أهداء لمن يهمني رضاه..أتمنى أن تروقك كلماتي..كما أرجو أن يكون عملي قد راقك..إن لم يكن كذلك فسامحني..لا أريد أن أغضبك-غضبك-هو ما لا أريده البته..ما أريد إلا رضاك أيها الموت العزيز!
أقرأ أيضا "نجمة"
الجزء الأول(من أنا!)
ما للعروبـةِ تبدو مثلَ أرملةٍ؟ أليسَ في كتبِ التاريخِ أفراحُ؟
والشعرُ ماذا سيبقى من أصالتهِ؟ إذا تولاهُ نصَّـابٌ ومـدّاحُ؟
وكيفَ نكتبُ والأقفالُ في فمنا؟ وكلُّ ثانيـةٍ يأتيـك سـفّاحُ؟
حملت شعري على ظهري فأتعبني ماذا من الشعرِ يبقى حينَ يرتاحُ؟
يال هذه الأبيات!
كل هذه السنوات مرت و لم يتغير شئ؟!..لم يتغير شئ على الأطلاق!
تقول أن هذه نهاية القصيدة؟..أجل أعرف!
فهذا عيبي يا صديقي..دائماً ما أتعجل النهاية..إنها مريحة واضحة!
أرجو أن تغفر لي زلتي و لا تضيق باستعجالي..احتملني كما احتملت صحبتك..احتملت هدوئك و طول بالك الذى يثير جنوني
..أنت صديقي لهذا أحتمل طباعك الباردة الغريبة و صاحبك على عيبه كما يقولون!
مهلاً!..مالك تنظر إلي مضيقاً عينيك في تساؤل؟-كأنك-لاتعرفني!
سأذكرك بنفسي..أتذكر ذاك الشاب المرتجف الذي أغرق الدم رأسه و ظهره العاري حين مزق الحرس-ضرباً- جسد ذلك الشاب..
حين رفع الأخير رأسه -رعباً-من السجود في باحة السجن..بعدما سمع فرقعة قشاط الدبابة*1 على الظهور..مخلوطاً بالعواء و الأنين
..هل عرفتني أيها الموت؟..لم تعرفني!
أعرف أن هذا حدث في أماكن كثيرة..أنت كنت في كل هذه الأماكن بالطبع..لكننا -أنا و أنت- لم نفترق من بعد ذلك اليوم..تذكر!
مهجع العزاء..الجثث العارية النازفة..كنت أنت تستلب الروح..و أنا أستلم الجسد..ها قد عرفتني أخيراً أيها الكهل الطيب!
لم تعرفني في البداية..تقول إنني حين دخلت المعتقل كنت أصغر سناً و أوفر شباباً مني الآن!
هذا طبيعي..لقد مضت عشر سنوات كاملة-ربما-أكثر..أربعة منها قضيتها معك بين زنزانة يتكوم اللحم الحي في طولها وعرضها..و بين المهجع المكدس بلحوم الأضاحي كحانوت القصاب!
أنتظر لحظة!..أنت تقول أنني الآن أبدو أصغر سناً مني يوم غادرت المعتقل؟!..
أجل كنت أبدو تماماً مثل جولوم من فيلم مملكة الخواتم!..
لماذا تذكرني بذلك الوحش القمئ؟!
..الشئ المضحك أنني كنت أرى رفاقي..كلهم جولومات..أعتدت مناظرهم المنفرة..أجبرتني الظروف على تقبل مظهرهم المروع.. أحببت قلوبهم الطيبة..لكنني-لا أدري-لماذا؟
لم أصدق أنني أشبهم!
مضحك؟!
بل مفجع!.محزن و بالغ الآسى..
دعك من هذا و أخبرني..هل أعجبتك الشقة؟..
أربع حجرات واسعة و مريحة ..تعبت كثيراً للعثور على شقة بهذه المساحة و هذا السعر المعقول..
انتقلت إليها منذ عامين..فقد كنت أسكن في شقة أستوديو..عبارة عن غرفة و حمام..مناسبة لي أو -هكذا- ظننت وقت أستأجرتها!
