه..هتعمل أيه؟..هتضربنى؟!

ربت رجل مسن على كتفى مهدئاً:

- معلش يا ابنى.. حقك عليا.. ما هو معذور برضه..أديك شايف الزحمة و الخنقة اللى أحنا فيها..شكلك أول مره يجي مستشفى حكومه!

..أنا عايش هنا يا حج!كدت أن أقولها له معترضاً..حين إنبرى مدافع أخر..قال لى لائماً:

- و بعدين أنت محموق عليهم ليه؟!..مهما غجر فعلاً..و ما ينفعش معاهم الذوق!

ابتسم غريمى فى سماجة،و هو يضرب يده بالعصا..حتى توقعت أن ييقول لى آمراً:

- أفتح أيدك..هاتضرب عصايتين !

لكنه قال بسخرية:

- أهوا الراجل الطيب قالك أهه..روح شوف بقى كنت واقف فين!

نظرت إلى حيث كنت واقفاً..و قد ألتحم الناس بحيث لم يعد لى مكاناً بينهم..و قررت ألا أضيع المزيد من الوقت،فى محاولات لن يكتبالنجاح غالباً..

سامحك الله يا د"محمد"!

أنسحبت خجلاً..و قد ضايقنى أن الوغد لم يشك و لا خطر بباله أننى طبيب..ليتنى أحضرت النظارة!

ثم من هؤلاء الناس غريبى الأطوار ؟!..لماذا وقفوا مع من يهينهم ضدى..بينما - كل ذنبي-إننى حاولت الدفاع عنهم..أصبحت أنا المخطئ؟!

و بينما كنت أفكر فيما سأفعل الآن وجدت د"محمد حربى"يتقدم مجموعة من الأطباء الشبان-لا أدرى-إلى أين..سعيت خلفهم بسرعة..منادياً:

- د"حربى"لو سمحت !

ألتفت إليه متفاجئاً و وقف مكانه..سأل حين بلغته:

- ايه ده؟"مجد"؟!..بتعمل أيه فى الcorridor؟

********

قلت بدهشة:

-حضرتك أتصلت بيا امبارح..و قولتلي أرجع شغلك!

رد سائلاً بإستغراب مماثل :

- طب و ما رجعتش شغلك ليه؟!

قلت فى إحراج:

- أنا مش عارف المفروض أشتغل فين دلوقت يا دكتور..هارجع قسم الحروق،ولا هافضل فى الغسيل الكلوى!

رد فى إستهجان:

- ده كلام!..ما رحتش وحدة الغسيل ليه؟!

- حضرتك..أنا كنت وردية ليل..و حضرتك قولتلي أجي تمانيه الصبح..فتصورت إن حضرتك هتنقلنى!

ردد فى إستغرب:

- أنا قلت لك تعالى الصبح!..أيوا أيوا..أفتكرت..طب ما روحتش عالحروق ليه؟

- روحت يا دكتور..لقيت دكتورة جديدة أشتغلت بدالي مع د"طارق".

حك ذقنه الحليق مفكراً..ثم قال:

- لا ..دى تلاقيها "عبير"خطيبته بتزوره!

قلت بعجب:

- بس د"طارق"مش خاطب!

نظر لى بغضب :

- مش خاطب أزاى يابنى!..لأ دا خاطب من خمس شهور..

ثم إنبسطت أساريره فجأة .. قال كأنه يحدث نفسه:

- لأ..دى"عبير"اللى مخطوبة ل"تامر"اللى بيشتغل فى المستشفى التانيه باين!

يا خبر أسود!

من دون كل أطباء المستشفى.. لا يتصدى لحل مشكلتى سوى هذا الرجل فاقد الذاكرة..الذى تجاوز الستين!

مسحت على وجهى فى حنق..قلت :

- مش موضوعنا يا دكتور !..دلوقت حضرتك أنا هاروح فين؟..حضرتك كلمت د"مصطفى"؟!

صمت محتاراً..كما توقعت لم يكلمه..

قلت بإحباط:

- طب يا دكتور شكراً!

- أستنى بس ..أنتا رايح فبن؟..سأل مدارياً إحراجه..فقلت محاولاً إخفاء ضيقى:

- هاستنى شويه ممكن أعرف أيه وضعى بالظبط..على مالضهر يدن بعدها هاروح النيابه الأدارية..عندى تحقيق الساعه أتنين.

نظر فى ساعته..قال:

-الساعه لسه أتناشر و نص..يعنى فاضل حوالى نص ساعه*..

صمت يستجمع أفكاره..فقلت لإنقذه من حيرته:

- ممكن تسجل نمرة تليفوني..لو حضرتك عرفت أيه المطلوب مني بالظبط..يا ريت تبلغنى فى البيت..أكون شاكر لحضرتك جداً!

تنفس الصعداء مبتهجاً..قال فى سرور:

- أكيد..خد أنتا كمان نمرة تلفوني..عشان لو عايز...

بتر عبارته بقلق حين لاحظ نظرتى المستغربة..قلت بدهشة :

- بس أنا معايا النمره..حضرتك إديتهالي !

- آه..مانا فاكر إنى قولتهالك قبل كده..بس أفتكرتك نسيتها..أو ضاعت منك!..مش يجوز؟

أصابنى تصريحه بالصدمة..فقد نسى أنه أعطانى رقم هاتفه بالأمس فقط -حين أتصل بمنزلى-..لكننى قلت بأسف-على حاله-:

- آه ..طبعاً يجوز!

******

رن هاتفى المحمول ..و أضأت شاشته برقم"نادين"..رددت بلهفة-حتى إنى نسيت توصيل السماعة-يبدو أن من عثر على هاتفها يتصل ليعيده..قلت له مرحباً :

- السلام عليكم

ففوجئت بصوتها الحبيب يرد:

- و عليكم السلام!

سألتها بدهشة:

- رجعتى التليفون أزاى؟!

- "سابرينا"الممرضه لقيته،و رجعتهولى!

قلت مصححاً:

-"صابرين"بالصاد يا دكتورة!

ردت معاندة:

- بس هى اسمها"سابرينا".. مامتها مسميها كده..أصل مامتها روسيه!

- و ده من أيه على كده؟!..مستشفى كفر البلاص..بقى فيها"سابرينا"!..يلا ..ما علينا!..المهم أنتى عامله أيه؟و إزيي ماما و بابا و"عمرو"؟

ردت بسرعة:

- أحنا كويسين الحمد لله..بس أنتا طمنى إيه أخبار التحقيق؟

قلت بقلق:

- ربنا يستر..الموضوع طلع ماليان عك..و شكل العبد لله الفقير،المعترف بالعجز و التقصير،اللى هيشيل الليله كلها!

سألتنى بقلق:

- ليه؟..هوا أيه اللى حصل؟!

قلت بتنهيدة متعبة:

- فاكره الدوا اللى كان بقاله أسبوعين ناقص من وحدة الغسيل؟

- أيوا ماله؟

- طلع مش ناقص و لا حاجه!..و بيتصرف للمرضى-على الورق -طبعاً..و أنا زى الأهبل و لا دريان بحاجه!

سألت"نادين":

- بس أنتا لسه منقول جديد..و ملكش دعوى بالموضوع ده!

- عارف بس..حاسس إن لسه فيه مفاجآت تانيه..شكل فيه توريطه..combine معمول ضدى..لسه مش واضح بالظبط!

- طيب و د"حربى"عمل أيه مع د"مصطفى"؟

- لأ معملش!..لما قبلته صدفه ..طلع ناسي الموضوع كله..مش متأكد إن كان فاكرني أنا شخصياً ،و لا لأ!..لدرجة إنى توقعته يقولّي ..أنت مين!..أو أطلع بره يا ولد؟!

قالت"نادين"فى إستهجان:

- أنا مش عارفه بس واحد زي د"حربى"ده ..عدى سن المعاش..أيه اللى خلى اللجنه تمدله خمس سنين كمان؟!..دا Alzheimer مدمره!

و رغم أن هذا كان رأيي بالحرف..فقد شعرت بالإستياء من كلماتها التى بدت نوعاً من الجحود..قلت مغموماً:

- أكيد لما مدّواله ماكنش كده!

- المهم إن د"طارق"مباقاش محتاج حد يسعده..بعتوا له دكتورة جديده ..و ما ينفعش أروح لدكتور"مصطفى"أسأله ..خاصة إنه هو اللى وقفنى عن العمل..و متهمنى بإنى حاولت أضربه يوم الواقعه!

سألت"نادين":

- خلاص كده؟..هتقعد فالبيت على مالتحقيق ما يخلص؟

- الأمر لله ..هاعمل أيه؟..بس أنتى أدعى تعدي على خير!

يتبع


الجزء العاشر عش الدبابير!
"ايه مالك بتبصلي كده ليه؟!"سألت"نادين"بإستغراب..عندما لاحظت إننى أراقبها مبتسماً -و هى تأكل-قلت بمرح:

- مش قادر أصدق نفسى إنى قاعد بتغدى معاكى!..لأ و هاشوفك كل يوم..انتى حلوه أوى النهارده ..مش عارف ليه بشوفك أحلى بالنهار!

