قصص تليجرام

مشبوح (كاملة)

أقرأ أيضاً:تحت جناح الموت

على باب الجنة
(مشبوح) الجزء الأول(الحكاية الثانية)

استفاق من وسنته الخاطفة على ألم كالنار يسري فى منكبيه و عضديه..بينما لم يعد يشعر بكفيه المربوطتان بحبل قاس.. معلقاً جسده فى حلقة معدنية فى السقف..قدماه لا تلامسان الأرض..مثانته على وشك الإنفجار من ضغطة البول الذى لم يعد يقدر على حبسه أكثر من ذلك لكنه..حاول..
ضم ساقين عضلاتهما الواهنتين تختلجان بارتجاف..و انحل أسر البول ليبلل لباسه الداخلي المجلد-كأنه مصنوع من لحاء شجرة..
ويسيل منه خيط ضعيف..قطرات قليلة تكوى فخذه العاري الذى أحرقته شمس النهار الحامية..
سعل بصدر مشروخ..حتى أنشق رأسه بالصداع..
أنفتح الباب الحديدي..أنقبض قلبه..بينما خطوات أكثر من شخص تقترب منه..بدأ نفسه يتسارع بقلق..أخذ السعال بزمامه..
- ماذى هالريحه خرا؟!
قال أحد القادمين الثلاثة فارتجف جسد المشبوح-من الغضب-هذه المرة..كان القادم يسخر من رائحته..
ناسياً كيس الخيش المبتل بالبول الآدمي الذى وضعه رجاله الخنازير فوق رأسه!
أدهشه فى نفس الوقت أنه فهم لسانه المعوج..كأنه يتحدث بلغة يعرفها..لكنه نسي كيف و أين تعلمها!
وقف القادم قبالته ..مد قامته..و وضع يديه فى خاصرتيه..و هز رأسه-لابد- أنه فعل..قال ببطء:
- ما شلومايخا أيلي؟
لم يتسأل كثيراً كيف"رأى"غريمه برغم الكيس الكريه الذى يغطي وجهه..كان يعرف هذا الشخص-بشكلاً ما-و يعرف كيف يتصرف حين يتكلم..لكن ما ضايقه حقاً أنه خاطبه بأسم"أيلي"!..قال له كيف حالك يا"أيلي"!
و الأسوء أن الأسم بدا مألوفاً كاللغة ال...ال..تلك اللغة الغريبة التى يفهمها و لا يعرف أسمها!
نزع الرجل كيس الخيش منتن الرائحة من على رأس المشبوح بعنف..فخدش وجهه المحترق و-برغم-الألم-بدت له الزنزانة العطنة..براح طلق الهواء..عذب الرائحة..
أهتزاز الرؤية أمام عينين حرمتا الضوء لفترة طويلة..منعه من رؤية وجه غريمه-بوضوح-لكنه سمعه..يقول بإبتسامة لزجة مقيتة:
- صارلي مده ما شفتك"أيلي" و لا بقولك يا"بشير"أحسن ؟!
قفزت بين عينيه صورة شاب.. وجه أبيض تغطى نصفه بالدم و التراب..صافرة عالية مؤلمة مزقت طبلة أذنه..حشد غير مفهوم من الذكريات تدفق فى ذهنه بسرعة لا تتيح له فرصة ليستوعبه..
- كييف عرفت تخدعني تلات سنين؟!واحد غبي مثلك يخدعني أنا؟!
عض الرجل على نواجذه..و أنقلبت سحنته بغضب مريع..لطم وجه المشبوح بظهر يده..لطمة قاسية ملأت فمه بالدماء..
شد شعر الأسير بعنف..تأوه الأخير متألماً و الأول ينتزع خلصة من شعره المتسخ قبل أن يلقيها بوجهه..
متى صار شعره بهذا الطول؟!لا يذكر!
كل ما يتذكره جيداً..
أنهم حلقوا شعره بالشفرة..ثم جردوه من ثيابه..كان الفصل شتاءاً و الجو قارص البرودة..بعدها وضعوه فى الثلاجة لمدة عشر ساعات!
أنقض عليه الرجل ممسكاً بخصلة أخرى شدها ،و هو يصرخ:
- فاكر"بشير"؟
زام المشبوح كحيوان جريح..بينما أنتزع معذبه الخصلة بعنف..قبل أن يرميها و يدوسها بحذاءه..
أقترب منه و شب على أطراف قدميه ليهمس بأذن الأسير المشبوح بصوت خافت:
- خبروني إنك ما عدت بتذكر أشي..و تلون همسه بشبه ضحكة ساخرة:
- بس أطمن..أنا ما صدكتهم!
***
طافت بذهن الأسير ذكرى غائمة..الشاب على بلاط الزنزانة يصرخ ويتلوى..بينما ذلك الجزار ينتزع الرصاصة من صدغه بأصابعه الملطخة بالدم..الجندى يحاول أن يثبته فى مكانه دون جدوى..ليتمكن طبيب السجن من إنهاء عمله الشنيع..و عندما تمكن بمساعدة زميله من شل حركته..لم يبدو الطبيب متعجلاً..أذ ظل ينقب ببطء مستمتعاً بمنظر الدم النافر،و بما أحدثته أصابعه العابثة من تشوه فى وجه الشاب
..تتري يتلذذ بتعذيب جريح حتى الموت
بدا مسروراً جداً..
لم يتبقى سوى أن يلعق دم الفتى من على أصابعه فى أستمتاع!
لا عجب ..فأغلبهم أصله ينحدر من نسل قبيلة الخزر التترية
- آاااااااااااااه
أنطلقت آنة طويلة ممدودة من الأسيرالمشبوح..فأكتسى وجه غريمه بسرور متشف..قال بفرحة مريضة:
- أنا ما راح خليك تقول آه واحدى..بخليك تجن من العذاب ..بوعدك يا حقير..
- من يوم ماكمشوك أنت و هالكلب..و أنا مستنيته هاليوم!
فى تلك اللحظة بدأ الأسير يتأكد أنه ليس"أيلي"،و داخله شكاً عميقاً بأنه لا يدعى"بشير"أيضاً!
إن له أسم ثالث آخر..لكنه نسيه مع كل ما نسي من أشياء..
مثلاً هو يذكر إعتقاله..لكنه لا يذكر سبب الأعتقال!
يذكر أنه أعتقل فى الشتاء..يذكر الثلاجة والشبح تحت المطر..
يذكر كيس الخيش القذر فوق رأسه و هو يغسل و يصفى بماء المطر..ليسيل ما به من ماء وسخ على جسده العاري..
و قد تبدلت الفصول و صار الوقت صيفاً..
لكنه لا يذكر ما جرى فى ماضي أيامه..
ما بين الشتاء و الصيف..
جسده محترق بالكامل-لابد-أنه كان مصلوباً فى عين شمس الصيف الحامية.. جسده المعذب مليئ بالندوب و الجراح..
يعرف يقيناً أنه معلق من ذراعيه من عشر ساعات- ربما أكثر-حتى تبول -قسراً-على نفسه
و الأسوء أنه لا يذكر شيئاً من هذا كله!
كل ما لديه هو ذكرى غائمة من أيامه الأولى فى هذا المكان الرهيب
أنتزعه من تأملاته صوت غريمه و هو يقول بحسرة ناظراً لأسفل:
- أنا قولت لهادول الأغبيا..أنو ما حدن بيعرف يحل عقدة لسانك غيري..بس"شمعون"قال بلاها!
حدق فى عيني المشبوح..و سأله بلهجة بدت ودية:
- بتعرف شو قال كمان؟..قالي أنتا اللي بليتنا بهيك بلوى..هوا عنده حق!
- أنا إللي ربيتك بأيدا التنتين هادول..و دخلتك الشين بيت..
رفع يديه أمام وجه المشبوح..و مط شفتيه بابتسامة غريبة و هو يريه يديه مكملاً:
- حتى لما أختاروني بالشباك..خدتك معي!
- من شان هيك عاقبوني..أخدوا مني سلاحي..و عاطوني مكتب صغيير..
- أخدتك بأيدي..هز كفه اليسرى أمام وجه المشبوح ..قبل أن يهوي بكفيه على صدغي أسيره و أذنيه بصفعة مزدوجة عنيفة..
و ثانية ..
و ثالثة
..قبل أن يهتف بصوت لاهث..
- و بأيدي راح أعصر روحك نقطة..نقطة!
***
صرخ الجريح و طبيب السجن يستخرج الرصاصة من فخذه..بينما مال المحقق بجذعه نحو الشاب الباكي المشبوح جلوساً فى الكرسي الحديدي الضيق ذى القوائم القصيرة..بصوت أخنف و أنفاس كريهة الرائحة قال له ناصحاً بلهجة شبه أبوية:
- أتكلم يا حبيبي..أرحم نفسك!