تعرف..قضينا أوقات صعبة نتدافع بالمناكب في مساحتها الضيقة..حتى في الحمام..كانت مجموعة منهم تبيت هناك بالتبادل!
من "هم"؟..حقاً لا تعرفهم!..لقد صرت كثير النسيان حقاً!
هذه هى المشكلة التى أكتب إليك أرجو حلها..لقد جاؤوا معي من سوريا!
تسأل كيف؟..و ما أدراني أنا يا أخي؟!..أنت أدرى بأحوالهم مني!
هم بكامل هيئتهم هنا..أنت ورطتني معهم.. عليك الآن أن تتصرف!
***
الدمشقي
هذي دمشق.. وهذي الكأس والراح إني أحب... وبعـض الحـب ذباح
أنا الدمشقي.. لو شرحتم جسدي لسـال منه عناقيـدٌ.. وتفـاح
كم عشقت هذين البيتين!
أحببت شعر نزار قباني..معظمه -إن-لم يكن كله..لكنني شعرت بنشوة العشق في هذين البيتين..سكنت فيهما..و عشت و مت!
شعرت بالفخر..بأنني الدمشقي..دمشق تعيش تحت جلدي..مثلما أعيش فيها-ربما-أكثر!
ألهذا قتلوني؟!
..دنوت كثيراً من الموت في تلك الأيام..لم أمت!..أم لعلي مت و نسيت؟؟؟
..أحياناً أشعر أني جثة نخرة..جثة ملقاة بصحراء ملحية..قد ضنوا علي بمكرمة الموتى من دفن و تكفين!
شرحوا جسدي..و لم يخبروني ..لما وجدوا لحمي لذيذاً؟!
أخبرني أنت أيها الموت..أين عناقيد كرومي و تفاحي؟..كنت "مطمشاً"فلم أرى ما فعلوه بجسدي!
مرت سنوات..ملامح جراحة إستئصال وطني مازالت تبدو على جسدي..أراها في المرآة و أتحسس ما أطوله منها بأنامي
.. تغور فيها أطراف الأصابع..بين النتواءات و الحفر..
و ما تركته في روحي أكثر غوراً و إيلاماً!
تذكرني بما لا أنسى!..تعيد إليّ التفاصيل..كفقي الكتاب..من حفظ الدرس يا شطار؟
..يطلب مني التسميع..يختارني دوماً..يلوح بالعصا.. فأسّمع!
..لا أخطئ في حرف..ثم أجلس "مخزياً ك"البليد" الذى لم يتذكر حرفاً!
أبكماً كالأسماك..أبرحتني نصوص التسميع ضرباً حتى تورمت روحي..
بعدها يبدأ رفاقي بتهنئتي بالتصفيق لي على الوجه و القفا!
من أين أبدأ أيها الموت؟..سأحكى من حيث تختار..
هل أنت متعجل؟..أم لديك وقت لتسمع بداية القصة..سأحاول أن أختصر ما أمكنني..
شكراً لأنك أتيت أولاً..وألف ألف شكر لأصغائك..
***
الأحد ذات نهار أصفر كئيب..كنت في الباص ذاهباً للجامعة -كنت-طالباً بالفرقة الثانية بكلية الطب-كما تعلم-..مكتئباً لمجرد أنني سأكون هناك بعد نحو نصف ساعة بين الجثث المنتهكة في مشرحة الكلية..ربما لهذا السبب خبأت ديوان شعر بين أوراق كتاب التشريح..و أخذت أقرأه-خلسة-في الباص..
أغاني فيروز الصباحية تنساب في أذني عبر سماعة الهاند فري..
و في صدري يصرخ ذلك الألم الغامض..أحساسي بأنني في سن العشرين و لم أحب أبداً!
.. شعور يشبه الخجل-لأن-الجميع كان يحكي عن فتوحاته في عالم الغرام..بينما لا شئ لدي لأحكيه..كنت أعجب مجرد إعجاباً عابراً
..هل كبروا هم و ظللت ولداً مغمض العينين كهر وليد ؟!
حتى الأولاد أحبوا.."فارس"أخي في الرابعة عشر و يحب؟!
صحيح أنني حصلت على مجموع كبير و دخلت كلية الطب..و هى مكافأة بدت كعقاب إلهي..