ردت ضاحكة:

- عشان باكون لسه صاحيه من النوم fresh..لو شوفتني بعد كام حالة ولاده إحتمال نتطلق!

- أنتا بقى اللى كل ما بشوفك باتصدم ..لما بنتكلم فى التليفون بتخيلك دبدوب زي ما كنت الأول ..و بنسى خسيت قد أيه..لحد ما أشوفك!

قلت بعجب:

-أنتى أيه يا بنتى!..حاولى تستمتعى باللحظة..

- والله مانا عارف أشكر دكتور"نعمان"أزاى عشان رجعنى الشغل..خاصة إنه رجعنى عيادة الباطنة...كده أحسن ..أنا أساساً مكنتش حابب أروح قسم الحروق و أقعد بينهم زي العذول!..

سألت"نادين"بإستغراب:

- قصدك على مين؟!..د"طارق"و "مى"!..ده زمانه معقدها فى عيشتها.

أسمها "مى"!..أسم يليق بصاحبته فعلاً..قلت مبتسماً:

- أو هى فكت عٌقده..تصورى اللى كنت بجر الكلمه من بقو ..رحت لقيته قاعد يرغى ..واكل ودان البنت!

ردت"نادين"ضاحكة:

- لأ وهى ودانها تستاهل الأكل فعلاً!

- فعلاً!

-أفندم!سألت"نادين"محتدة..فأجبت محاولاً أستدراك خطئي المقصود:

- قصدى أسألك ..أصلي ما خدتش بالى هى محجبة و لا لأ!

ردت بغيظ:

-لا والله!..يعنى ماخدتش بالك من الشعر الحرير و العيون العسلية؟!

قلت ضاحكاً:

- لا صغير أنا..مباخدش بالى من الحاجات دى!

ردت بضيق:

- ماشى يا نونو!

قلت ضاحكا:

- الله!..مش انتى إللى قولتي؟!..عموماً ما تزعليش..لو الfemales إللى فى المستشفى كلهم وقفوا بالبكيني فى الإستقبال..مش فارقه..انا اساساً بشوف بالعافيه!

و ابتسمت مضيفاً بسخرية

- ده إذا افترضنا طبعاً إن دولfemales أصلاً!

قالت"نادين"مغتاظة:

- so cute baby..هى الحكاية وصلت للبكيني كمان..دا أنتا حالتك صعبه خالص!

- آه و الله..ألحقنى و أجوزني قبل ما أدور على حل شعرى و أعملكوا فضيحه!

قالت و قد زادتها حمرة الغيرة جمالاً- من قال أن حمرة الخجل أجمل الألوان-لم ير محبوبتى حين تغار و تغضب!

- على فكره ما بحبش الهزار ده!

آه..كم أهوى غيرتك!

دائما تشعريني بأننى مرغوب..بينما لا أعتقد أن هناك أنثى تتحلى ببعض العقل-سواك- تقبل ترتبط بى..أحيانا أشك في أنك مجنونة لأنك قبلت بالخطوبة!

قطع افكارى صوت انثوى يصيح بإثارة و إنفعال:

- ألحقوا يا جماعه!..دكتورة"مريهان"جت المستشفى راكبه عربيه مرسيدس!

****

وقفت مع"نادين" أراقب "مريهان"-التى بدت كسيدة أعمال - بتيرها الكحلى الأنيق و هى منهمكة فى إحتضان و تقبيل الطبيبات اللواتى كن يهنئنها بالمرسيدس السوداء-الشبكة-التى أهداها لها الطبيب الستينى الشهير"خيرت صفوان"صاحب مستشفى و معامل تحليل "الصفوة"..الذى جلس ينتظرها بالسيارة حتى تنتهى من توديع زميلاتها-كما قالت-أو التفاخر عليهن-فيما أظن-بينما تردد تعيسات الخط التهانى و التبريكات!

- ألف مبروك يا"مريهان.قالتها"نادين"و هى تحتضن الأخيرة و تقبلها من خديها

- الله يبارك فيك يا"دودو"عقبال فرحك..سمعت إنك مخطوبة!

عقدت ذراعاي متحدياً،و إبتسمت لها فى سماجة..قلت مؤكداً:

-أيوا.. مخطوبه للشماعه اللى واقفه جنبك!..عموماً مبروك يا دكتورة أنتى تستهلى كل خير!..متأسف مش هاقدر أسلم عليكى عشان لسه عامل check up لمريض عنده hemorrhoids..و نسيت أغسل أيدى!

نظرت لى "نادين"بدهشة..بينما أرتسمت على وجه"مريهان" الوسيم أعتى علامات الإشمئزاز..و قالت فى غيظ:

- لأ مانا مكنتش هاسلم عليك أصلاً!

جاوبتها بابتسامة مستفزة

هل تشمئزين من البواسير يا حلوتى!

أدهشني كيف لم ألاحظ كم هى فاتنة إلا الآن..كأنما مكياجها القديم-أيام الكحرته-كان يخفى جمالها..على عكس اطلاتها الناعمة الأنيقة التى لابد أن تكون كلفتها مرتب عشروميت طبيب من امثالى!

"وقعت واقفة"كما قال المثل ..أو كما تظن نفسها ! فقد كنت أرى الفخ الذى غفلت هى عنه .. تظن العجوز المغرم بها لقمة سائغة..و نسيت أنه أنجب ثلاثة ذئاب حذرة ..د"منذر"و د"مازن"ود"محمود".. لن يسمحوا لها بسرقة أبيهم.

خاصة د"منذر"الأبن الأكبر لدكتور"صفوان" الذى بنى ذلك الصرح مع أبيه..و دعونا لا ننسى دكتورة"دينا"ام أبيها و أخوتها الثلاثة!

أعلم يقيناً أنها ستخرج من جنتهم خاوية الوفاض..حتى أن الموقف ألهمنى مطلع قصيدة شعرية..تقول:

ظنت بأن طريقها إلى العلا مفروش بالأزهار

و قد قرأت على جبينها للغيب أسرار

و أنها عن قريب ستغدو اسطر فى جريدة الأخبار

أو ضيفة فى برنامج خلف الأسوار!

أعتقد أن الوزن مكسور فى البيت الثانى ..لكن لا بأس.. لا أدرى ما سر غرام الأطباء بنظم الشعر الردئ- بإستثناء- طبيب الشعراء د"إبراهيم ناجى"و د"أحمد خالد توفيق"طبعاً..لكن عامة الأطباء يقرضون شعراً فى غاية السوء!

"هتوحشوني اوى يا بنات"قالتها"مريهان"و قبلاتها الطائشة تطير فى الهواء حولنا..قبل أن تضيف بعجلة:

- مضطره اسيبكم و أمشى..عشان"خيرت" مستنيني فى العربية..

هذا هو طموحها من البداية..رجل ثرى ينتظرها فى سيارة فارهة..

ليس طبيب بائس يعمل فى مستشفى حكومى..

حتى و إن كان نائب المدير!

راقبت إنصرافها متسائلاً..هل علم د"مصطفى"كارنتينا بالخبر؟!

مستعداً لأدفع نصف عمرى-فقط- لأرى تعابير وجهه الآن!

- مسكين.. صعبان عليا أوى!

قالتها"نادين"..فالتفت إليها و،سألت مندهشاً:

- مين ده اللى صعبان عليكى؟!

ردت بدهشه:

- دكتور"أحمد"طبعاً!..أنتا متعرفش إن هما كانوا فى حكم المخطوبين؟!

يا خبر أسود!

يبدو أن هذه الفتاة لم تكن تضيع وقتها !..

-"أحمد"مين؟.. "وهدان"و لا"عبد السلام"؟!سألت مستنكراً..فأجابت:

-لأ.."أحمد شاكر"!

*******

"انتا المره إللى فاتت قولت إنك قبل ما بتدى المريض"٠٠٠٠٠٠٠"لازم الأول تحسب الجرعه حسب وزنه و عمره و حالته الصحيه..ده إللى المفروض يتعمل.. و لا ده إللى بتعمله فعلاً"سأل المحقق..فأجبت بثبات:

- ده إللى بعمله عشان هوا إللى مفروض يتعمل.

عاد يسأل:

- يعنى ده إللى عملته مع المريض ليلتها؟

- أكيد.

- طيب ممكن يا دكتور تفسرلى..ايه إللى ممكن يخلى المريض فى حاله زي حالتنا دى يدخل فى حالة تسمم دوائى؟!

قلت بثقة :

- ممكن فى حالتين ..يأما يكون الحديد بيتراكم فى دم المريض نتيجة ان حالة الكلى مش بتسمح بالتخلص منه على طريق البول أو يكون المريض أخد جرعه زيادة dircate.. عن طريق الحقن الوريدي..أو مع المحلول

سأل المحقق:

- و تعتقد أى حاله من الحالتين حصلت مع المريض بتاعك.