و ترقرقت فى عينه دمعة حنونة..و هو يلتفت برقة نحوالجريح ثم ينظر للأسير المقيد بملامح كساها الأسى..قائلاً بنفس الصوت الأخنف:
- و ارحمه هوا كمان!
-أنتا شاب صغيير ومضحوك عليك.. فهموك أنو نحنا الأشرار..بس هما إللي ببيكتلونا من دون سبب!..من كام ليله طعنوا شاب بعمرك..
طالب بالجامعه ..و أمبارح دهسهوا مره و زوجها!
صرخ الجريح بالأسيرالمقيد:
- ما تخبرهم بأشي يا جبان..أنا ميت ميت
صفعه الطبيب صارخاً:
- تشتوك كلف!
- أنت الكلب!هتف الشاب المقيد الذى فهم سباب الطبيب لصاحبه..و أنتفض جسده بصعقة الكهرباء التى وصلته عبر الكرسي المعدني..
- ضب تمك ضب يا" أسما..."
هتف الجريح و الطبيب يصفع البلاط برأسه المغطى بالدماء مراراً حتى خفت صوته و ضاع!
قطع الجندي التيار بأشارة من المحقق فتهالك جسد الأسير الشاب على مقعده غير المريح..بينما قال الطبيب..بصوت صارم كصوت الجنود:
- كدوإيخاد ميشاء بريئا شالو..
نظر المحقق للشاب الذى أتسعت عيناه بفهم مذعور..تبقت رصاصة برئة الجريح..هذا ما قال الطبيب القاتل للمحقق الذى أبتسم كثعلب عجوز قال بتشف:
- خلاتص أوتو!
- طلعها!
رجع الطبيب ل"بشير"الجريح لينفذ أمر رئيسه باستخراج الرصاصة من رئته..بينما أشاح الأسير المقيد بنظره كي لا يرى.. حرقة الدموع شطة حامية..تلهب عينيه وأنفه..وقلبه يكتوي بصرخات الجريح ..صرخات حادة كسكين مسنون.. تمزق طبلة أذنه..حتى تمنى لو أنه ولد أصم..سمع المحقق صوت نشيجه المكتوم..و لاحظ أنه يتجنب رؤية ما يحدث..
- شوف يا خنزير
هتف المحقق بتشف..و هو يلوى عنقه قسراً ليريه الجنود و هم يكبلون الجريح الغارق فى دمه..و الطبيب يبدو كضبع كبير الحجم يغرس مخالبه فى صدر صديقه..غامت عينيه و بدأ يشهق بالبكاء المر..شهقات قوية تكسر الضلوع..
و قد ثبت المحقق رأسه بذراع ناشفة ..و أطبق على فكه بكف ككلابة حديدية.. بقوة كادت تكسر فكه ..صرخ فيه:
- شوف يا واطي يا حقير..شوف شو عملت بصاحبك!
- كان ممكن يتحكم بالمشفى..و يعيش..
خبط على صدغه بقبضته المضمومة ثلاث خبطات خفيفة كأنه يؤنب صبي ،و هو يقول زاعقاً فى تقريع:
- شفت شو عملت براسك اليابس هاد!
فك المحقق ذراعه من على رقبة المشبوح..قام يتمشى حوله عاقداً ذراعيه خلف ظهره..قال بصوت متهدج:
- لحسن الحظ تكدر تساعده..جولي وين مخبيتهم للفلاشات..و راح أنقل صاحبك عالمشفى حالاً..
- وين راحوا؟عطيتهم لجماعتك؟..أتكلم كرما ليعيش صاحبك يا ملعون!
تطلع لصديقه الغائب عن الوعى بحسرة..
و كلمات المحقق تترك مرارة العلقم فى فمه.. مرارتها تقطع وتين قلبه بقطعة زجاج مشرذمة الحواف..
- أخبرهم!
همس شئ داخله..ثم تعالى الهمس ..صار دمدمة متصلة كالنحيب..
أخبرهم..لن تحتمل دمه!
أخبرهم..
أخبرهم..
أخبرهم..
أخرس! هتف به صوت آخر
..أخرس.. يالك من جبان!
تريد أن تغسل يدك من الخيانة بدمه!
جبان كما قال صاحبك..
- أريد أن أنقذه!
- بل تخاف على نفسك..ألا ترى؟!
..إنه ميت كما قال..
ضميره و شيطانه بداخله يتصارعان و يتجاذبان قلبه المشبوح بينهما..
يتقطع القلب وينز الدم من جراحه النازفة ..
و لم يعد يدرى أيهما الضمير و أيهما الشيطان!
هل يصمت و يأمن ظهر الرجال؟
أم يتكلم و ينقذ صديقه..الذى تلقى خمس رصاصات ليفديه..
و يخون القسم و الخبز الذى أقتسمه مع رفاق السلاح؟
و وصية صديقه و هو على حافة الموت؟!
و من يدريه ربما وضعوه فى حجرة أخرى حتى يتصفى دمه و يموت؟!
- إنه ميت بالفعل..
- أنت السبب..!
أنقسم الصوتان لعشرين صوت يتشاجر داخل رأسه بصخب يدفعه للجنون..
أستفاق على صوت المحقق و هو يسأله بنفاد صبر:
- يعني ما راح تتكلم يعني؟!
خيل إليه أن رفيقه الغارق بغيبوبته معقود الحاجبين..متغضن الجبين..يفتح عينيه..يصيح به آمراً
- ضب تمك ضب!
صاح المحقق بغضب:
- دكتور"أدار"
ألتفت الطبيب منتفضاً نحو المحقق الذى قال صارخاً:
- هاشليمت أفودتخا!
أستدار الطبيب نحو الجريح فاقد الوعي ليواصل تعذيبه..بينما عقد المحقق ذراعيه مراقباً عمله الوضيع
- شو بدكم تعملوا فيه تاني يا سفله يا حثاله؟!
هاج المشبوح صارخاً و هو يحاول أنتزاع نفسه من كرسي الشبح..سلخ القيد الضيق معصميه حتى سال منهما الدم بينما يصيح بغضب مجنون:
- يا تتار.. يا أحفاد هولاكو..
تلقى صاعقة كهربائية عنيفة..أنتزعت منه صرخة تاهت فى صرخة الجريح..تهالك جسده المشبوح على الكرسي و جسد رفيقه مازال يرتجف و يرفرف كالذبيح قبل أن يهمد الجسد المنتفض بالألم..سكنت ملامحه و أرتخت..أنفتح فمه و صار وجهه كقناع أحمر مبتسم!
جس الطبيب وريد عنقه..أضطربت ملامحه..وضع السماعة فى أذنيه..و أخذ بوجه جامد متجهم يتسمع البنض بصبر
..دقيقة..أثنان..ثلاث..
مرت عشر دقائق كالدهر..بنفس الوجه الجامد قال بالعبرية:
- ميت..
-"بشير"!
صرخ المشبوح و فكرة واحدة تخترق مخه كقضيب حديد محمي
لقد قتلته!
***
- بتذكر"بشير"؟
سأله"ديفيد"و هو يمسك شعره الملبد من الخلف و يهوي على وجهه بلكمة عنيفة من يمناه..أعقبها ثلاثاً..شعر معها الأخير أن عظم وجنته اليسرى قد كُسر..لكنه تمنى أن يضربه "ديفيد"بقوة أكبر!
سعل بقوة وتناثر الدم من فمه..لكن تكتم ألمه
فهو يشعر إنه يستحق هذا التنكيل..يستحق الجلد والشنق..بل و يستحق الحرق حياً..
لقد تركهم يقتلوا"بشير"!
كان بوسعه أن يعترف و يحتفظ بشئ من تقدير الذات
..كان بإمكانه أن يتذرع بإنقاذ أخلص أصدقاءه و أحبهم إلى نفسه..لكنه..
تركه يموت أمام عينيه جراء النزيف و الرصاص الذى كان سيحصد روحه هو..
ترك الذى صان حياته بحياته..و عندما عذبوه هو أخبرهم بكل شئ!
الآن يتذكر كيف بكى و توسل طالباً الرحمة..
الآن يتذكر حين مرغ وجهه فى التراب..و لعق حذاء المحقق..ككلب أجرب ذليل..
تمنى أن تغور به الأرض،و تبتلعه..
ثم فكر أنه ربما لن تقبل الأرض أبتلعه..
-مؤكد- ستلفظه كما تلفظ الأمراض و الحشرات بعد الشتاء..
كم يحسد"بشير"الآن!
كم يتمنى مكانه!
يتمنى قبره المجهول الذى لن يضع أحد عليه زهور الحَنّون..
فهو-على الأقل-عاش رجلاً..ومات بطلاً..
يتبع
أقرأ أيضاً:سر الحجاب
             سيد الرجالة


(مشبوح) الجزء الثاني(الحكاية الثانية)

ثم تذكر-فجأة-كيف تحمل من العذاب ما لا يطاق-دون- أن ينطق..إلا بكلمة واحدة كان يجيب بها على كل سؤال..