إلا أنني شعرت أني غير مكتمل على نحواً ما!
مرتبك وغير مكتمل
..كأحوال الثورة الوليدة التى بدأت تحبو..المظاهرات تعم أرجاء سوريا..و آمال آذار الزاهية الملونة تحولت لضباب أزرق في أيلول..لماذا تحدث معظم نكباتنا في أيلول؟؟؟
في الديوان قصيدتان لا غير..تتحدثان عن قهر الشرق "المقهور" -أصلاً-للنساء..تراثاً عمره ألف عام.. من قهر مقهوراً لمقهور!
بداخلي ثورة وثورة وثورة
..ثورات صاخبة..هدير موجاتها العاليات يحجب عني اندفاع النهر البشري المتدفق في الشوارع..
لم أمش في موكب الثورة و هى عروس..غانية صغيرة..تصفق لها الأكف و تدوى لها الزغاريد..
لم أحملها و هى حبلى على محفة إلى المستشفى بها وجع الطلق و المخاض العسير!
و لم أحضر..حين ولد جنينها الجميل ميتاً؟؟؟
لكنها كانت مصرة!
تحبل..
ليس كباقي النساء كل عام..بل كل يوم!
كل طلة شمس..و عند كل غروب ينزل الولد الجميل "سقطاً"ميتاً!
لم أقترب من كرسي الولادة المنصوب في الميدان
..مرشوماً بالمسامير ككرسي الإعتراف!..
تجلس عليه من الصباح إلى المساء..لا تعترف .. لا تطلب صفوحاً..بل تلد!
طفلاً جميلاً.. مغمض العينين ميت.. من شدة التعذيب و الألم!
فقط اهمس لها من بعيد..بقلب يعتصر..كفي!
..بالله عليكي لا تلدي..كوني عقيماً..و استريحي!
لن أستطيع مجاراتك..لن أستطيع!
أنا كبير أمي و مسئولاً عن شقيقي الأصغر-بعد-رحيل أبي..
لهذا فلتتوقفي!
ماذا حصدت سوى العذاب و موت الوليد كل يوم تحت أنظار الثوار و القتلة و العالم شهوداً؟!
كل يوم يا هناه!
و برقت الفكرة الرهيبة في رأسي..أعمت عيني صورة الجسد الغض لمراهق..قد عُجنت فيه كل فنون التعذيب وجنونه في الصدر و فوق الكتفين الضيقين..و تناثرت الحروق شهباً على الساعدين و الساقين..بين الفخذين حفرة نيزك مكان؟؟؟
و دوى الرعد في الخلفية..
ترافقه ضحكة مغصوصة من صديقي"جاسر".. يقول بفجاجة:
- راح يجيبوا إلنا جثث جديده كل يوم!..مين يا جماعه ضايعلوا شب؟.. يتعرف على هالولد!
انتابني شعور ممرض بالغثيان ..و تمنيت ألا يحدث هذا..
ألا يجلبوا جثث الثوار إلى مشرحة الكلية--كما -أقترح "جاسر"متندراً منذ أيام..بدل الجثث إللي أسودت و انهرت كما قال..!
و هو ما حدث -بعدها-بالفعل في كلية الطب بحماه *2
و برغم معرفتي أنها مزحة سخيفة من مزحاته..كرهت "جاسر" و تمنيت أن أضربه!
لو كان أمامي -الآن- لحطمت رأسه-خاصة-أن بعض زملاءنا..إما لديه أخ مفقود أو هو ذاته مفقوداً!
لم أكن أتخيل أنني؟؟؟؟
عندما أنزلوني من الباص مع أكثر من نصف الركاب
..طالعوا هويتي..بعثروا كتبي..
سبوا أمي..و مزقوا الكارنيه الجامعي الخاص بي..
حتى عندما سمحوا للسائق بالذهاب مع ركابه القليلين..
قلت لنفسي لا يهم سيسألوني سؤالين و يتركوني لأستقل الباص التالي..لن يعتقلوني..هذا يحدث للآخرين فقط!
تشاغلت بالنظر للأرض و أحمر وجهي خجلاً حين وقعت عيني على صورة المرأة عارية النهدين على غلاف الديوان..و قررت اني سأخيفه بين الكتب أو أنزع غلافه..لا يهم !