قلت متئنيا:

- أعتقد و لا حاله من الإتنين..لسببين الأولانى إن المريض بنفسه قرر أنه ماخدش أى أدويه من بره المستشفى..و بمراجعة تحليل الدم بتاعه بنلاقيه عنده انيميا ..Plus إنه الدوا ده ماكنش بيتصرف لمرضى الغسيل الكلوي لأنه ناقص من صيدليه المستشفى..حتى إنه ماكملش الكورس المره إللى فاتت

قاطعنى المحقق:

- و التحليل ده حديث؟

- لا مش حديث..

- و ليه مطلبتش تحليل دم تانى ؟

تنهدت فى تعب:

- حضرتك ماهوا مادام مكملش كورس العلاج بتاعه ،نسبة الحديد فى الدم مش بتتحسن لوحدها..خصوصاً ان الكلى out of area يعني إنتاج الRed blood cellsمتوقف!

قال المحقق بهدوء:

- يتبقى الاحتمال التانى..إنك تكون أديت المريض جرعه مش محسوبه كويس من الحديد ..عملتله تسمم!

- wait a minute! ليه حضرتك مفترض إن المريض أخد جرعه زياده..ممكن يكون عنده حساسيه من ال medicine ده تحديداً.

قال المحقق باتهام:

- أولاً -لو كلامك صحيح -يبقى معندكش مهنيه خالص..لأنك معملتش للمريض اختبار حساسيه ،و لا طلبت منه تحليل دم..ثانياً لأن الممرضه المرافقه معاك قالت كلام تانى خالص غير إللى حضرتك بتقوله!

*******

"مجد"انتا فين؟!ممكن ترجع المستشفى دلوقتي؟

حدثتني "نادين"على الهاتف ،قبل تضيف بصوت تخنقه الدموع:

- بابا تعبان أوى!

سألت بقلق:

- تعبان عنده أيه؟

قالت من بين دموعها:

- heart attack

- مين معاكى دلوقتى يا"نادين"؟

- ماما معايا..و عمرو جاي فى الطريق.

قلت مهدئاً:

- طيب أهدى ..دقايق و أكون عندكوا.

********

- عامله أيه يا حبيبتى؟..أيوا لسه فى المستشفى مع"نادين"..عمى "سمير"؟

- ..هوا لسه فى العنايه بس الحمد لله حالته مستقره..

- لأ..هطلع من هنا على المستشفى التانيه إن شاء الله..أتعشي و نامى أنتى يا ماما..و متنسيش تخدى الدوا..تصبحى على خير

جلست بجوار"نادين"قائلاً:

- ماما كانت بتطمن على عمى..الحمد لله هوا أحسن كتير.

سألت بشك:

- أمال دكتوره"خلود"منعانى أدخل عنده ليه؟

قلت شارحاً:

- أنتى عارفه ممنوع حد يدخل العنايه غير بتوع العنايه..أحنا هنا لسه بندرس فى سنه أولى!

- هوا ايه اللى حصل خلى عمى يتعب بالشكل ده؟!

فى الإضاءة الخافته أمام حجرة العناية ألتمعت الدموع فى عينيها..قالت بتنهيدة حائرة:

- مش عارفه أيه اللى حصل بالظبط..هما ماما و بابا كان بقى لهم كام يوم بتوشوشوا مع بعض..أعتقد حاجه ليها علاقه بالفلوس اللى بابا دفعها للراجل إللى فى الجيش..عشان يتوسط ل"عمرو"..و سمعتهم مره بيقولوا إن الراجل مطلعش رتبه فى الجيش و لا حاجه..و لا طلع شغال فى الجيش من أصله..يعنى نصب علينا!

- أنا عارفه أنتا هتقول أيه دلوقتى..أكيد هتقول إن بابا ماكنش لازم يعمل كده..و لا يدفع مبلغ لواحد زى ده..

قلت بضيق:

- ماكنتش هاقول حاجه..أنا أساساً مابقتش عارف أيه الصح و أيه الغلط!

سألت بقلق:

- ليه؟..هوا أيه إللى حصل؟!..عملت أيه فى التحقيق النهارده؟

قلت بحنق:

-خدت جزا إداري..خصموا مكافأة الشهر ده.."سوسن"هانم قالت إنى أديت المريض حقنتين حديد..واحده فى الوريد..و التانيه فى المحلول!

شهقت"نادين"بعجب:

- و أيه إللى خلاها تقول كده؟!

..أو مين إللى خلاها تقول كده!قلت فى سري..و ليس فى بالى إلا د"مصطفى"..

قلت بدهشة ممزوجة بالغيظ:

- إللى هيجننى..إنها كانت عمًاله تعيط..و تدافع عنى بحراره قدام د"مصطفى"..و بعدين تروح ت....

فجأة برق فى ذهنى خاطراً مخيف جعلنى أبتر عبارتى ..و أصمت مذهولاً..هل يعقل هذا؟!

- أيه مالك؟.. سكت ليه؟!

لم ارد على الفور..نظرت مطولاً لوجهها المليح،ثم خلعت عويناتى الزجاجية ،و وضعتها فى جيبى..كنت -بدون نظارتى- أعمى كدجاجة خاصة فى الليل ،و مع هذه الإضاءة الضعيفة..لكننى لم أكن أرغب فى أن أرى أثر الصدمة التى ستخلفها كلماتى على محياها المرهق..

أطرقت ناظراً للارض فى خجل و إرتباك..

- ممكن أكون عملت كده فعلاً؟!

قلت بلهجة تشبه التساؤل ..فردت"نادين"نافية فى حسم:

- لأ..أنا متأكده أنك مش ممكن تغلط غلطه زي دى!

- مش ممكن أكون عملت كده فعلاً و نسيت؟..قلت ناظراً إليها -دون أن أراها- و الشك يذبحنى بسكين ثلم:

- "نادين"..أنا بقالى شهرين بتعاطى ترمادول..

كنت أفرك كفاي فى توتر..عندما شعرت بأناملها الباردة كالثلج تمس يدى..فسرت فى جسدى رجفة كأنما أصابنى ماس كهربائي..امسكت بكفها الرقيق يدى المرتعشة التى اصبحت جلدا على عظم..و ضغطتها برفق ..لم تقل شيئاً..فقط أحاطت كفاي بكفيها ..و سرى دفء مفاجئ بين ايادينا الباردة!

كنت بين يديها كعصفور مهيض الجناح..هوى من السماء فتلقفته على كفيها..

لم تتكلم ..لم تعاتبنى..لكننى شعرت بلمستها الداعمة تقول آلالاف الكلمات و الوعود..

و تزاحمت بداخلى الكلمات..تتسابق و تتصارع..حتى مات اغلبها من التدافع!

- لسه ظهرك بيوجعك؟..سألت"نادين"بحنو..هززت راسى أن نعم..قلت:

- أكتر من الأول..أنتى كان عندك حق..المفروض ابتدى أتعالج..

-أنا جنبك مش هسيبك.

قالتها بشجاعة تحسد عليها-تلك-التى كانت ترتجف خوفاً على أبيها من دقائق ..تجمع أجزائى و تعلن أنها سترمم ما تهدم منى..

أى قوة تلك التى تمتلكها النساء!

******

"بصى يا دكتورة..مش معنى إنى مابشتغلش فى الجيش..إنى معرفش أخدم..أنا صول فى الأمن المركزى..و ليه حبايب فى الجيش و الداخليه..و الكل يتمنى يخدمنى"قالها ذلك النصاب الذى عرفت ان اسمه"صبري"مخاطباً "نادين"..و ثلاثتنا نجلس على ذات الطاولة فى الكافتريا التى حدد مكانها للإحتياط..قلت بحسم:

- أحنا مستغنيين عن خدمات حضرتك ..و ياريت كلامك يبقى معايا..و مالكش دعوى بالدكتوره !..

- و مين الباشمهندس على كده؟..كابتن"عمر"

- أنا دكتور"مجد"خطيب الدكتوره.

قال ضاحكاً بإستخفاف:

- يعنى ده خطيبك على كده؟!..مكنتش أعرف إنك مخطوبه..أنا أفتكرته الكتكوت الصغير.."عمر"باشا..أهيي..أهيى..

الأحمق يظننى"عمرو"أخيها الأصغر ذا الثامنة عشر عاماً..قلت فى غيظ:

- لو سمحت كلمنى أنا..أحنا عايزينك ترجع الفلوس إللى خدتها و كفايه لحد كده!

- الفلوس أتوزعت خلاص..و كابتن"عمر"هيدخل الحربيه زي ماهوا عايز..و لو عايز يبقى تبع الداخليه..عينيا..لكن الفلوس مش هينفع!

بعد مرور قرابة الربع ساعة ..أدركت أن الرجل يمارس المماطلة التى يجيدها..كان يتحدث بإيقاع رتيب منوم .. حتى أنه لولا التوتر و شدة الأعصاب كنت سأنام من الملل!

عندما خطر لى أن أسجل حديثه على هاتفى-ربما-أستطعت مساومته بهذا التسجيل ليعيد النقود..

عابثت أزرار الهاتف تحت الطاولة..عندما قالت"نادين":

- بابا دلوقت بين الحياه و الموت..بسبب حضرتك..و محتاجين الفلوس علشان نقدر نعالجه.