يرددها -حتى- حين يستبد به الألم
"بشير"
و أختلطت الذكريات ببعضها..
لم يعد يدري أيها حقيقي و أيها مزيف!
أيها حدث ؟ و أيها لم يحدث قط؟!
أيها الحقيقة العارية؟ وأيها ثوب نسجه من الأكاذيب ليستر عريه و عاره؟!
ليته يتذكرفيرتاح..
أو ينسى فيرتاح..
أو-حتى-يموت فيرتاح..
أو لا يرتاح..
إنه لا يستحق الراحة على كل حال
أي راحة يستحقها الخائنين؟!
- كيفتك الضربه؟..ما تذكرت أشي؟!
مال"ديفيد"نحو المشبوح..سأله بصوت كالفحيح:
- شو رأيك لو جبتلك العجوز و العجوزه هون..و خليتها لشايبه تضرب راس الشايب تاعها بالصرمه الكديمه كدامك!
مر أمامه وجهين حبيبن ..مكرمين بالجلال و الوقار..وقفزت فى عينيه الحائرتين نظرة خوف و هم ..
سأل"ديفيد"فى خنوع ذليل:
- شو بدك تعرف إسا؟..أنا حكيت كل إللي باعرفه فى التحقيق بالسجن!
ضحك"ديفيد"ضحكة مصهلة..قال بغضب مستنكر:
- حكيت!..ع شو حكيت؟!..كله حكي فارغ و كذب!
مخزن الذخيره طلع طابون خربان..إنقصف من شي سنه..مبيّت فيه كلب أجرب متلك..
و لا هاديك المغاره إللي بالجبال..إللي إنهدمت عروس جنودنا..لمان راحوا يكمشوا رفقاتك!
ابتسم المشبوح رغماً عنه حين تذكر ذلك المكان الآيل للسقوط الذى كان رجال المقاومة يتجنبوه،و نجح هو فى إقناعهم بأنه مخبئاً سري للمقاومة و أوقعهم فى الفخ!
أتسعت أبتسامة بطلنا التى لم يلاحظها"ديفيد"-لحسن الحظ - لتتحول لضحكة مكتومة تحشر لها صدره بالسعال بينما الأخير يستطرد:
- بتعرف أنو عقدوا صفقة تبادل مع الأرهابيين جماعتك ؟..بعتوا أسماء بعينها لنسوان و ولاد أتناشر و تلاتاشر سنه ..تسعه و خمسين أسم..و أنت ما حدن بدو اياك!..تركوك..
- لو كان عندي كلب وفي لإلي متلك ما تركته يموت هيك!
ما الغريب فى هذا؟!..
فكر المشبوح فى أن هذا هو الطبيعي..أليس النساء عرض و صون العرض واجب؟
ألم تُفتح عمورية بنداء المرأة المسلمة وا معتصماه؟..ألم يفتح الحجاج بلاد السند بسبب خطف سفينة عليها نساء مسلمات؟
و هؤلاء الأشبال لن يحتملوا السجن -و السجون الأسرائيلية جحيم-
لن يحتملوا التعذيب و التجويع..
لقد عاين بنفسه كيف يُعاملون..
ما العيب فى أن يعدوا لديارهم و أهليهم؟!
- الصفقه تمت إمبارح..خدنا الجنود تبعنا،و ردينا المجرمات تبعكم..قال"ديفيد"قبل أن يضيف بإستخفاف و إبتسامة مستفزة:
- و أعتقلنا غيرهم!
جز المشبوح على أسنانه غيظاً..سأل من بين أسنانه:
- و شو بتريد مني هلا يا"ديفيد"؟..ما ضايل عندي حكي!
- و الله ما باعرف كييف متذكرو لأسمك!
قالها المشبوح فى نفسه..قبل أن يتعلق"ديفيد"بذراعه وهو يجذبه لأسفل..صرخ و كتفه يتمزق تحت ثقل وزن جسده و جسد
"ديفيد"معاً
صاح"ديفيد"سائلاً:
- وين الورقات إللي سرقتهم من مكتبي؟
***
دق قلبه بعنف..قلب الصفحة بسرعة وألتقط صورة للرسم التخطيطي..لم يكن يعرف ما كنه بالضبط..
لكنه قدر أنه مهم..
الأهم أن ينتهي قبل أن يعود..لقد تبقت ورقتان ..
***
"أتذكرت..هه؟"سأل"ديفيد"قبل أن يضيف:
- متذكر هاديك البنت إللي شاورتك بالدبله فالمحكمه؟..شو رأيك لو بتجي لهون؟شو رأيك تشوفها عاريه كييف يوم ولدت؟!
مع كام واحد بدك تشوفها؟
عشره؟..عشرين؟
صرخ المشبوح متألماً والقيد يسلخ لحم رسغيه و يقطر بدمه:
- ما بتذكر عن شو بتحكي..لا ورقات و لا بنات!
***
من بين السلك و القضبان..طالعه وجهها الحبيب الخائف.. مرهق شاحب..و عينيها النجمتين.. منطفئتين ذابلتين-من البكاء-..
رأها تحاول الإقتراب من القفص..لكن أحد الجنود وقف أمامها-ليمنعها من التقدم..أمسك ذراعها بقوة..دفعته فى صدره..فغرس أصابعه فى لحم ذراعها بقسوة.. و جرها مبتعداً..بينما كفها ممدودة نحوه،و هو يشدد ضغط قبضتيه على حديد القضبان..كأنه يحاول كسره!
***
- كييف ما بتذكر هاديك البنت؟!..سأل نفسه بسؤال"ديفيد"و تندت عينيه بدمعة., تذكر وعدها المبلل بدموعها..حين حُكم عليه بالحبس
- مستنيك !
ألمته حرارة وعدها-رغم-أستحالة تحقيقه..كيف أمكنها أن تعده؟و هى-كاذبة -و إن وفت!
لقد سرح بها الأمل بعيداً..طار بها بأجنحة الخيال..
أذ من منهما سيعيش حتى تنقضي مدة محكوميته البالغة217عام؟!
217 ليس يوماً أو أسبوعاً أو شهراً حتى..بل سنة!
..ترى ماذا فعل ليستحق حكماً كهذا؟!
تخلى"ديفيد"عن ذراعه..
- بأذنك ..نشف ريقي...بشرب شوية مي!
قالها"ديفيد"و هو يشير للجنديين ليضرباه ريثما يشرب هو بعض الماء..فأنهل عليه الجنديان ضرباً و ركلاً..
- بدك مي؟..ما بتريد!
"مي"!
قالها "ديفيد"فبرقت بعين المشبوح ،صورة فتاة بيضاء قد أفتر ثغرها عن أسنانها اللؤلؤ المنظوم..
إنها نفس الفتاة فى المحاكمة..خطيبته"مى"!
بصعوبة أستعاد الذكرى المشوهة..و ألم كتفه يديرعقله و يشوش وعيه..
- أتكلم يا وغد!
صرخ"ديفيد"بهياج قبل أن يلكم بطنه لكمات قوية و متلاحقة و هو يرطن بكلمات متداخلة..لم يفهم المشبوح أغلبها..فقط فهم أنه سيعطيه موس حلاقة ليقطع شرايينه..
كانت هذه أخر كلمات سمعها قبل أن
يفقد الوعي
***
دار الشباب و كلاً منهم يصفق كفه بكف صاحبه صانعين دائرة حوله-هو و عروسه- و سرعان ما بدأوا يدقون الأرض بأقدامهم و هم يرقصون الدبكة برشاقة..و ينشدون:
على دلعونا على دلعونا ما بنسى حباب الكانوا يحبّونا
قلبي عَ حبابي شعلان بنارو ودمعات عيوني فضحت أسرارو
وبعد ما راحوا عالغربة وطاروا مثلي ما تعذّب قيس المجنونا
***
"أسماعيل!"همست"مي"بصوت يتكسر مثل موجة هادئة..و يذوب كالحلاوة الشعر..خفضت عيني الغزال لصدر المريول الأسود -زي مدرستها الثانوية..و أشتعلت وجنتاها بحمرة الجوري..همست بخجل..بينما البنات-رفيقاتها- يكتمن الضحك بصعوبة:
- كييفك إستاذ"أسماعيل"؟
***
"إنت إللي صورت الورقات؟!سأل أبو"مصعب"مندهشاً قبل أن يضيف:
- بإش صورتهن؟و كييف؟!
رد"إسماعيل"بصوت يفيض بالأحترام الممزوج بالرهبة:
- نعم سيدي..صورتها بالكاميرا الCanon
إللي نطاي ياهاmy Case officer"ديفيد"..كنت بمكتبه..و على المكتب ملف مكتوب عليه سري للغايه.. لما راح يتكلم فى الفون صورتو لملف..
- بس هاد مخاطره كبيره!