لا تهم مسبة أمي-ما دامت-لم تسمعها..
المهم أن أعود للدار و أتناول معها الغداء أو العشاء على حسب الظروف..
أن تغطيني و أنا نائم في فراشي بعد سهر المذاكرة..و تطمئن أنني سليم معافى - ظاهرياً-على الأقل!
كنت أرتجف من الخوف..
فيما بعد- ربما -شعرت بالغيظ من نفسي..
بالتفاهة..بالعجز-ليس الآن- بل فيما بعد!
سأشعر-ربما- إنني ضئيل و أصغر من هباءة..
مجرد ذرة سوداء لا ترى..
لكنني على صغري..و سوادي و قلة شأني..
كذرات الأثمد..في مكحلة أمي الفضية
لعينيها الطيبتين دواء !
لهذا لم أصدق إذ توقفت السيارة على حيد الطريق أنني لن أصل لكليتي أبداً!
..عندما عصبوا عيني و قيدوا معصمي لم أصدق.. أنني لن أعود إليها.
و أنها ستموت دون أن أراها-لو-لمرة واحدة!
فقط تأكدت عندما حشروني دفعاً داخل السيارة المكدسة باللحم الحزين..
أنني و من ذلك التاريخ 18 أيلول2011..أصبحت-رسمياً-في عداد المفقودين!
يتبع
***
1*سير محرك الدبابة عرضه 10 سم بسمك 5 سم و طول 80 سم
2*حقيقة.
أقرأ أيضاً ألعاب صيفية"صيد السمك"
الجزء 2 (في المعتقل)
ما بين آيلول الكئيب إلى آيار
أربعة أعوام مضت
في الإنتظار!
عام خوف
و عام وهم بليد
وعام نار..
و عام نهره المصفى
من مرار!
**
و جموع قتلى في إنتظاري..
أتوا زحفاً وحبواً
كي يطلبوا مني-لوحدي-
كل ثأر
كأنه كان أختياري!
**
يا رفاقي..
يا رفاق الليل..
و الدم و الرغيف
المعجون بماء آسن
و الصرخة المعلقة
على الجدار..
قسماً
لم يكن هذا أختياري!
كلا!..لن أحكي لك ما تريد سماعه..طمشونا و شلحونا وعذبونا!..هل حقاً تريد أن تسمع هذه الحكاية المعادة؟؟؟..لابد أنك سمعتها ملايين المرات من أفواه ملايين البشر..عشرة ملايين من سوريا وحدها!..سمعتها في عشرات و مئات البلاد..من آلاف السنين ذات الحكايا تُعاد!
حتى الفتى الذى قُتل ضرباً بسيور محركات الدبابات..قالوا أنه تجرأ و رفع رأسه-لا أصدق-أنه جرؤ!
..ألم يمر على مركز تحقيق؟..ألم يأتي معنا من السجن المركزي؟! التعليمات واضحة في أي مكان "أرفع رأسك تموت!"
ربما قتلوه - لمجرد-أن يرعبونا و-قد-نجحوا..
هو الآخر حكايته معادة..
فقد علمت -بعدها-أن لكل حفل إستقبال عريس!
تصور؟.. أن أحد المعتقلين مريض بالسل رأهم يقتلون معتقلاً ضرباً في إستقبال آخر..لأنه صارحهم بمرضه!
لكن لماذا أحكي لك ما تعرفه؟!..ما هذا الإملال!
كلا!.. لن أحكي لك عما فعلوه بي.. كنت أنت-وقتها-حاضراً وشهيداً..
إنما أريد أن أسألك عن"نزار"
..هل كان أسمه "نزار"فعلاً؟!
..لا يهم الأسم..فقط تذكر معي ذلك الطفل ذو الثمانية أعوام..تذكر صرخاته البكماء حين قطعوا لسانه!
تذكر صرخته حين فقئوا عينه اليمنى..و أخبرني لماذا انصرفت؟!
..لماذا تركته حياً يا موت؟!
..أيها القاسي.. أليس لديك قلب؟!أم أنك ظننته مات-كما-ظن معذبيه؟!