- بسببى ليه يا دكتوره؟..هوا أنا كنت عملت له حاجه؟!سأل الرجل منفعلاً..قبل أن يلتفت إليَ مستنكراً..مد يده تحت الطاولة، و أخذ الهاتف من يدى قبل أن أعترض..نظر لإعدادات التسجيل التى لم تكتمل..و قال بغضب:

- أنتوا فاكريني عيل صغير بلعب معاكوا!..ثم أضاف هازئاً:

- مش بقولك كتكوت..عيب يا دوك مش على بابا الحركات دى!..و بعدين عيب كده.. دا من أمنك لم تخونه يا دوك!

كنت أغلى غيظاً..لم يبق إلا هذا المرتشى النصاب ليحدثنى عن خيانة الأمانة!

وضع هاتفى على الطاولة أمامه..ثم قال مخاطباً"نادين" بتعال و لهجة آمرة:

- هاتى تليفونك..

- مش معايا تليفون..بقاله يومين ضايع!هتفت "نادين"برعب..بينما سحب الرجل حقيبة يدها المفتوحة التى وضعتها بينهما..أمسكت الحقيبة من يده ..و قلت بغضب:

- قالت لك مش معاها تليفونات.. و بعدين كلامك يبقى معايا أنا..ملكش دعوى بيها ..مفهوم!

قال مداهناً:

- مانت كنت هتغدر يا دكتور!..ممكن الدكتوره تكون عايزه تسجل لي هى كمان..طب خلاص خلي الشنطه قدامى و مش هفتحها.

هممت بالإعتراض،لولا ان أزاحت"نادين"الحقيبة ناحيته..و قالت مهدئة:

- خلاص يا"مجد"مش مهم..أستاذ"صبرى"عايز يطمن ..حقه..يا ريت نرجع لموضوعنا..

- و بالمناسبه أنا فكرت فى كلام حضرتك..و أعتقد إن بابا هيفرح أكتر لو "عمرو"أخويا بقى ظابط فى الجيش اكتر من لو أخدنا الفلوس..علشان كده عايزه نكمل الإتفاق!

********

"أيه مالك مدخن ليه؟!"سألت "نادين"حين لاحظت ضيقى،ثم اضافت دون ان تنتظر ردى:

- مضايق علشان الراجل أفتكرك أخويا؟..عادى يا ابنى..انتا فعلاًbaby face..و يمكن دى اكتر حاجه عجبتنى فيك!

قلت بغيظ :

-علشان كده كنتى بتتعاملى كأنى طفل قاعد معاكوا!..أحنا مش كنا متفقين نطالبه بالفلوس بتاعة باباكى؟..رجعتى فى كلامك ليه؟!

قالت بهدوء:

-هوا كده كده مش هيرجع إللى أخده..فكان لازم اعمل كده..علشان ميشكش إنى بسجًل له.

سألت بعجب :

- أنتى سجًلتي له؟!

أخرجت هاتفها- لم يكن ضائعاً-و فتحت الأستديو لتسمعنى التسجيل..فسمعت صوتى يسأل:

-أنتى متأكده إن دى الكافتيريا اللى المفروض نتقابل فيها؟!

- أيوا ..حتى هوا إللى حدد المكان..أهوا جه أهوا.......

"أنتى سجلتي كل حاجه!"قلت منبهراً..قبل أن أضيف سائلاً:

- طب و هنعمل أيه دلوقت؟..هنساومه على التسجيل و نجبره يرجع الفلوس؟

- لأ..مش هنعرف ناخد معاه حق و لا باطل..علشان كده هنروح للمحامى..عارف د"سلمى"زميلتنا خالها محامى..أتفقنا هتتصل به و تحدد لنا معاد

يتبع

سقطة"سوسن"

-عين العقل يا دكتوره..انا حاولت كتير أتفاهم مع والد حضرتك..بس هوا كان مقتنع إنى نصبت عليه..

جلسنا نستمع للتسجيل فى مكتب المحامى-خال زميلتنا-أستاذ "أشرف مكاوى"..الذى قال بعد إنتهاء التسجيل بأسف:

- التسجيل ده مالوش لازمه!

نظرنا لبعضنا فى حيرة..ثم  نظر كلانا إليه فى ضراعة..فأضاف:

- كان نفسى أطمنكوا..بس التسجيل ده مش قانوني..و لا يعتد بيه قدام أى محكمة..بالعكس ممكن يأذيكم أنتم أكتر ما يفيد!

نظرت ل"نادين"مطمئناً،و سألته:

- علشان عمى دفع له رشوه،و ده ممكن يورطه..؟

"مش كده و بس..دا التسجيل من غير أذن نيابه يعتبر جريمه ..فيها حبس و غرامه.. و هوا عارف ده أكيد..يعنى حتى مش هتعرفوا تهددوه بالتسجيل إللى يدنكوا"قالها أ"اشرف"قبل أن يضيف:

- الحل الوحيد نعمل له كمين..و نصوره و نسجل له- بأذن نيابه- و هوا بياخد رشوه..ساعتها يتعمل له قضيه،و يتحبس..

و قد كان!

تم نصب الكمين الذى أستغرق إعداده أسبوع-بمعاونة-أ"أشرف"..و سقط"صبرى"فى قبضة العدالة..فى تلك الأثناء تماثل عمى"سمير"للشفاء و، خرج من المستشفى..و لم يعيد له ذلك النصاب ماله بطبيعة الحال..لكن الغريب أن حماتى ظلت مقتنعة أننا-انا و"نادين"قد أضعنا فرصة"عمرو"فى دخول الكلية الحربية..بتلك الحيلة التى أدت للقبض على الصول"صبرى"!

******

أتصلت ب"نادين"بعد منتصف الليل كعادتنا الدائمة-وقت الرصيد المجانى- 

-ألو..مساء الخير يا"نادين"..أهوا قاعد أذاكر أهوا و أنا باكلمك..و باكتب هوامش و ملاحظات فى الكتاب كمان..عشان متقوليش إنى بضيع الوقت!

قلت مبتسماً بينما بدأت أرسم-عشوائياً- أعلى صفحات كتاب الباطنة الكثير من القلوب السابحة بين نجوم تتلألأ!

ضحكت بعجب،و قالت:

- مش للدرجه دي!..و بعدين مش هتعرف تعمل حاجتين فى نفس الوقت..دي حاجات مبتعملهاش غير الستات..و كمان لازم تكون حاجه من الأتنين إللى بتعملهم مش محتاجه تركيز جامد..حاجه مش مهمه يعنى ..

أضافت بصوت ضاحك:

- يعنى زي  مانا بكلمك دلوقت و انا بذاكرsurgery !

فكرت أنه بمقارنة بسيطة بينى و بين الجراحة..سأكون الطرف الذى لا يحتاج للتركيز!

سألت فى غيظ:

-"نادين" هوا أنا ممكن أشتمك عادى؟!

- تشتمنى؟!.. دانتا خدت عليا أوى!

قلت مازحاً:

-أيوا طبعاً يا بنتى.. أمال الخطوبه عمالوها ليه؟!

- و بالمناسبه أخبار بابا و ماما أيه؟

ردت بضيق:

- أسكت يا"مجد"..ماما مابتكلمنيش من ساعة إللى حصل!

سألت بإستغراب:

- ليه كل ده؟..هى لسه فاكره إن أنتى السبب فإن"عمرو"مش هيدخل الكليه الحربيه؟!

قالت بإحباط:

- أنا مش فاهمه أزاى!..إذا كانت هى عارفه الموضوع كله من الأول..لغاية ما بابا وقع قدامها و هوا بيكلم النصاب ده فى التليفون..و هوا بيقولوه إنه مش هيرجع الفلوس..و هى إللى كانت عايزانى أقابله و أرجع الخمسين ألف جنيه بتوع بابا..

- المصيبه بقى إنها أقنعت بابا كمان،بإن الراجل مش نصاب و لا حاجه..و إن أحنا إللى أتسرعنا و بلغنا عنه! 

سألت فى حيرة:

- طب و "عمرو"رأيه أيه فى إللى بيحصل؟

-"عمرو"بقى قالى قشطه..أنا ماكنتش عايز أدخل حربيه..بس حاساه زعلان!

قلت بسخرية:

- منك برضو!.. لأ أتأكدى يا "نادين"إن دول أهلك فعلاً..يمكن يكونوا لقينك على باب جامع..أو اتبدلتي مكان بنتهم فى المستشفى!

ردت بضيق :

- بذمتك دى حاجه تضحك دلوقت!

- مش بهزر..بس بتريق..الظاهر إنك طفره وسط عايلتك..لإنه واضح إن نسبة الIQ عندهم أقل من سبعين..

بيفكروني بإسماعيل ياسين فى فيلم العتبه الخضرا!

قالت بغضب:

- أنا هأقفل السكه!

- خلاص يا ستى!..الواحد ميعرفش يهزر معاكي؟

- على فكره..رحت النهارده جبت نتيجة تحليل"فاطمة"من المعمل..طلع زي ما توقعت..عندها Kidney failure..