رد"إسماعيل"بحماس مشوب ببعض الإحراج:
-الملف كان مغري.. ما قدرت أمسك حالي الصراحه!
- المهندس"جهاد"قال المعلومات أللي جبتها مهمه للغايه..و الحين بيدرسوها مشان يشوفوا كيف يستفادوا منها..قال"أبو مصعب"
- بريد كمان أعتذر منك من اللي عمله أبو"عماره"أنو كلمك ناشف و هيك..هوا مو عاوزك تخاطر بنفسك هالجد..
- ما عليك سيدي..نحنا كنا ما حدن فينا بيجدر يزعل من أبو"عماره"..هوا بيعاملنا كيف ما نكون ولاده و خواته لصغار.
قال أبو" مصعب"مازحاً:
- طيب ذكرني عطيلو كلمتين فجنوبه مشان يشد عليكم شوي!
قال"إسماعيل"بجدية:
- تؤمر سيدي!
- بتدرس يا"جبريل"؟
- نعم سيدي.. طالب بالفرقه الثانيه بكلية الآداب..قسم لغه أنجليزيه.
قال أبو" مصعب":
- د"فهد"خبرني إنك بتتكلم عبري منيح..وين درستو؟ بالثانويه ؟
-لا سيدي.. بالثانويه درست فرنساوي.. العبري ما بحاجة دراسه..بيشبه للعربي كتير للي بيعرف..
- بدي أسأل سؤال سيدي..
- أسال إللي بدك ياه "جبريل".
- الرسومات إللي كانت بالاواق..شو كانت بالضبط؟
- من مصلحتك ما تعرف!رد أبو "مصعب"قبل أن يسأل"إسماعيل"فى تأنيب:
- شو بتقول القاعده الأولى يا"جبريل"؟المعرفه على قدر الحاجه..الشئ إللى ما بتعرف ما يقدر يأذيك!
رد"إسماعيل"بتسليم:
- تمام سيدي..
- من وين يا "جبريل"؟
- من مخيم"....."
- أني من هناك!..ترني بعرف كل سكان لمخيم..
شعر"إسماعيل"بلهفة لمعرف شخصية محدثه-المقنع-بينما أردف أبو"مصعب"سائلاً:
- بتعرف إستاذ"عبد الحي مصطفى"؟
أرتسمت على شفتي"إسماعيل"بسمة أمتزج فيها الحنين بالفخر
- باعرفه.. هوا أبوي!
سأل أبو "مصعب"متفاجئاً:
-إنت ابن الشيخ "عبد الحي "!
- أهلين بابن الكرام، كافلين الأيتام..
ثم أضاف بلهجة لائمة:
- أوعاك تكون تا جولت لحدن أسمك الحقيقي،و لا من وين أنت و مين أبوك!
- لا سيدي..
ربت أبو "مصعب"على كتف"إسماعيل"
-ألله بيحفظ بياك..هوا إللي مكّفل"بشير"و أخوه..
قالها أبو "مصعب"و بريق عينيه الذى ألتمع بالإعجاب،يضاعف شعور"إسماعيل"بالفخر بصنيع أبيه-خاصة-حين أضاف القائد:
- بدي ياك لما ترجع عالدار..تبوس جبينو ..و تخبره أنو أبو "مصعب"بيجولك..الله يديمك فوق رووسنا..و جولوله كمان بالله ما تنسى الشفاعه لأخوك أبو "مصعب" لما تشوف الحبيب المصطفى بيوم القيامه!
كانت هذه أول و أخر مرة يرى فيها أبو"معصب"..فقد نال الشهادة بعدها بأيام..
قصفت قوات الأحتلال سيارته بصاروخ موجه..
طلب الشفاعة فنال الشهادة..
ليته هو من طلب شفاعته وقتها!
***
كان"إسماعيل"ذو السبع أعوام يتمنى ألا يكون اللص..و قد قرر في نفسه أنه لو صار الحاكم سيعفو عن اللص..
لو كان"جمال"أبن عمه..لن يضربه فهو يتيم و عمه أبو"إسماعيل"لا يضربه -هو وأخوته- لهذا السبب..
أما لو كان أخيه"رائد"فسيحكم عليه بشراء بعض الحلوى لأجله..
فهو أخيه الكبير-عيباً-أن يضربه!
و حين أجروا القرعة..خرجت له ورقة اللص..أحتج و طلب الإعادة..و في الثانية طالعته الورقة المنحوسة..
كلب أعور!
فى ثالث مرة إستسلم..
كان مستغرباً..لكنه لم يشك لحظة-ربما-لصغر سنه أن أوراق القرعة مغشوشة..كلها مكتوباً عليها لص!
لم يكن يدرى أنه وقع بالكمين المنصوب..و أنه لو تمت الإعادة أكثر من عشرين مرة..سيكون كلباً أعوراً فى كل مرة..
هكذا أخذ الصبيان الآخرين أدوارهم حسب الإتفاق ..دور الحاكم ل"جمال"و الجلاد ل"رائد"..
للحظة فكر"إسماعيل"في الإنسحاب..
ماذا سيحدث لو جرى و أختبئ بحضن أمه ؟!..ستحميه"كرمل"حتماً..
لكن"جمال"و"رائد"سيسخران منه..و سيخر منه باقي الأخوة و أبناء العم..و يتهموه بالجبن..و أنه كثير الشكوى كبنت صغيرة..
كلا سيحتمل العقاب كرجل..
- سبعه من قاع الديست!
قالها"جمال"و هو ينظر فى الأرض..و على وجهه تعبير متواطئ لم يفهمه"إسماعيل"..بينما قال الجلاد ل"إسماعيل"بصوت آمر:
-أجمز ع ركبك!
لم يستجب"إسماعيل"للأمر..بل ظل يتطلع للحاكم فى رجاء مستعطف..فوضع"رائد"يده على عاتق"إسماعيل"و أرغمه على الجلوس على ركبتيه..كما فعل الجنود الأسرائيليين مع جارهم أبو"سليم"..
لقد سمعه يحكي ما حدث لأبيه منذ عدة ليال..
..أمسك الحبل..و قام بتقييد يدا"إسماعيل"خلف ظهره و شدد ربط الحبل على كفيه الصغيرتين..
-بديش ألعب أنا!
- ما فيك تنسحب يا جبان!..تاعيد السحبه..بس الحكم عشرين من قاع الديست!
- بنجلد سبعه!
هتف"إسماعيل"مستسلماً بخوف
..أخرج"رائد"عصابة رأس أمه الخضراء من جيبه
..بدا العزم فى جزته على أسنانه..و هو يعصب عيني أخيه الأصغر الذى دق قلبه بخوف..
فقد كان ينفذ كل ما حكاه جارهم لأبيه-على مسمع منهم- بالحرف..
- أيش عملت؟!..اللعبه ما فيها تربيط!
- مشان ما تتحرك و تنجرح!
كان من المفترض أن يُجلد بذلك الحبل الخفيف الذى يقييد معصميه الآن..فبماذا سيجلده "رائد"؟!
..ذلك الوغد الحاقد!
و فاجأه الجواب بصوت يعرفه.. عصا أبيه الخيزران تلسع اللهواء فيصفر مولولاً..قبل أن تفرقع على ظهره بألم كلسع النار!
-آاااااه..
- واحد..تنتين!
و هوت ضربة أشد من سابقتها ألهبت ظهره الصغير فى ذات الموضع ..هتف"إسماعيل"و دموعه تبلل العصابة التى تضغط على عينيه:
- تاقول ل"بشير" المسا!
أدهشه أنه هدد بالشكوى ل"بشير.. لم يقول له سأقول لأبي..بل ل"بشير!
..ربما لأنه يصدقه دوماً..بينما لا يأخذ أبوه شكواه بجدية فى كثير من الأحيان..بل كان أحياناً يلهب كفيه الصغيرتين بالعصا..لأنه يكذب و يتهم أخوته بالباطل!
لكنه الآن يدرك كم أن ضربات أبيه التى تجعل كفيه حمراء كالدم.. خفيفة و أشبه بالدغدغة.. حين تقارن بضربات"رائد"الحانقة الحاقدة..
هتف"رائد"بالسؤال المستنكر:
- تاجول ل"بشير"؟..بتحبو"بشير أكتر من أخواتك و اولاد عمك؟!
تلاته!
- آااه.."بشير" خوي لكبير!
- "بشير"مانو خويينا يا وصخ !
صرخ"رائد"و هو يهوي على ظهر"إسماعيل"بجلدتين نسي أن يعدهم..
-"بشير"و أخوه ولاد الدكتور اللى نقتل و أنتا لساتك بعمر السنتين!
- هدي يا"رائد"..بيكفي..هيك خمسه ياخوي!
عوى "إسماعيل"ألماً..و"رائد" يهوي على ظهره بضربة سادسة "متجاهلاً نصيحة"جمال"
- بدك تاجول ل"بشير"على هاي كمان يا مدلل!..