أليس لديك -أنت-الموت خبرة في الموت؟!
حتى -أنا-الطالب الذى لا يفقه شيئاً في الطب..عرفت أنه حي..نبضه الضعيف و انفاسه الخافتة تخبر أنه في غيبوبة..
لماذا ورطتني معه و معك؟!
***
الطبيب الوحش
عندما أوقفوني في ذلك اليوم..لم أرهم وحوشاً..كونوا فتية في مثل عمري-ربما-أصغر..
ربما لو تبادلنا الأماكن..لو كنت أنا-و رفاقي- من نصوب نحوهم السلاح ..لجثو على ركبهم باكين في توسل و خوف..
لكن هنا في أرض قلعتهم الحمراء..هم وحوش بكل ما تحمل الكلمة من معانى!
هل تعلم أن لقب العائلة الرئاسية ليس الأسد بل الوحش؟..
بشار حافظ على سليمان الوحش..هذا هو الأسم الحقيقي للطبيب الهادئ "الخجول"الذي يحكم سوريا من عام 2000..بالقهر و الإذلال..
و هؤلاء الوحوش!
ربما أستطعت أن أفهم أن شاباً جاهلاً من بيئة فقيرة و أصل منحط ..يتحول إلى وحش سادي
..لكن أن يكون زعيم هذه الوحوش المريضة..رجل مثقف من أعلى درجة إجتماعية و طبيب عيون!
الحق إنه أمر غريب أيها الموت!
و الأغرب منه المكان الذى تعرفت عليك فيه!
سجن صيدنايا الأحمر من الخارج و الداخل..
دهنوه بالطلاء الأحمر من الخارج بعد استعصاء 2008..و في الداخل أرضياته وجدرانه العطنة ملطخة بالدماء!
هنا ليس لديك أسم..أنت....و أبوك....و أمك....!
إذا نادوك..يجب أن ترد بسرعة و حماس وإلا فالويل لك!
هنا لن يسمح لك سوى بستر عورتك الوحيدة..و هى عينيك!
تسجد عارياً كجنين في بطن أمه..تتلقى الضرب بالكابل*3-أو بالأخضر الإبراهيمي*4-حتى- تغرق في دمك..
دون أن تفتح عينيك أو فمك!
هنا -حتى- الصراخ ممنوع..لو صرخت تأخذ الضربة مئه!
و لو تعرت عينيك-عورتك- تقتل من دون تفاوض!
لهذا حين حلوا القيد من يدي..و أمروني أن أزيل الطماشة..فكرت في الأعدام..
- اشلح الطماشة يا ابن ال...!
بيد ترتجف خلعت العصابة..و أغمضت عيني بقوة..
أول وجه سأراه ..-سيكون الأخير-فهو وجه قاتلي..
- فتح عيونك يا...!
ضربي بالكابل على صدري..
- العمى ولاك!..أفتح عيونك ..بدك تشيل فطيسه!
فطيسه!
ميت!
استعدت أنفاسي التي انقطعت من الرعب..و نظرت لجثة الشاب العشريني..مشوه الوجه..و أرتعد بدني حين
.. تأكدت أن أقدامي الحافية تخوض-منذ-البداية في بركة لزجة من دماه!
منذ ذلك اليوم صرت حمالاً للجثث..أجرها جراً لا أستطيع حملها - لضعفي- من المهاجع و غرف التعذيب..إلى مهجع العزاء..
***
نزار الأخرس..
معذرة أيها الموت!..لقد وعدتك إلا أحكي- مطولاً -عن التعذيب..لكن لابد من توضيح بعض الأمور..فأنا-حقيقة-لا أشكوهم لك..
بل أشكوك أنت يا موت!
أمضيت الأيام و الليالي أرجوك.. أن تريحني من كل هذا العذاب..فأبيت!
ليس هذا فحسب.. بل و صنعت مني جلاداً!
لماذا يا موت؟!
إن دور الضحية -كان-أقل وطأة على ضميري..
هم زبانية..وأنت ملك مأمور..فما كان دوري بينك؟
..جلاداً؟..ملاك رحمة ؟أم -مجرد-أداة-ربما-سكيناً أو حبل مشنقة!..