صمتت قليلاً..فتوقعت أنها لا تذكر شيئاً عن الأمر..قلت محاولاً تذكيرها:

-"فاطمة"اخت"حلمى"إللى كنتى بتديله الشيكولاته إللى كنت بجيبهالك!..كنت قولتلك إنى شاكك إن عندها فشل كلوى..طلع توقعى فى محله!

شهقت فى جزع:

- لأ متقلولش!..طيب و دي هتبلغها أزاى ؟!..أوعى تكون ناوى تروح هناك!..

كانت خائفة من أن ينفذ"بيجو"و أصدقائه تهديدهم و يقتلونى..و برغم عدم جدية التهديد-فى رأيي-لن أخاطر..

عرضت"نادين"المساعدة:

- انا ممكن أروح ابلغهم ..قاطعتها محتداً:

- لأ..داحنا بنستعبط يا ست "نادين" ! ..أياكي تفكري أو حتى تحلمي إنك تروحي هناك ..

زفت فى ضيق..ثم قلت بلهجة أهدئ:

- عموماً أطمني ..خلاص أعتبريها عرفت..انا وصيت"عبود"الممرض يروح يبلغ أمها تيجي هى و"فاطمة"المستشفى بكره.

*******

مكثت برهة مبتسماً فى بلاهة-لا أدري لماذا-..أستعيد تفاصيل المكالمة-بعد إنتهائها-قبل أن تختفى الإبتسامة فجأة و يحل العبوس مكانها..حين قفز أمامى وجه"بيجو"الملئ بالندوب..

لم يكمل بعد عامه العشرين-فيما أظن-لكنه يبدو أكبر من عمره-كغالبية سكان العشوائيات-حتى"حلمى"و برغم ضآلة حجمه..كان يبدو أكبر من سنه بكثير..

و انتبهت لأننى رسمت أسفل الصفحة عبارة مطموسة المعالم..لكن بالرغم من ذلك بدت مألوفة بشكل ما!

ص..بيت..لا .. أعتقد أن هذا حرف حاء رغم أن من يره للوهلة الأولى يظنه صاد!

حبيت القلب عذه.."عزة"!

إنه الوشم المنقوش على صدر" بيجو"

اللعنة!

إن من نقش هذا الوشم يستحق الجلد بالسياط..

دعك من انه كتب"عزه"بالذال بدل الزاي..و كتب قلب بالألف بدلاً من ان يكتبها بالقاف..

-بالأضافة لكل هذا-لا تكد تعرف مراده مما كتب..هل كان يقصد حبيبة القلب أم حبة القلب..

أعلان حب فى صفحة المجتمع ..موشماً على صدر الشقى!

خلاصة الأمر إنه-أقصد-"بيجو"طبعاً و ليس الواشم الذى لا يختلف عنه كثيراً..جاهل و أحمق و مدمن و..

و خطر داهم على فتاة وحيدة..ألقاها حظها العاثر فى طريقه..

خبر آخر يوشك أن يكتب فى مساحة سطرين فى أخبار الحوادث!

محاولة إغتصاب و قتل..

لقد صارت الحوادث من هذا النوع كثيرة لدرجة مثيرة للقلق..

لكن لم يعد لدى أحد الفراغ اللازم ليشعر بالقلق فيما يبدو!

تنهدت فى ضيق..يبدو أن عمى"سمير"كان محقا..

أحياناً أفكر فى احمل مسدساً-أو رشاشاً ربما-و أظل أطلق الرصاص عشوائياً حتى..

حتى ماذا؟!..حقاً لا أدري..

يبدو أننى فى طريقي للخبال!

تنهدت بضيق..أعترف أننى عاجراً عن تقديم العون-حتى لنفسى-ليتنى أمتلك ممحاة تستطيع أن تمحو الأحزان..كما تمحى الأمطار أدران الأرض

 ..أو  كنت أملك قلماً سحرياً يستطيع كتابة النهاية السعيدة..

أو حتى أن أتحلى ببعض المسئولية التى تجعلنى أستطيع أن أذاكر قليلاً لإمتحان الداني ..دون مماطلة..

 أو سرحان!

******

فى الصباح التالى فوجئت بالجميع فى المستشفى يتحدث عن"سوسن"..

لأنه فى الليلة الماضية..و بينما كنت أبدأ مناوبتي فى المستشفى الثانية..كانت الآنسة "سوسن"تسرق الدواء من الصيدلية..فى مستشفانا..و كان أن رأها النائب الساهر فى تلك الليلة

..و قام بتجريسها على الفور!

و تقرر تحويلها للتحقيق..شعرت ببعض الشماتة بها بالطبع..و بدأت آمل فى أن تكون كاذبة فى شهادتها ضدى..

لكن حين فكرت ببعض الحيادية..وجدت أنه ليس شرطاً أن تكون سارقة، و مدعية فى ذات الوقت..ربما كانت محقة بشأني.. 

خاصة حين علمت أنها قد اختلست بعض أدوية السكر و الضغط..  لأمها المريضة ..لا أبرر فعلها -لكن-ألتمست لها العذر..

إن كانت مرتبات الأطباء ضعيفة..فما بالك بالتمريض!

يبدو أن العبقري الذى حدد رواتب العاملين فى القطاع الطبي...وضع فى.إعتباره أننا كملائكة رحمة..لا نحتاج للمال..بماذا سنحتاجه؟!

الملائكة لا تأكل أو تشرب أو تتزوج..

يكفينا الأجر من الله،و صالح الدعوات..

و نسى سيادته انه لا أحد يستطيع أن يضرب ملاك..أو يسبه بالأم و يلعن أجداده..

كما يحدث معنا يومياً للأسف!..

حين تقابلنا فى نهاية اليوم..قالت"نادين"بلهجة ذات مغزى،و سرور لم تحاول إخفائه:

- شوفت إللي حصل!..دا ذنبك على فكره!

لم أعلق ..فسألت بدهشة:

- أنتا معرفتش باللي حصل و لا أيه؟!..أمبارح..مع"سوسن"...

قاطعتها لأمنعها من الإسترسال:

- عرفت..و كل واحد ذنبه على جنبه!

صمتت لحظة لتفكر..ثم سألت:

- انتا عامل ايه دلوقت؟..لسه تعبان؟..كنت قلتلي إنك هتحلل من كام يوم..و من ساعتها لا حس و لا خبر! 

قلت بعجب:

- و انتي شوفتيني فضيت من ساعتها!..لو تفتكري كان عمى فالعنايه..و بعدين أنشغلنا مع إللى أسمه"صبري"ده..ده كله غير الشغل و المذاكره..اليومين دول مش فاضي أموت حتى!

- بعد الشر عليك..ليه بتقول كده!

ابتسمت رغما عني- لخوفها علي- كم انا محظوظا لأنك معي!

..لكن إلى متى؟

أحياناً أشعر أننا قد نفترق -لا أدري لماذا-لكن هذا التصور يدفعني للجنون..الموت أحب إلي من الحياة بدونك..

لكن ألا يحتمل أن يكون الموت هو سبب الفراق؟!

- دكتور"مصطفى"كان عايزك.

سألت بضيق:

- و عايز أيه يا ترى؟!

- لأ ما تقلقش..المره دى حاجه كويسه..

ابتسمت فى سخرية:

- و أيه إللى عرفك إنها حاجه كويسه؟!

- ممكن يكون هيعزمك على خطوبته هوا و دكتوره"شيماء الجزار"..د"شيماء"عزمتني..عزمت كل البنات!

دكتور مصطفى سيخطب!

سألت مستوضحاً:

- قلتي هيخطب مين؟

- دكتوره "شيماء"المقلبظه..يوم السبت الخطوبه..هنروح سوا..

هززت رأسى فى نفي..قلت معتذراً:

- يوم السبت عندى شيفتين..مش هقدر آجي..ممكن أوصلك...

بترت عبارتى حين تخيلت د"مصطفى"محاطاً بالفتيات ك"هارون" الرشيد..و بجواره عروسه الأربعينية المتعجرفة..بالتأكيد سيمد عينيه إليهن و- ربما يديه-مستغلاً سنه المتقدمة..و أنه فى عمر آبائهن..هذا بخلاف التصوير!

قلت بضيق:

-الأحسن بلاش تروحي!..ذاكري جراحه..و لا هى المذاكره ما بتحلاش إلا لما أكلمك فى التليفون!

ردت ببسمة:

- ما يبقاش قلب أسود يا "جوجو" أنا كنت بهزر!.. 

تجاهلت الرد عليها عامداً..عندما مر"عبود"من أمامنا ..سألته بعصبية:

- أيه يا عم"عبود"؟..فين البنت؟

نظر لى متفاجئ..سأل فى حيرة:

- البنت؟..أنهو بت؟!..آه البت..و الله نسيتها!..ثم أستدرك بعد أن لاحظ الغضب البادى على وجهى:

- خلاص يا دكتور هبقى أعدي عليهم و أنا راجع المستشفى...