تلقى"جمال"الضربة السابعة على كفه..مانعاً أياها من الوصول لظهر"إسماعيل"الذى نشع بقعة دم صغيرةعلى تيشرته الأبيض..قبل أن يصيح محنقاً و قد ألمته الضربة:
- يلعن اليهود..تاجرحته.. سلخت جلده يا ضاوي!
***
فى ذلك المساء لم يستطع"إسماعيل"النوم..منعه صوت العود و الدربكة مع الناي ..-و هو- مضجعاً فى الظلام بجوار أخيه الأصغر"كنان" و "مؤنس"أبن أخته المراهق وعند قدميه ينام"أحمد"ابن ابنة عمه بعرض السرير ..مازالت ألحان الدبكة الرشيقة تنبثق من مكان ما بعقله.. تعيد إليه الذكرى القريبة.. و تطيل تلك اللحظات القليلة التى وقفت فيها"مي"بجواره..و قد تحلق حولهم الشباب..لحظة أخرى يحب أستعادها..حين أمسك كفها البلورية الباردة-محرجاً-ليطوق بنصرها الناحل بقيده الذهبي..و تلبسه-هى- دبلته الفضية..و دماء الجوري تخضب و جنتيها حياءاً..
- يا عيني!قالها"بشير"النائم على فرشة على الأرض بجوار"على"و"منصور"أولاد عم"إسماعيل"..بعد أن لاحظ تململ صاحبه فى هداءة الغرفة المظلمة..مدد"بشير"طوله مسترخياً فى فرشته غير المريحة..قبل أن يسأل صاحبه بإبتسامة عريضة:
- لساتك بتغني دلعونا يا مدلع؟!
تبسّم"إسماعيل"و هو يتخيل ما سيتفوه به"بشير"من دعابات و طرائف..
- لو مني منك كنت أخدت العروس و هربت!
سأل"إسماعيل"و هو يكتم ضحكه:
- و ليش أهرب؟و لوين نروح؟!..لساتها شقة الزوجيه مانا جاهزة!
- رحوا وين ما بدك تروحوا يا زلمه!..فيك تنتطر تلات أربع سنين-متل ما قال الحاج"زرقا"- مشان تكمل العروسه بالجامعه؟!..
البنت بالنهايه ما ألها غير بيت زوجها!
قالها"بشير"بلهجة مفرطة الجد لدرجة جعلتها مضحكة..
- لما أنت فالح هيك..تاعمر بيتك أنت..بدل ما تنصح!قالها"إسماعيل"بعفوية..
فأكتست ملامح"بشير"ببسمة حزينة..تأثر لها"إسماعيل" لأنه كان يعرف سببها..
إنها تلك الفتاة السورية التى أحبها"بشير"..لكن فرقهما القدر..و المجرم النصيري "بشار"لكنه قال بمرح مصطنع:
- ما بقدر أتزوج..بتزعل حوريتي مني!
- كانت حلوه ليلتك..إن شاء عقبال العرس لكبير..
نزل"إسماعيل"من على السرير.. ليجلس بجوار صاحبه الذى قال مازحاً:
- وين بدك يا حباب؟ما في مكان..أرتزع هناك بين الجلفين اللي نايمين!
- تاشيل "عليوه"و بحطوا مكاني!
قاما بحمل"على"و ألقيه بجوار"كنان"و هما يضحكان-لطرافة-الموقف..حين يستيقظ الشاب غداً..ليجد نفسه قد طار- بقدرة قادر- و أصبح على السرير!
بعدها ظل"بشير"قرابة الساعتين يحكي ما جرى فى الحفل ل"إسماعيل" -كأنه- لم يكن موجوداً..
و"إسماعيل"يتلوى من الضحك..
- هاد الولد"مؤنس"الأبطيني راح رفع طنجرة الجريشه و ما عاد نزلها إلا فاضيه!..و بعدو"جبران" الحولان أندب من على السلم النقالي.. طيح الكلوب على دماغ خالك عصفور..و..و..
أخذ"بشير"يحكي،و"إسماعيل"يستمع لوصفه المضحك مندهشاً..كيف لم يلاحظ كل هذا؟!..كأنه لم يكن هناك..
أو كأن صاحبه يحكي عن حفل آخر!
- ما عليك فالهرجه..لما كنت داير بوزع الشربات..خطر فبالي حطلوا الشيخ"محمد زرقا"حماك هوا و ولاده شي منوم..بعدها تاخد أنتا العروسه و تولي!
- يلعن الشيطان!..و أبوك الشيخ"عبد الحى"راح يتركني فوت يا ضاوي؟!
- ما عليك فيه..راح نومه هوا كمان!
- يخرب بيت اليهود!قالها"إسماعيل"و جنبيه يكادان ينفجران من شدة الضحك-خاصة-عندما أسهب"بشير"فى وصف الملحمة التى ستحدث فور إستيقاظ أهل العروس-التى-أقترح عليه أن ينصب لها خيمة سفاراي على شط البحر..
- بعدين بجي"فادي"إاللي يدور طاحونه..و معاه خويه"جعفر"اللي ينبنوا على كتوفه القصرين،و"عصومي"حبيبي أبو عنق غليض..يكسروا الباب..و يقتلونا!..
-"مؤنس"بدو ينكفخ كف واحد و يرقد مكانو ..و أحنا ناكل قتله !
قال"إسماعيل"و عينيه تدمعان من شدة الضحك:
- نسيت"المعتصم"!
-أنطم! "المعتصم"مسلوع متل اخوك-يقصد نفسه-ما بنحسب..آخره يبصبص بعيونو الأربعه..و بس تدج بروح مالص!
قالها"بشير"قبل أن يضيف مازحاً:
- طبعاً لما بيجوا نسايبك لفحول راح خلص حالي،تاجولهم أنا ماإلي دخل بهالأعجر..دونكم طقوه بفشكه..بدك يعني يشهورونى أنا و هادول المسخمطين!
- يقرط بوزك يا "إسماعيل"إنت تتغنج وتونجك حالك..و أحنا نسف الحنظل من تحت راسك لمطشش هاد!
***
شهق المشبوح مستعيداً وعيه على سطل الماء المثلج الذى أغرقه..فكر لكسر من الثانية..أنه -ربما-تعذيبه بالحرارة و البرودة..
هو ما سبب له فقدان الذاكرة..لكنه تذكر أنه و باقي المعتقلين- كذلك- يتلقوا بصفة يومية على كامل أجسادهم العارية-العديد من الضربات المؤذية-خاصة- بالرأس..
"إسماعيل"!هاد أسمك..ما هيك؟..ليش سميت نفسك"بشير"؟
سأله"دفيد"قبل أن يضيف متسائلاً:
- مين كنت بتحمى وقتها؟..أبوك؟..إمك؟مشان ما ينهدم داركم؟
تردد صدى السؤال داخل عقله الشبيه بشبكة ممرات معقدة كمتاهة أغريقية..
لماذا"بشير"؟!
الجميع يعلم أنهما أخوان..لا فارق بينهم بالنسبة للناس..لسلطات الإحتلال
..حتى لأبيه..فهو أبيهما هما الأثنين..
و حين هدموا منزل الشيخ"عبد الحى"كانوا يعاقبوه..لأنهما ولداه..
و إن كان أحدهم من صلبه و الثاني ربيبه الذى كفله و هو بعمر الخامسة..
حين أستشهد والده الطبيب الأردني-جارهم- طعناً على يد مستوطنيين يهود.. طعنوه و بقروا بطن زوجته الفلسطينية أم"بشير"الحامل فى شهرها السادس
حدث هذا حين كان عمر"إسماعيل"أقل من عامين..
لهذا لم يعرف أن"بشير"ليس أخيه إلا فى وقت متأخر..
و برغم أن لدى"إسماعيل"خمس أشقاء ذكور و بنتاً واحدة..و أبناء عمه الشهيد ثلاثة ذكور و بنتان.. كفلهم أبوه كلهم..و ضمهم بيت واحد و رابطة أخوة لا تنفصم.
كان"بشير"الأخ الأقرب إلي قلبه..
من يقف دوماً بجانبه..
يستند على كتفه
من لجأ إليه حين أهانه"ديفيد"..
فقد كانت محاولة تجنيده من قبل"ديفيد"ليتجسس على زملائه بالجامعة أهانة قاسية..أشبه بطعنة أدمت كرامته..
لم يستطع أن يتفوه بحرف من شدة الصدمة!
لم يستطع لسانه الذى جف من الحبس-دون ماء أو طعام-أربعة أيام كاملة أن ينطق بكلمة لا
..عندما أعطه"ديفيد"زجاجة مياه معدنية تعبئة شركة صهيونية..شربها على الفور على جرعة واحدة..
يومها أعتذر له"ديفيد"..