ليتني كنت جماداً يا موت..ربما كنت استرحت!
يتبع..
3*الكابل الرباعي..كابل توصيل الكهرباء للمنازل، يستخدم في تعذيب المعتقلين
4*الأخضر الإبراهيمي ماسورة مياه بلاستيكية بقطر يتراوح ما بين 1.8-2.5سم تستخدم أيضاً في التعذيب. .
أقرأ أيضاً الجائزة الكبرى
الجزء3(القتل الرحيم!)
لو كنت أعلم عن قضية البيتزا جيت و عقار الادرينوكرومين*5.لظننت أن نزار كان ضحية لهذه الطقوس الشيطانية..لكنني لم أكن أعلم-وقتها-
لذا وقفت أمام جثته الصغيرة منزوعة العين و اللسان -مصدوماً..لا يمكن أن يكون هؤلاء بشر!
كيف و لماذا عذبوه؟!
ماذا فعل الطفل؟!
قال أحدهم بصوت غليظ -هل كان يأكل؟!
- روح كبه بالمهجع!
لا أعرف لما ركعت بجواره وألصقت أذني بصدره المكسو بدمه..
- شو بتعمل يا....؟!
صاح أحدهم بفم مليئ بالطعام-كانوا يأكلون-و لولا أنني رأيت لسانه المقطوع مرمياً -بالقرب منه- لظننت أحدهم أكله!
..في تلك لحظة خيل إلي أنني سمعت نبضة!
نبضة..سرت من أذني إلى مخي ..كصعقة الكهرباء على الجسد المبلول!
جسست وريد عنقه
نبضة..
نبضة أخرى..إنه حي!
- لساتوا عايش!..صرخت
تلقيت ركلة في و جهي..
- شو بتقول يا ابن ......؟!مفكر حالك دكتور عن جد يا....؟!
صرخ أحدهم و الكابل بيده يقصم ظهري..
- عايش!..عايش سيدي!..بعدو عايش و الله!
هوى كابل آخر على ظهري..
- عايش!..فيك تتأكد!
صرخت منكفئاً عليه.. أحجب عنه الضرب قدر ما أستطيع ..سقطت فوقه مقطوع النفس ..لا أجد صوتي..و ضرباتهم تطحن عظامي!
استجمعت ما تبقى من قواي الخائرة فى زفرة أخيرة.. بينما يدعس أحدهم ب "بسدوره" على رأسي:
-خلص مات!.. ميت سيدي..شابع موت!
***
كم كنت أحمقاً!..هل ظننتهم سيرسلوه إلى المشفى؟أم سيعطوه حقنة هالدول؟!
أم.....؟!!!
على كل حال حملته إلى مهجع العزاء..الذى يضوع برائحة الموت..بعد وقت سيفيق فيجد نفسه في المهجع -فى الظلام-راقداً بين الجثث المتفسخة..فيجن رعباً..ساعات!..أيام!
بعدها يقتله الألم ..الجوع .. العطش
..أي موتة سيموتها الصبي المسكين!
لماذا تركوه حياً؟! ليتهم قتلوه!
أرتج قلبي مصعوقاً حين علمت..أنني كنت أنبهّم ليجهزوا عليه ..لكنهم بخلوا عليه بالموت الهادئ!
دون أن أشعر أمتدت أصابعي المزرقة المتورمة من الضرب..تطبق على عنقه الدقيق ..أقسم أن سبابتي تلاقت مع أبهامي..حول عنق الصوص عاري الرقبة
..أظنه فارق الحياة فى ثلاث دقائق..لكن أصابعي تشنجت و ماتت على رقبته ..سمعت صوت فقرات عنقه ..
وهي تتحطم!
عندها فقط تركته..
جلست أبكي في نشيج..لطمت وجهي.كانت أول مرة ..لكنها لم تكن الأخيرة!
***
حكاية وحشية
"- يا الله!..يا ربي!"انتفضت كأنما لدغني عقرب-مصدوماً-تركت قدمي الجثة -و كانت-جثة "ختيار"عجوز- تسقط أرضاً.."أنهبدت"بدوى جمد الدم في عروقي..