- يا ريت تروح لهم النهارده و انتا مروح!

- النهارده مش هينفع..عندى مشوار مهم..حنة بنت أبن عم ابويا..هوا أنتا مبقتش تروح هناك ليه؟!

تجاهلت سؤاله السخيف.و قلت منبهاً:

- أوعى تنسى المره دى كمان!

******

قدمت لى الممرضة السمراء ذات الوجه المتبسم حلوى توزعها د"شيماء".بمناسبة خطوبتها"بنبون مما يقدم فى الأفراح..من تلك النوعية التى تلتصق بالأيادى والأسنان.قلت معتذراً:



- شكراً..مش ناكلsweets.

تناولت"نادين"واحدة من العلبة،و دستها فى جيبى..و قالت للفتاة اللطيفة:

- شكراً يا"سابرينا"!

فأنصرفت الأخيرة لتوزع الحلوى على باقي الزملاء

يا خبر أسود!

مالت على أذن"نادين"هامساً:

- هى روسيا أضربت بالنووي أمتى؟!

سألت بعجب:

- ليه بتقول كده؟!

همست فى اذنها :

- عشان دا مش شكل واحده روسيه..دي روسيه من باب الشعرية!

- أتريق بقى على خلقة ربنا!

- مش بتريق و لا حاجه..بس فيه واحده مغفله قلتلى إن فيه فى المستشفى واحده روسيه..فتخيلتها blond..شعر أصفر بقى و عيون زرقا..يااااه!.. يلا منها لله!

قالت"نادين"التى لم ينجح مزاحي الثقيل فى تعكير مزاجها..بذلك الصوت الطفولي المضحك الذى تجيد إصطناعه:

- طب مانا شعري أصفر يا"جوجو"!

ابتسمت لطفلتى المشاغبة.. بحب..

فى تلك اللحظة أقبلت علينا د"شيماء"تزين وجهها المكتنز بسمة خجلى..بدت لطيفة من دون تلك التكشيرة المتعالية التى لم تكن تفارق وجهها..حقاً إن الحب يصنع المعجزات!

سألت"نادين"عنى بصوت رقيق-لا يمت بصلة-لسيمفونيات صراخها فى عيادة الأطفال:

- خطيبك؟

- أيوا يا دكتور.. د"مجد"خطيبى..ردت"نادين"بالإيجاب قبل أن تضيف مشيرة للطبيبة:

- دي د"شيماء" يا "مجد"

كأننى لا أعرفها!

- غنيه عن التعريف طبعاً..ألف مبروك يا دكتور..و عقبال الفرح!..قلت بينما أصافح يدها الممدوة فى حرارة..آملاً أن تكون قد نسيت أنها مسحت بي عنبر الأطفال.. حين أهتزت يدي بينما كنت أخيط جرحاً فوق عين طفلة فى الرابعة-دون بنج-بينما هى تعوى و تتلوى تحت يدى كالأبالسة..و لأخطاء أخرى - لا يتسع المجال -لذكرها أثناء فترة تدريبي!

ضيقت عينيها-الضيقة -بالأساس..و قالت:

- أنا أفتكرتك..شكلك مش غريب عليا!..واضح إنك كنت شاطر زي"نادين"  ..دايما الواحد بيفتكر أشطر الطلاب..

جاوبتها بابتسامة محرجة..و قلت فى نفسي:

- و أخيب الطلاب!

أضافت فى أمومة و هى نتظر ل"نادين"بإمتان الأم نحو أبنتها البارة:

-  خلي بالك منها!

و قبل أن أرد عادت الممرضة لتقول:

-"جابر"طًلع الأنبوبه فوق يا دكتوره 

- طيب يا"سابرينا"..أنا جايه..عن أذنكوا يا شباب؟

- آه طبعاً يا دكتور أتفضلى 

أنصرفت و تبعتها الممرضة التى أستوقفتها قبل أن تذهب..

- لو سمحتى يا آنسه..متعرفيش فين"عبود"الممرض؟

- عم"عبود" لسه مرجعش من الأجازه..أصله أخد أجازه أسبوع علشان يحضر فرح فبلدهم!

******

"د."مجد"..ممكن لو سمحت كلمه"

ألتفت لصاحبة الصوت التى كانت"سوسن"..كئيبة ذابلة العينين من البكاء..عقدت ذراعاي أمام صدرى،و وقفت صامتاً أنتظر ما ستقول..قالت بصوت مبحوح:

- أنا أتنقلت ..و هامشى النهارده من المستشفى..و كنت عايزه أعتذر لك،قبل ما أمشي..و الله ما كنت أعرف إن كل ده هيحصل..أنا أول مره أمد أيدي كانت فى الليله دي..و بعد إللى حصل لعم"صبحى"أنا كنت حلفت إن عمري ما هاعملها تانى..

- مش هافم  حاجه..ممكن تهدى و تفهميني..أيه الحكايه بالظبط؟

قالت بصوت متهدج،و قد بدأت دموعها تتساقط:

- هوا كان عايز مسكن..راحت الصيدليه ما لقيتش غير حقن الحديد،اللى مخبينها على ما يبعوها..مفكرتش..أخدت أربع حقن..و أديت لعم"صبحى"واحده منهم على إنها حقنة مسكن..و هوا أداني عشرين جنيه..مكنتش أعرف أنك هتحط له حقنه تانيه فى المحلول!

- و بعد ما حصل إللى حصل لعم"صبحى"أنا خفت..فقولت أنك أنتا إللى إديتله الحقنتين..أنا آسفه!

أتسعت عيناي فى صدمة..كانت تتحدث عما حدث ذلك اليوم ..الذى كاد عم "صبحى"يموت فيه ..بسبب خطأ طبي لا يرتكبه حمار-كما- قال د"مصطفى"كانت هى سبب ما حدث له يومها..و أتهمتني!

..أصابني إعترافها  بشعور مربك..لم أفرح و لم أحزن..فقد كان أعتذارها المتأخر..أشبه بظهور براءة متهم بعد إعدامه..

مجرد تحصيل حاصل!

و فجأة تملكنى غضب عارم..صحت فى وجهها بغضب مستنكر:

- يعنى أيه أسفه؟!..أصرفها منين أسفه دي ؟..أنتى عارفه اتبهدلت قد أيه بسببك؟!

تراجعت خطوة للخلف مخافة أن أضربها لكننى منعت نفسى من صفعها بأرادة من فولاذ..

مسحت على وجهى لتهدأ سورة غضبي.. قلت من بين أسناني بغضب مكبوت:

- أمشي يا"سوسن"..أمشي من قدامي أحسن لك!


النهاية(يد الله)

فى طريق العودة إلى المنزل..كنت افكر - مستغرباً- ما الذى جعلنى أسامح"سوسن"؟!

فهى - بإعترافها -ورطتني فى أمر لم يكن يعلم مداه إلا الله-فقط- لتنجو بفعلتها..

لا اعتقد أننى سأنسى ما حيت كل ما عنيت-بسببها- من قلق و توتر أيام التحقيق..و الأسوء أنها شككتني فى قدراتي العقلية..!

و بالتأكيد لم تكن دموعها المتزلفة ستجعلنى أتعاطف معها- لولا-أننى قابلت د"مصطفى"!

بعد أن ظللت أؤجل اللقاء أيام..وجدت نفسى أمامه فجأة

..دعاني إلى مكتبه..كان لطيفاً بقدر ما استطاع

..قال إنه يهتم بأمرى..لكن باسلوب يختلف عن أسلوب د"نعمان"الذى بالغ فى تدليلي- برأيه- حتى تلاعب الغرور برأسي - هكذا قال - و صرت أتكبر على من علموني!

قال أنه يعذرني لأن أى شاب فى مكانى-حديث السن،و عديم خبرة-و،يوليه شخص بمكانة د"نعمان"كل هذا الإهتمام من الطبيعى أن ينسى نفسه و يتجاوز حدوده..

لم يكن هذا صحيحاً - برأيي- لأنى أدرك جيداً أن ما تعلمته أقل بكثير مما لم أعرف ،و أن أمامى عشر سنوات-على الأقل - حتى يمكنني أن أعتبر نفسى قد تعلم شيئاً..

و أعلم -يقيناً-إنه حتى إن صدق حدسى فى تشخيص حالة ما..فهذا يحدث - فقط - بتوفيق من الله..ليس لأننى شديد الذكاء أو البراعة!

لكن ما فاجأنى أكثر أن كل هذا الكلام العاطفى..كان تمهيداً لإعتراف أخطر!

لم يكن من شأنى أن أعرف- لكنه- أصر على أن يخبرنى أن"مريهان"خدعته..بينما كان هو يحبها بصدق،و ينوى أن يتزوجها..و إنه لم يقم معها علاقة كاملة..فهى مازلت عذراء!

كل هذا جميل..لكن ما دخلى فيه؟!

عندها فجر أستاذي قنبلته فى وجهى، مصرحاً أن عاهرته العذراء أتهمتني أنى طلبت منها رشوة جنسية..وهددتها بفضح علاقتها به إن لم ترضخ لإبتزازي!