قال أنهم نسوه فى الحجز..لم يتعمدوا تركه يهلك من الجوع و العطش.. طلب منه "التعاون"مع الشين بيت..
و كتابة التقارير عن توجهات زملائه و آرائهم السياسية..
و قد ظل أياماً لا يستطيع أن ينظر فيها عيون أي واحد من زملائه..كان يخجل ..حتى من النظر لوجهه فى المرآة..
كأنه مكتوب على وجهه جاسوس..خائن لوطنه..
ظلت نفسه تلومه و ترميه بأبشع التهم و الأوصاف لأنه لم يرفض..
لم يشفع له أمامها ضعفه و إنهاكه ..و لا خوفه من العودة للحبس..
لم يشفي صدره سوى"بشير"الذى دله على الطريق..جعله يوافق على عرض"ديفيد"و يرد له الصفعة..صفعات!
فقد أستغل عمله معه و أصبح عميلاٌ مزدوجاً..ينقل للمقاومة كل ما يستطيع الحصول عليه من معلومات
..لفترة تجاوزت الثلاث سنوات
.. معلومات كانت لفرط ثقة"ديفيد"فى خيانته لدينه و أهله.. قيمة للغاية!
أستطاع بالأضافة لذلك كشف بعض جواسيس"دفيد"وفضخ عمالتهم دون أن يتطرق إليه الشك مرة واحدة
إلى أن جاءت اللحظة التى أكتشفوا فيها الخدعة..
***
جلسة تعد..صوت تقليب أوراق..صوت تقليب ملعقة فى كوب من الخزف..مقعد يزاح..
أختبار ميكروفون..
- هل يجيد العبرية؟
- لا تقلق..أنه شيطان!
- بماذا تريد أن نبدأ الأسئلة؟

يتبع
أقرأ أيضاً:شبيك..لبيك


(مشبوح) الجزء الثالث(الحكاية الثانية)

"- بعرف أنو الدراسه بدأت..بس لستوا المعبر مغٌلق"قالها"بشير"متنهداً بأسف..و هو يتطلع لمحدثته على شاشة الللاب توب
- أول ما بنفتح راح سافر دغري!
جاوبته"نوران"بضيق:
- لكن هيك راح تفوت عليك كتير شغلات!..بعتلك المحاضرات الفايته عالواتس..
-أنا جعان!قالها"إسماعيل"ل"بشير"الجالس متربعاً على السرير و اللاب توب بحجره..
- يلعن..!التلاجه بره ما هون !..روح أتسمم
- طيب تاجيبلك ساندويتشا تتسمم إمعاي؟!
- بديش غير تنقلع!
- روق شوي..مالك يا زلمه؟!
قالها"إسماعيل"و هو يتلقف الجورب الملفوف الذى قذفه"بشير"و كاد أن يصيب وجهه..
-  هادول جرباني الضايعين ما؟!
قال"بشير"بعصبية:
-إمعاي مكالمه مهمه..سك ع الدم هلكيت!
نظر"إسماعيل"لصورة الفتاة المحجبة على شاشة اللاب..
-أوف!
قال منبهراً بجمالها اللافت،قبل أن يهامس "بشير":
- و انا مفكرك بتذاكر!..تاجول للحج شو بتدرس على اللاب يا دكتور؟!
قال "بشير"بإحتجاج:
- هادي"نوران" زميلتي بالجامعه!
- امبلا مفهوم..أجرمنعنو بتدرس بسوريا..حلوات البنات هناك!
- طيب..شقلب وشك عني و روح!قالها"بشير"و هو يدفع صاحبه محاولاً إخراجه من الغرفة..لكنه لم يتزحزح..
قال للفتاة المحجبة و هو ينكفأ على اللاب توب :
- مسا الخير يا آنسه..كييف الأحوال؟
- .. مين هاد يا"بشير"؟!
- هاد "إسماعيل"المزبلح!قالها"بشير"و هو يدفع"إسماعيل"لأسفل..كأنه ينوى أخفاءه تحت الفراش..
هشت الفتاة مبتسمة..بينما هز"إسماعيل"رأسه متبسماً فى تواضع:
-أمبلا..أخو ل"بشير"المزعبر!
- هوا مزعبر بس يحبك.. ما بحكي غير"نرمين".. "نرمين"!.
مين"نرمين"؟!سألت الفتاة بغضب مندهش..بينما قال لها"إسماعيل"و هو"بشير"يتدافعان بالأيدي فيما يشبه العراك:
- خربطت الدنيا أنا!..كان قصدي قول"هند".."هند" يا خيتي!
-.......!
- مش"هند"؟!..بعدك مين انتي؟!عايده؟
قالت"نوران"ل"بشير"بضيق و دهشة:
- صاير فيها"هند"و"نرمين"كمان؟!
تبسم"إسماعيل"ضاحكاً بخبث:
- و"عايده"يا خيتي..تا نسيتي"عوده"!
- بالله!.. عم بيدللها كمان؟!
- "نوران""نوران"..ما تصدجيه..هاد الولد أونطجي..و لله مابعرف غيرك!
-أنا راح ورجيك يا كذااب..عمري بحياتي ما راح كلمك بنوب يا نسوانجي!
- استني ياخيتي..كنت بنكش راس..و لله كنت بهزر!
-جفلت!..سكت لمكالمه يا مكلعط!
صاح"بشير"و هو يهجم عليه و يطرحه فوق السرير..و يتهاوش معه..
-بتنكش راس؟و الله لأكسّر راسك!
- حرام عليك..ما تخاف من الله يا سفاح!..أيش بدك فيني؟!..كل بنات الربع دايرين يحبوك!
قال"إسماعيل"بصوت يغلب عليه الضحك..و"بشير"يضغط بكفه جانب رأسه و وجهه فى مرتبة السرير الناشفة..و قد جثم فوقه يثبته بركبتيه على ظهره..تمكن"إسماعيل"ذو السبعة عشر عام من سحب نفسه مستغلاً مرونة جسده اليافع..لكَن"بشير"طرحه على ظهره مثبتاً ذراعيه بقبضيه القوتين و قد أطبق بركبتيه على خصر"إسماعيل" ،و هو يحاول التملص دون جدوى!
..لجأ"إسماعيل"للحيلة..قال بسرعة و هو ينظر لشاشة اللاب المظلمة
-ألحج يا"بشير".. البنت فتحت!
تشتت إنتباه"بشير"لحظة أستغلها"إسماعيل"و بادر بالفرار!
***
لم يخبر"إسماعيل""بشير"حين عاد في المساء من عمله في محل الأدوات الزراعية مع أبو"إسماعيل"..و السبب أنه كان محموماً!
أسقمه التفكير فى كلام"رائد"..لم يكن يصدق أن"بشير"ليس أخيه أبن أمه و أبيه
..صحيح أن أبيه..لم يكن يضربه أبداً..
لكنه رجح أنه أحجم عن تأديبه..لأنه كبير..لا يخطئ مثله..
كان رجلاً فى الحادية عشر..و يعمل أيضاً..
بينما أكبر أخوته-الذكور-"رائد"مازال في التاسعة،و"جمال"فى نفس عمره..
و تسائل"إسماعيل"-بفضول-عما سيفعله أبوه بهما حين يعرف أنهما سرقا عصاه الخيزران ليضربه بها؟!
هل سيضرب"رائد"و يستثني"جمال"من العقاب كما يفعل-دائماً-أم سيعاقبهما معاً؟
لم يكن يعرف أن الشقيان قد هربا بعد أن أعادا العصا مكانه..لكنهما عادا قبل عودة أبيهم..يقتلهما الخوف و الجوع..
لكن أبيه لم يعاقب أحداً!..
و السبب أنه لم يعلم-أبداً- بما حدث..
نسيت"كرمل" أن تخبره-رغم-أنها أقسمت..
شغلها أرتفاع حرارة"إسماعيل" المفاجئ..وألهها عن إخباره..
تطلع للوجوه الواجمة التى ألتفت حول جسده المتصبب عرقاً من الحمى..بعينين ملتهبتين يفتش عن أخيه الحبيب..
أخته"ريما"تمسح بكفها على شعره الناعم الذى بللته الكمادات الباردة بينما تمتد الأيدي الصغيرة لتربت على كتفه و ساقه..و صدره المغطى بكمادة تغيرها أمه كل بضع دقائق..شعر بسخونة شفتي"جمال"وهما تقبلان كفه..بينما قبل"رائد"قدمه معتذراً بصمت!
لأول مرة يحس أنه يحبه..حتى أنه يغار عليه
..يغار من مكانة"بشير"فى قلبه!
-"بشير"!
خرجت زفرته المحترقة..كلهيب تنور"كرمل"حين تخبز الكماج الذى يحبه..
أقترب منه"بشير"دامع العينين..فمد ذراعه يحتضن رقبته..
- تبكيش يا خوي..أنا كويس!