فتاة تبكي في مهجع العزاء !
اختل توازني من المفاجأة
..انزلقت قدماي النازفتين بالصديد .. وقعت
يا الله!..ارحمني يا ربي! نشجت فتاة من بين الجثث المصفوفة على الجدار..فتاة في سجن صيدنايا العسكري!
فتاة؟!
تحاملت واقفاً على قدمي المتقرحة..صحت متلفتاً حولي برعب:
- مين بيبكي؟!..في حدا هون؟!
- أنا هون..هون!
***
"أولجا"جارتي الألمانية الحسناء ذات الجديلة الفرنسية الراقصة..تحمل الأغراض التى تشتريها من البقالة- كل أسبوع - في كيس ورقي كبير و تستقل المصعد..
أحمل أغراضها فتشكرني..غمازتيها الحلوتين تغازلني كلما ابتسمت..
تدعوني لتناول كوب من الشاى في شقتها..أعتذر
..تأت و تطرق بابي نتحدث أمام الباب..بينما أحجب داخل الشقة بجسدي..كي لا تراهم!
لا أدعوها للدخول..أعتذر مرة من بعد مرة.. محاولاً انتحال عذراً يفهمه عقلها الاًلماني..
- الشقة غير مرتبة..ابتسم بحرج..شقة عازب..
تبتسم في تفهم..
وتعرض المساعدة!
- أذاكر لإمتحان اللغة..تبدي استعدادها لتدريسي!
أحاول إبعادها بلطف..لكنها تعود.. تطرق بابي دوماً بأعذار لا تنتهي!
لا أفهم ما الذي يبقيها تحوم حولي كفراشة ..
تهفو إلى اللهب الذى سيحرقها!
ما الذي أعجبها فيّ؟!
ماذا تعرف عني سوى عنوان حكاية ؟!
لاجئ هارب من جحيم الحرب..
يداري هشاشته و إنكسار الروح فيه..بابتسامة متعبة!
لا تبوح ملامحه ..بحكاية نصفها الأول ملحمة..منقوشة على جسده بلغة عتيقة
..أقدم من اللغة المسمارية لكنها تقاوم الانقراض!
.. و نصفها الثاني مأساة..لا يعرف كيف يحكيها
..لا يعرف حتى أسماء أبطالها!
***
منذ أيام وصلني طرد بالبريد..على عنوان المستشفى التى أعمل بها ..طرد مغلف بورق التغليف الأحمر..يوم عيد الحب تحديداً!
قال"شنايدر"زميلي مازحاً و هو يراني منهمكاً في فتح المغلف:
-أوه!..كم هذا لطيف!..يبدو أن الذئب الوحيد لم يعد كذلك..
ضحك بذلك الخبث الطفولي المحبب مضيقاً عينيه في ذكاء..
كان في صندوق الورق المقوى.. قصاصة من جريدة ألمانية شهيرة ..بها أخر تطورات محاكمة الطبيب السوري "علاء موسى" و كارت معايدة صغير.كتب فيه بالألمانية
..أنت القادم يا دكتور!
كانت رسالة تهديد!
- ما هذا بالضبط؟!..قلت ساخطاً ..
طالع"شنايدر" الرسالة المقتضبة..نظر إليّ ثم سأل بدهشة:
- القادم في ماذا؟!
ناولته قصاصة الجريدة..قلت بضيق:
أخبرني أنت!
قال معتذراً:
- دعك منه!..لابد أنه شخص أحمق من يرسل مثل هذا الهراء..
***
أصابني الدوار و أنا أحدق في غدد الحليب المصهورة تفترش صدرها.. كأروكيدتين سوداوتين تفتحتا بجسدها الحليبي الناصع..زرعت عيني في الأرض هرباً ..من عري جسدها.. كانت بلا ثديين و مؤخرتها مصهورة بلهب الأوكسي أسيتيلين!
-الله يخليك.. الله يوفقك تقتلني!
- بوس أيدك تقتلني.!
- ما بقدر أختي!قلت منهاراً و دموعي تتساقط على الأرض..منذ أيام لا أدرى بطولها..قتلت صبياً لا أعرف أسمه..لم أعد أستطيع النوم
..تعبت أقنع نفسي بأنه كان ميتاًً..و أنني-لفرط-حماقتي توهمت أن قلبه ينبض..