كنت أعرف أنها حقيرة ..لكننى لم أتصور أن تبلغ هذا الحد من القذارة..

ثم لماذا أنا دون كل من فى المستشفى؟!

و برغم إنكارى لم يقتنع د"مصطفى"لأنها سجلت لي تهديدي-هكذا قال-و قد سمعه بأذنيه

..و لولا أنه محى التسجيل من ذاكرة هاتفه لأسمعه لي!

*******

تلفت حولى فى قلق،ودهشة..حين وجدت نفسى فى المنطقة العشوائية القريبة من المستشفى..مجدداً!

لماذا أحوم حول هذا المكان؟!..

كالمجرم الذى يعود دوماً لمكان جريمته!

.منذ علمت بنتيجة تحليل"فاطمة"..و كل يوم تسوقني قدماي إلى هنا - كأنما- صار لهما  أرادة منفصلة عنى..كأنما جئت لأسدد ديناً ..

فلأخبرها بما عرفت أذن لإستريح!..

خاصة أن"عبود"لن يعود قبل أربعة أيام-من يدري- ربما أكثر

 تحسست حبة البنبون الراقدة فى جيبى..مفكراً فى "حلمى"و أخواته الصغار..و تمنيت لو كانت"نادين"وضعت أكثر من واحدة..ربما أربعة أو خمسة..

و قبل أن أتحرك من مكانى.. تذكرت"صفيحة"و"بيجو"و صديقهما الثالث!

ماذا سيحدث إن ظهروا فجأة؟!..لقد حذروني من العودة..و ها أنا قد ذا ضربت بتهديدهم عرض الحائط ،وعدت..

اليوم و أمس..و كل يوم منذ أسبوع كامل!

لا أعتقد أن هذا سيعجبهم..و ربما دفعهم لتفيذ تهديدهم الذى يبدو لي فى هذه اللحظة - بالذات - و مع آخر أشعة الشمس الغاربة..حقيقياً مخيفاً!

و فى لحظة..كنت قد قررت الإبتعاد مؤثراً السلامة..

لم أكن قد فطنت بعد..أن قراري كان متأخراً بعض الشئ!

فمع قصر نظري لم ألاحظ أن ثمة عيوناً تترصدني منذ البداية - من يدرى - ربما رأوني حين جئت أمس و أول أمس أيضاً..

ألتقطت أذني الحساسة حفيف الخطوات المتسللة من خلفي..و من فوق أحد الأسطح المتلاصقة قفز شاب خفيف الحركة..سمعت تكة مطواته و صوت أتحكاك نصلها المرهف بالهواء قبل أن تخترق ظهري ..بالتزامن مع سلاح زميله يخترق صدرى..بحثاً عن قلب نسي نبضه من شدة الذعر

..كنت سأسقط - حتى - دون أن يذبح نصلاً آخر فخذي الأيمن من الخلف!

..غارقاً فى الدماء..أرتجف من الألم..رأيت وجه أحدهم-دون نظارتي -التى سقطت على الأرض،و تهشمت..و هو ينتزع الحقيبة التى سقطت فوقها،من تحتى.. بغلظة!

لا توجد نقود بالحقيبة يا أحمق! 

إنى مفلس تماماً..و لم أقبض راتبي هذا الشهر..

لقد خٌصم علي بسبب غلطة"سوسن"!

همست دون صوت..متأملاً فى وجه قاتلي..

أسمر.. نحيف الوجه..يشبه"حلمى"بعد عشر سنوات..حين يغدو مراهقاً!

ربما سيغدو جانحاً مثله كذلك..لكن لم يعد هذا يعنيني!

كل ما فكرت فيه - وقتها -هو أن الزملاء فى المستشفى سيتعرفون على جثتى..و سيتم دفني بطريقة لائقة..و لن ينتهى بي المطاف فى مشرحة كلية الطب..كما يحدث مع قتلى الحوادث ناقصى الأهلية!

تمتمت بالشهادة و عيناي تنغلقان من تلقاء نفسيهما..و قد غمرني شعور غريب بالإرتياح!

********

راقبت الأطياف البيضاء التى تهيم حولى متسائلاً..هل مٌت؟!

..كنت خفيفاً كأننى أحلق فوق غيمة بيضاء..فى مكان هادئ..مريح لكنه بارد ..لولا البرودة، و رائحة البيتادين لظننتنى فى الجنة!

كنت فى المستشفى..تأوهت على سبيل أداء الواجب..فلم أكن أشعر بأى ألم!

"حمدالله على السلامه..د"مجد"خريطه!"

جاوبنى صوت"نادين"الرقيق الذى أخطلت فيه الفرح بالدموع..لم أر وجهها على نحواً واضح- دون نظارتى-

إبتسمت لها.ببعض الأسى الممزوج بالخجل..لقد أتلفت جسدى على نحو يصعب إصلاحه

 ..تحسست الخياطة فى صدرى من فوق الثوب الرقيق..كم هى صادقة دعابتها!

..لقد صرت كالخريطة تماماً بكل تلك الغرز!

 بصوت مبحوح وحلق متشقق كالأرض الطينية فى موسم الجفاف ..

قلت ،:

- عطشان!

- أستنى شوية ..أنتا لسه طالع من العمليات من ساعتين!

سألت متلمظاً من شدة العطش:

- ماما..عرفت

قالت بعجب:

- ماما؟!..ماما دي إللي عرفت قبل ما إللى حصل يحصل أصلاً!

- أتصلت بيا المغرب،و سألتنى عليك..قالتلي إن قلبها مقبوض كأن حد ماسكه و بيعصره!..قلت لها أنك كويس،و لسه موصًلني..

قالت لي إنها بتتصل بيك..و أنتا ما بتردش على تليفونك..فعلاً لما حاولت أتصل بيك مبتردش..طلعت أجرى على المستشفى..ماما سألتنى رايحه فين..

 قلت لها إنهم أتصلوا بيا فى المستشفى..دقايق و لقيتك فى إستقبال الطوارئ غرقان فى دمك

..كويس إن ماما ما شافيتش المنظر ده كانت راحت فيها!

أخذت شهيقاً عميقاً آلم جروحي المتعددة..و سألت فى وهن:

- هى فين؟

-هى نايمه..متقلقش.. هى كويسه.. أدوها بس حقنه مهدئه..عشان الإنفعال الزياده مش كويس على قلبها.

قالت حين لاحظت صمتي:

- المفروض تحمد ربنا..أنتا مش عارف أنتا نزفت أزاي..الطعنه إللى فصدرك أنحرفت عن القلب سنتي..والطعنه إللى من ناحية الضهر أخترقت البنكرياس و عملتلك نزيف داخلي..أضطروا يشلوه علشان يسيطروا على النزيف..

صمت مذهولاً..لا أدري بما أجيب

تخيل أن تعرف أن قطعة من جسدك سبقتك للتراب!

شعور عميق بالتعاسة لا يمكن وصفه..لا يعرف هذا الشعور إلا من خبره بنفسه..

-عارف بقى لما شالوا البنكرياس بتاعك لقيوا أيه؟..مش هتصدق!

قلت فى كآبة ساخرة:

- يكونوا  لاقو فى "البنك..رياس أتناشر ألف"تمن أوضة النوم إللي كانت عجباكي!

همست بصوت مبلل بدموع العرفان:

- لأ..لقيوtumor..,كل الدكاتره مستغربين أزاي الورم ده منتشرش حوالين البنكرياس..زي مادايماً بيحصل فى الحالات إللي زي دي!

و الأغرب إن الضربة تيجي فى البنكرياس إللي لازم يتشال..دي معجزه!

أصابتني المفاجأة بالدوار...حين علمت بماجرى..تبدل حالي  فجأة من الحزن و الشعور بالفقد و الخسارة.. للفرح بالنجاة من موت محقق ..

ورم قاتل..أزالته طعنة قاتلة!

جراحة عاجلة بأمر العليم القدير.

ما هذا الكرم يا ألهي !

 إلى هذه الدرجة تحبنى يا رب؟!

و هل أستحق كل هذا اللطف و العناية؟!

لو أخبرني أحدهم قبل يوم واحد بأننى سأفرح بأننى فقدت قطعة من جسدي.. و سأحتاج لتعاطى الأنسولين حقناً ما تبقى لي من عمر..لأتهمته بالجنون..

لكننى حقاً أكاد أطير من الفرح!

لأننى مازلت حياً

..لدي فرصة لأصحح أخطائي

..فرصة لأتوب و أندم على ما فاتني..و أعمل عملاً صالحاً يرضى ربي

..و أحسن الظن بخالقي..بأنه لا يظلم و لا ينسى..

و سيرعى"حلمى"و أخوته..كما يرعاني

*******

تعقيب لا لزوم له!

مرحباً..

أنا د"لبنى السعيد"بإعتبار ما سيكون طبعاً..فأنا مازلت فى فترة التكليف..

لقد تخرجت منذ عامين فقط..فى أسوء فترة..بالتزامن مع جائحة كوفيد19..