ضغط"بشير"وجنته المبتلة بدموعه بوجه"أسماعيل"الملتهب بالسخونة..قال بزفرة محترقة:
- أنت جبل يا"أسماعيل"..جبل يا خوي
***
- ما هذا الهراء؟!هتف ساخطاً"ديفيد" بالعبرية قبل أن يسأل بشك:
- ألا يفترض أن يخبرنا بكل شئ ..هل حقنته بمصل الحقيقة أم أن الدواء تالف؟!
أجابه أحدهم:
- أهدأ أدون"ديفيد"..العقار يلغي قدرته على الكذب..لكنه سيقول ما يظنه حقيقة..
- أسأله عما تريد..و سأحاول أستخلاص ما تريد معرفته من مجمل كلامه..
صرخ"ديفيد":
ـ أريد الحقيقة.. لا ما يظنه أيها الفاشل!
رد الأخير بجفاء:
- لست أنا الفاشل بل طريقتك..عذبته حتى كاد يموت..و لم تحصل منه على شئ..و جاءت لتستعين بالعلم..فاتبع طريقتي!
***
أستيقظ"إسماعيل"على دقات قوية على باب شقته المستأجرة..لوهلة ظن أنه أستيقظ على صوت المنبه..نظر في ساعة المنبه الرقمية..الثانية و أربعين دقيقة صباحاً!
قفز من فراشه الدافئ و قلبه يخفق كالطبل..
من سيأتي في مثل هذا الوقت المتأخر-خاصة-فى ليلة ماطرة كهذه الليلة؟!
سأل بالعبرية بقلق:
- مي بدليت؟!
جاوبه صوت منخفض بالعربية:
- أنا"بشير"..أفتح بسرعه!
فتح الباب بسرعة ..ليجد"بشير"الذى كان الماء يقطر من معطفه الثقيل..قفز داخل الشقة بحذاءه الذى طبع بالوحل على السجادة البيضاء..و أغلق الباب خلفه..
-إنت أتكشفت..لازم ترجع معاي حالاً!
***
الجنود يكسرون الباب و يقتحمون الشقة..مقاومة..صراخ..
"بشير"يسقط مضرجاً بدمائه..جنديان يسحبونه من قدميه و الدماء النازفة من جثته ترسم أثره على الأرض..بينما قيد الباقون معصمي"إسماعيل"بالحديد..أخذوه بثياب النوم..ألقوه بالجيب فوق جسد"بشير"الهامد..وضع أذنه على صدر"بشير"المثقوب الذى ينز بسائل الحياة..سمع نفسه المتحشرج بالدماء..قبل أن يهوى كعب بندقية على رأسه..و يفقد الوعي..
***
لم يمت"بشير"على الفور..ليته فعل!
ترى هل تعذب"رائد"حين أطلق عليه الجنود الرصاص؟!
لقد بدا وجهه هادئاً كوجه طفل نائم!
كان يبتسم ..ترى هل أصابت الحجارة التى قذفها على الجنود أهدافها؟!
لقد كان بارعاً في رمي الطوب!
لكن الجنود مسلحين..يعتمرون خوذ تحمي رؤوسهم..و دائماً يقنصون من بعيد..
هل تعني إبتسامته أنه لم يشعر بالألم؟..
لم يعرف -أبداً-"إسماعيل"..لكن الثقب الدامي في جبهة "جمال"أنبئه أن الأخير لم يتألم!
هو وحده الذى كان يتعذب..
لقد فقد أخويه فى يوم واحد..
لكن أبيه أمسكه بقوة من كتفه..يده كانت ترتجف ألماً و غلاً..بدا كجدار يميل و يتداعى على كتف الصبي البالغ من العمر ثمان سنوات..
- الشهيد ما بنحزن عليه يا"إسماعيل"..الشهيد بيندار له بيت عرس..و اليوم عندنا عرسين!
أنكب على الجثمانان يحتضنهما بلهفة..يقبل رأسهما و يستنشق رائحتهما الزاكية لآخر مرة..
"رائد"يا خوي مسامحك وإنت يا"جمال"ياخوي مسامحك ..سامحوني يا أخوان!
***
أنت أيضاً سامحني يا"بشير"!
لقد كنت أمزح معك و أنت تعرف
..هى أيضاً كانت تعرف أنك لم تكن تحب سواها..
لهذا كانت تضحك على مشاغباتي و مضايقاتي لكما و أنتما تتحدثان على الفيس..
أعلم أنك سامحتني على قطع الحديث بينكما كل بضع دقائق..
هى أيضاً سامحتني فهي طيبة القلب مثلك..
أتمنى أن تكون مع حوريتك الآن
لا ريب أن الله قد جمعكما معاً الآن فى جنته
بعدما فرقت بينكما الحدود و السدود..
هى ذاقت الأمرين بمعتقلات الأسد و أستشهدت بعد أن أحرق كلابه جسدها حية..
و أنت أستخرج ضباع اليهود روحك مع الرصاص من جراحك النازفة..
الآن يرقد جسديكما الممزقين بقبرين مجهولين بالصحراء..
لكن ما أهمية الأجساد؟
إن الله على جمعكما لقدير..
أراكما على خير يا أخي و يا أختي..
أراكما على خير
***
- هذا الأمر لا ينفع!
هتف الطبيب بضيق:
- أستجوبه أنت إن لم تكن تعجبك طريقتي!
- ثم لماذا الإستجواب أصلاً؟!..لقد اعترف و حُكم عليه!
بعد برهة رد"ديفيد":
- لكننى لم أحصل بعد على ما أريد منه!
***
و لن تحصل عليه!
..قالها"إسماعيل"لا يدري بأية لغة
..عربية ..عبرية أو"أرافريت"*(1)
..لا يدري هل قالها بصوت مسموع أم همس بها لنفسه
..لكن المؤكد أنه لن يعطي"ديفيد"ما يريد..ببساطة لأنه لم يعد يذكر!
كل ما يذكره أن ما يريده"ديفيد"
في غرفة مظلمة..ليس لها مفتاح!
- لكن لو أردت إعترافاً جديداً..
فسجل هذا الإعتراف..
أنا"إسماعيل"..
ابن"كرمل"
..المرأة الجبل!
التى أنجبت سبعة أولاد
..و ربت أربعة عشر
تطعمهم إذا جاعوا،و تغطيهم إذا تعروا..
و لم أرها تشبع يوماً أو تنام!
و ابن الأستاذ"عبد الحي"
مدرس اللغة العربية
الذى وصل الليل بالنهار، وهو يعمل..لينفق على عائلته كبيرة العدد
الذى أحتسب خمسة من أولاده شهداء..
و السادس في عداد المفقودين..
أنا الشاب الذى أغرك به فقره..و أنت سبب فقره
أنت و قومك من سرقتم أرضي..
قتلتم أخوتي..
جرافاتكم هدت بيتي..و أقتلعت زيتونتي الشابة التى زرعها جد جد جدي قبل أن يأتي قومك من شتى بقاع الأرض!
لنقتسم-أنا و أخوتي- الجوع و الحلم الأخضر..
لكننا كنا نشبع حين ننظر فى وجوه بعضنا..
نقتسم اللقيمات المغموسة في زيت الزيتون..
اللقمة التى تنزل فى بطن الواحد منا تشبع الباقيين
و نحمد الله..
أعترف لك..
أنني ما عرفت للشبع معنى إلا حين كنت في وسطهم..
و أنني جائع منذ تركتهم!
لن أشبع حتى أعود..
إليهم أو إلى ربي..
و أعترف أنك أكثر أهل الأرض حماقة!
نعم أنت أحمق..أحمق كبير يا"ديفيد"..
و أنا لست أحمقاً لأبيع التبر بالتراب..
عذراً حتى التراب أغلى-عندي- من ذلك الورق عديم القيمة!
تظن أنني سأبيع أهلي و دم أخوتي طمعاً في مالك؟!
أبيع الأرض التى رواها أجدادي بالعرق و الدم و الدموع
الأرض لا يكفيها مال..
لهذا أشتريت!
أشتريتها بروحي و دمي!
بما تبقى من أيامي..
و العمر غال كما تعلم..
ليس بوسعك أن تشتريه
أنهى إعترافه..و أبتسم..
لأنه لم يهن و لم يخن..
لقد عرف نفسه و سامحها
- و لو أنها- عذبته بالظن و الأرتياب..
أستعاد عزة نفسه الأسيرة
حتى أنه بدأ يحن لذلك لحبل الذى شرب من دمه
فهو يصلبه-قسراً- فى وضع الوقوف..
و يرفعه فوق رؤوس جلاديه كالراية..
و برغم معرفته أنه سينسى كل شئ بعد قلبل
أغمض عينيه بإرتياح و نام
***
- "عزالدين"..ول"عز"..الأسير لجديد رجع من الحبس الإنفرادي؟!
- أيه..لساتو راجع من شوي..نايم هناك بتخته.
انتبه"إسماعيل"على الأصوات الهامسة..و رائحة زنخة تطبق غلى رئتيه المتورمتان..تزهق أنفاسه الضيقة..
فتح عيناً واحدة-كى-لا يلاحظوا أنه استيقظ..لاحظ أنه يرقد على سرير حديدي..كتفه الأيسر المتيبس يؤلمه-حتى- دون أن يحاول تحريكه ..و بعض الحشرات الصغيرة.. تتمشى على قدميه المجروحتان المقيدتان بكلبش حديدي فى السرير و تقرص فخذيه داخل سرواله البني القديم !
نفض ساقيه محاولاً إبعادها..فأصدرت حركته صوتاً مسموعاً بالعنبر الهادئ
..فتحرك كأنه يتقلب و هو نائم..قال أحد السجناء متصعباً:
- مسكين!
- مين لمناوب المسا؟تساائل أحد متهامسين..فأجاب الآخر بعسر:
- هاد النتن ..يونا..يوناتانت!
- يوناتان؟..أعوذ بالله!..من وين عرفت أنو بوز الأخص؟!
- من هاديك الممرضة"جيورا"
ممرضة؟!..و حبس إنفرادي؟!هل هذا المكان سجن أم مستشفى؟!..
- شو أسم الوارد لجديد؟
- مألوا أسم.. بينادوه 374..هوا أساساً مابيتكلم مع حدا!
تدخل ثالث فى الحديث..بهمس عالي منفعل:
- بس مبين عليه قبضاي..طحنوه ظرب و كهربا..كسروا عضمه.. ما عرفوا منه أشي!
- بتعرفوا أنه محكوم عليه بأكتر من ميّتان سنه سجن!
سأله أحدهم متشككاً:
- و من وين عرفت إنتا كل هاد؟
- عرفت من"أستر"أم"..."واسع متل زكمها!
- يلعن شيطانك !.. شوفوا شو بيفكر لمططش..و أحنا بنشعلك برضا ربي.مشان يخرجنا من ها لكرب!
صاح به أحدهم زاجراً..فضحك منشداً:
شوفات بحظي ببنت اليهودي قطعت صلاتي وديني ومعبودي
يما يايما عطيني فرودي عسكر جديدة يارب العونا
- فروده تطق براسك يا ضاوي!..بلكي بيسمعك النتن يونا..طوالي تاسحبك عبوزك عزل إنفرادي!
فكر"إسماعيل"أن ينضم لحديثهم..لكنه خاف أن يكون أحدهم "عصفورة"للأسرائليين،فصمت..لقد حاولوا معه هذه الحيلة و هو بالسجن..ولا يوجد مانعاً من يكرروها معه هنا..
***
- بطل.!. الله يسلم شبابه قالها أحد الشباب متحدثاً عن ذلك الشاب بإعجاب..فتمنى"إسماعيل"أن يراه و يتحدث إليه..له وحده سيحكي بإطمائنان.
قال الشاب المغني بحزن:
ألله يسلم عمرك يا خوي!..ما عرفت شو قال طبيب الغبره لما سمعه بسعلك بأول ليله؟
هب أحدهم من مرقده صائحاً:
- سيبوا طبيب الغبره بحاله!..إيوه يا"شعلان"قولت أنو ما راح يضل عايش..أساساً ما حدن بيخرج من المسلخ على إجريه..من يوم جيت هون ..كلك الواحد خارج محمل على ضهره!
- للألتهاب الرئوي بتحول أمفزيما و المريض مستني الأشعه..و اللى بدو عمليه بيستنا ليموت.. ما في غير حبة أكامول علاج كل لامراض و الأوجاع!..بدك حبه؟!
-أسال"شروميت"لأنو حتى هيدك الحبه ما طالع بإيدي عاطيك!
قالها بحزن غاضب و أولاهم ظهره و نام!
قام أحد السجناء من سريره..جلس على سرير ذلك الغاضب..قال مواسياً:
- روق يا زلمه!..شو بيك يا بو"فرح"؟!..تافكرتك مبسوط مشان راح تخرج قريب..بدكش تشوفها"يوستينا"؟
لم يرد الأخير أو يلتفت..ربت الأول على كتفه..قبل أن يدس يده تحت البطانية التى ينام عليها الأخير و يستخرج بعض الحبوب البيضاء!
قبضت يد النائم على يده بقوة..قال بعزم :
- هادي المره ما راح سيبك تاخدهم!
- ليش؟.. شو بدك فيهم؟.. أنت بعمرك تاخدت مسكن؟!
- ألله يخليك..تاعطيني ياهم!..مو قدران أتحمل!
- لساتك واخد حصتك!قال الرجل الغاضب.فرد الأخر مستعطفاً:
- حبتين..تكفيش هاديك حصه! بطني بيتقطع كمان..
- هادول حبوبي صايرلى يومين بجمعهم..
- خدهم يا"شعلان"!..بس تا فرقهم على الباقي..
قالها و أستلقى على ظهره..عقد ذراعيه فوق صدره..سكت برهة ثم قال بأسف:
!Jesus died on the cross.. would never came back
***
" بشير"ألتفت"إسماعيل"للمنادي الذى سأله و هو يضع كفه على كتفه بود:
- كييفك اليوم؟..
لم يكن"إسماعيل" قد نام من الألم المستعر فى صدره..لكنه لم يعتاد الشكوى..-خاصة- لشخص لا يعرفه..قال فى تحفظ:
-بسدير!*(2)
أرتسمت على وجه الشاب إبتسامة مشفقة-كأنما-أعتاد هذا النسيان..قال مشيراً لصدره:
- أنا"شعلان"..و أنتا" بشير"..أنتا هون من سنه و أربع شهور!
هز"إسماعيل"مؤمناً على كلامه..لكن في قرارة نفسه شعر برغبة قاهرة في الصراخ..ليس سهلاً أن يستيقظ - كل يو م- و هو لا يتذكر أي شئ
***
ليته يتذكر فيرتاح..
أو ينسى فرتاح..
***
انتابته لحظة صحوة-قلما-تزوره..و تذكر رفاقه فى المشفى- أو المسلخ-كما يسمونه!
"شعلان"مدمن.يسرق حبوب الأكمول المسكنة..التى يدخرها"جورج"الذى لا يتعاطى..
بينما الأخير يحاول جمع عدد كاف من حبوب الأكمول لينتحر بإبتلاعها دفعة واحدة..
"عز الدين"يبكي و يصرخ من ألم ظهره المكسور..بينما يمنع الطبيب الأكمول عنه وعن باقي المرضى على سبيل العقاب..
فيضطر"جورج"لتوزيع حبوبه الثمينة عليهم مجددًا!
حانت منه ألتفاتة نحو سرير"جورج"ليجد ذلك الشاب المصاب برصاصة فى ساقه..
- وينو "جورج"؟!سأل بقلق..فأجابه "شعلان"بسرور:
- خرج من السجن..بجالو يومين الله بيفرج علينا متلو!..يوم أنسجن كانت مرتو حامل..اليوم بنتو عندها خمستاشر سنه!
- "عز"تاعمل العمليه بعد سنتين و رجع عالسجن..ألله يلطف بيه و بينا..نظر"إسماعيل"تلقاء سرير"عز الدين"الذى جلس على طرفه المريض الجديد الذى تتدلى أمعائه من بطنه. حملها بيده حين قام ليذهب للمرحاض..تجعد وجه"إسماعيل" فى مزيج من الألم و الإشمئزاز..
أي هولاً هذا؟!
و كم مر عليه من الوقت و هو في تلك المقبرة؟!
قال"شعلان"محاولاً صرف انتباهه عن المنظر الرهيب :
- ممكن يخرجوك إنتا كمان من السجن قريب..يعني شو بدهم فيك و إنتا مو فاكرن أشئ!
خفق قلبه بضطراب..- وبرغم- أنه لا يعرف أحداً يذهب إليه حال خروجه المزعوم..تمني أن يكون كلام رفيقه صحيحاً..
حتى لو كان يكذب لا يهم..سوف ينسى مجدداً..
لكنه يفتح له باب أمل مؤلم!
شعر له بحرقة في قلبه..هل أمضى في السجن شهوراً أم أعوام؟
..هل لديه والدين على قيد الحياة؟
هل له أخوة و أخوات؟
هل لديه حبيبة مازلت تنتظره؟
لأول مرة يشعر بحجم خسارته!
لكنه يعرف أنه أختار الصواب و لو عاد به الزمن..
سيختار نفس الطريق و لن يبالي بالعاقبة..
لله الأمر من قبل و من بعد..
و غداً سينسي كل ما كان..
و ما سيكون..
و هو سعيداً لذلك!

تمت
*******
(1)هى لغة هجينة بين العربية و العبرية..تسمى أيضاً اللعة البعرية.
(2)نطق كلمة عبرية تعنى جيد.

قصص تليجرام