لكم ان تتخيلوا كيف كانت فترة تكليفي التى أوشكت على الإنتهاء-لحسن الحظ-بينما كان طلبة طب سعداء الحظ يقبعون فى منازلهم..يحاولون إستدراك ما فاتهم من مواد علمية على يوتيوب.أو -ربما- يضيعوا المزيد من الوقت على إعتبار أنه لا توجد فائدة ترتجى من ذلك فهى- خربانه خربانه-!

كنا نحن-الخريجون الجدد- نواجه المرض - حرفياً - بصدورنا العارية،و على جبهة مكشوفة..

بلا أقنعة واقية..أوgloves

ولا غرف عزل..

والعناية مركزة-إن وجدت-فهى بلا أكسجين!
ليس هذا فحسب..فلدينا مفاجأة سارة

لا يوجد حظر!

النتيجة.. أصابة عدد  كبير من الأطباء و الأطقم الطبية،و وفاة بعضهم بطبيعة الحال..ولا تزال الأعداد مجهولة - حتى الآن - وقد أصبت أنا شخصياً  بكوفيد19 مرتين!

فى المرة الأولى لم يصدقنى أحد..حتى تكومت على الأرض بين العزل و العناية!..و فى الثانية قضيت فترة عزلي فى البيت..

بينما فى الثالثة  أدعيت المرض إدعاءاً..لأحظى ببعض الراحة!

و بعد كل هذا..
و بعد وعود و مفاوضات و أتهامات
.. زاد بدل العدوى من 15 جنيه إلى 19 جنيه!

لكننا حظينا كأطباء بتقدير الدولة على هيئة عملة تذكارية..مطبوعاً عليها صورة لجيش مصر الأبيض.!

أحتفظت  بست أو سبع جنيهات منها على سبيل الفخر و الإمتنان..فى حصًالة الفضية خاصتي..و هى حصًالة hand made على شكل جمجمة..صنعها د"علاء"زميلي من مادة السيراميك..و أهداها لى!

ربما تبقى جنيهان منها-لأننى-صرفت الباقى..تعلمون كم أن الإدخار صعباً هذه الأيام..خاصة مع مرتبات التكليف!

بالطبع الكثير منكم يتسائل عما حدث لدكتور"مجد"و خطيبته دكتورة"نادين"..و هل تزوجا كما كانا يخططان؟أم أنهما افترقا فى النهاية كما يحدث  للغالبية ؟
..كان بودي أن أخبركم..لكننى لا أعرف ما جرى لهما!

لقد وجدت مذكرات الطبيب الشاب الذى لم يعد كذلك الآن-هو فى الأربعينات- على الأرجح..فى غرفة مهملة كنا نعدها للعزل..وسط كراكيب لا حصر لها..مكتوبة بخط أنيق-لا يمكن ان يكون خط طبيب-.بينما قام أحمق ما بقطع كمية هائلة من أوراق الأجندة المؤرخة بتاريخ 2007..الثلث الأخير مفقود كله تقريباً..

لهذا لا أعلم يقيناً ماذا حدث لكل الأشخاص الذين ورد ذكرهم فى تلك المذكرات..خصوصاً د"مجد"و زوجته المستقبلية..

أحياناً كثيرة أتخيلهما قد أفترقا لضيق ذات اليد..و- أعترف - أن هذا التصور يرضيني..فهو يناسب مزاجي الأسود كثيراً

..بالأضافة لأنه يبدو أقرب للمنطق..

لست قاسية القلب أو شريرة..كل ما فى الأمر أننى على مشارف الثلاثين..و لم أتزوج،و  لست مخطوبة..و يبدو أن هذا الوضع لن يتغير قريباً!

لقد صارت العنوسة مشكلة منتشرة هذه الأيام..لكن أسوء ما فى الأمر..أن أكون وحدي التى لم تتزوج- لدي أختين -الكبرى متزوجة..و الصغرى- أصغر مني- مخطوبة..و بنات العم و بنات الخال..و الصديقات..إما تزوجن أو خطبن..لم يتبقى غيري!

..حتى أن أخى"عبد الله"يقول عنى البنت "البايره".لا أعتقد أن هذا كان سيعجب أبى-رحمه الله لو كان معنا

..فحتى لو كان يمزح-كما يدعي-فإن لكلمته وقع أليم على النفس..

.على كل حال.. أتمنى أن يكونا متزوجين الآن و لديهما أطفال..فقد أحببتهما بحق!

ربما هما الآن فى الstates أو أحدى بلاد اليورو.. يعيشان فى منزل جميل و يملكان سيارة فخمة..

أو ربما هما فى مكان ما يكافحان من أجل لقمة العيش كأغلبية الأطباء فى مصر!

على الأرجح لن أعرف أبداً..لكن لو كنت مهتماً ..فقد تزوج د"مصطفى"و  د"شيماء"..و قد رأيت أبنتهما"رفاء"..و لديهما ابناً أخراً يدعى "نور الدين"..و قد صار د"مصطفى" المدير بالمناسبة بعد د"عشري"الشهير ب"عشماوى الذى إحيل للتقاعد بعد أن أستنفد سنوات مد الخدمة-الخمس سنوات-كما أحيل د"نعمان"للتقاعد فى سن الستين منذ ثلاثة أعوام..

و قد خطب د"طارق"زميلته د"مى"فى ذلك التاريخ2007..لكنهما لا يعملان هنا فى قسم الحروق-فقد تم ألغاءه -منذ مدة لا أدرى لماذا!

و بدأت"فاطمة"الغسيل الكلوي..مع بداية رحلة د"مجد"مع العلاج التكميلي بعد الجراحة-و لا أعلم كيف هى الآن

بينما ظلت"عزة"هاربة.. بعدما أتضح أنها قتلت زوج أمها لمحاولته إغتصابها..و قد تركت المقلب من ذات التاريخ و غادرت إلى مكان مجهول!

الجميل فى الموضوع أن الأوضاع التى كان طبيبنا الشاب الذى-لم يعد كذلك-يشكو منها..و التى أعترف بأنها سيئة..قد صارت-مع الوقت- أسوء!

لوحة كابوسية من لوحات "جويا"السوداء!

النقص فى المستلزمات الطبية البسيطة..صار إنعدام كامل لوجدها..

بالأضافة لسرقة و تدمير ما يوجد من المعدات الطبية باهظة الثمن..

قسم الحضانات بالمستشفى يعمل بنصف كفاءة..

أجهزة الغسيل الكلوي بحاجة لصيانة..بينما تم ألغاء قسم كامل - رغم أهميته - كقسم الحروق..

و أصبح العثور على سرير فى العناية المركزة ضرباً من المعجزات!

لن أتهم الحكومة بالطبع-مال الحكومة أصلاً-إنها ال...

..الزيادة السكانية بالطبع!

..إنها تلتهم عوائد التنمية كالوحش الجائع-كما قال-بابا"حسنى"

يبدو أننا ظلمنا هذا الرجل فعلاً..

بينما الذنب كله ذنبنا فى الأساس!

..-لأننا-نظن أننا شعب مثل -باقى-الأمم لنا الحق فى الحياة و التعليم ..و نطالب بالرفاهية..

بل و الأدهى..مازلنا نتزاوج،و نتوالد..

بينما نحن جنس جدير بالإنقراض!

ملحوظة:

لقد تأخرت فى نشر هذه المذكرات عامين-فقط-لأننى من ذلك الطراز المتحمس العجول..الذى إذا قال فعل!

كما قمت بتغير معظم الأسماء الواردة فى المذكرات قبل النشر كى لا يقاضيني أحدهم..لأن هؤلاء الأطباء الschizophrenics..لديهم حساسية من النقد..

إنها غلطته على كل حال- حد قال له يكتب مذكرات -..هكذا سأتفرغ للقضية التى سترفعها عليَ النقابة حتماً!

و بمناسبة الSchizophrenia..

لأقى نظرة سريعة على مذكراتي أنا..

..ربما أحتجت لإتلافها - كى لا تٌنشر- يوماً ما!

فتحت الدفتر .. فسقطت وردة مجففة - لم يهديها لي أحد - قلبًت الصفحات سريعاً..أبيات شعر إنجليزي كتبتها ،و أزهار ملونة جميلة رسمتها.. جوار Skeletonsوجماجم!

..كما وجدت أغنية مكتوبة بالفرنكو تقول -دون فزلكة-3andi 2ota w 2ntwo l2 ammm..2ota bs dama3'a tkah..ammm

men firaniha batsa5ba ammm

بماذا كنت أفكر حين كتبت هذا الكلام؟!

..لابد أننى كنت -أفصل -بعدما أحترقت الدوائر و الوصلات الكهربائية فى دماغي ..من  المذاكرة ال over load..لأننى وجدت فى الصفحة التالية..ملاحظة..كتبتها لنفسى بالقلم الred marker الذى طالما أنقذنى - فى تلك المواقف - تقول فى تقريع:

- و الله ما حد دماغه طقًه غيرك.. قومى ذاكري

 يا فاشله!


خلصت الحكاية..

و مازال مسلسل الإهمال مستمراً!

قصص تليجرام