مع الوقت اقتنعت!
..أبداً لم أقتله!
..لا و لم أخنقه حتى تهشم عنقه..
لقد رأيت كابوساً أو ما شبه..هذا هو التفسير الوحيد..
و الآن شابة في العشرين ترجوني أن أقتلها!
أى بلاء هذا يا ربي!
قالت يائسة:
-على القليله ما برضاك ضلني هيك بين لرجال..استرني ألله يستر على حريامك!
هرعت أبحث لها عما تستر جسدها به..
- سامحيني!قلت في نشيج..وأنا أغطيها ببطانية نزعتها من أحد الجثث..
- مسامحتك دنيا و آخره!
غطيت و جهها وأطبقت كفاي على عنقها من فوق البطانية حتى أسلمت الروح!
***
الجزء 4(إجاك الدور يا دكتور ..بالألماني!)
الرسالة التى وصلتني كانت تقول..أن هناك شخصاً آخراً يكرهني..شخص ألماني يفترض أنني..مادمت-طبيباً-من سوريا..فأنا بالضرورة مجرم حرب..
مثل" بشارالأسد" و"علاء موسى"!
هل أنا مثلهم؟؟!!
هل سامحتني يا"ورد"؟!
ماذا كان بيدي لأفعله لك؟!..غير ميتة رحيمة..
لماذا تنظرين إلي بهذا اللوم و المقت؟!
هل تعلمين من هو"علاء موسى"الذى يحاكم فى ألمانيا؟..إنه طبيب سوري شارك في تعذيب سجناء..في المستشفى العسكري الذى كان يعمل بها..و في سجن تابع للمخابرات"هل كان صيدنايا؟..
إنني أتابع محاكمته منذ البداية..و لولا أن وقتي لا يسمح..لسافرت لفرانكفورت لحضور جلسات محاكمته..عملي يمنعني..و خوفي!
ليس خوفي منه..
ليتك رأيت كيف يخفي وجهه!
.. كم هو بائس !
ذليل..خائف ..يتحدث بهدوء و مسكنة..
يقول برقة و عذوبة..أنه لم يشترك في عمليات التعذيب-كزملائه-و أنه كان يشفق على السجناء
..كم هو حنون ذلك الوغد !
ذات يوم بلغت به الشفقة حد ضرب مريض مصاب بنوبة صرع بالأخضر الإبراهيمي -كما- أقر الشاهد الوحيد..و قد توفي السجين المضروب في وقت لاحق!
عندما تطلعت في وجهه تهت..و انتابتني قشعريرة باردة كملامحه!
نفس الوجه الذى أراه حين أنظر في المرآة..
نفس الوجه الهادئ و العينين الميتين!
بماذا أختلف عنه؟!
هو متهم بارتكاب ثمانية عشر واقعة تعذيب و حالة قتل واحدة على الأقل-ربما-قتل العشرات بالحقنة المميتة
..لكنني قتلت أكثر!
هل تصدق أنني خلال مدة اعتقالي التى قاربت الأربعة أعوام.. قتلت 257 قتيل؟!
كنت مجبراً؟..هو أيضاً قال أنه مجبر!
كلانا طبيب!
أخبرك بشئ طريف؟..كلانا لجأ إلى ألمانيا في عام ال2015!
هل تحب الأحاجي؟..جيد سأخبرك بواحدة..
ثلاثة أطباء.. الأول أمر بالقتل..و الثاني قتل بالأمر و الثالث قتل ..بدافع إنساني؟!
من منهم قاتل ويستحق العقاب؟
وهل في القتل دوافع إنسانية؟!
***
جرب أن تنام و أنت..
محطم النفس و الجسد..
عارياً..ترتجف من شدة البرد..
جائعاً..ريقك كالصبر ..مراً من شدة العطش..
يأتيك النوم-بعد عناء-تهاويم كفراشات خفيفة الجناح
.. تتمنى ألا تستيقظ
..لكنك تستيقظ على صوت الحرس!
..ما يزال الوقت ليلاً..هذا يعني وقت الإعدام !
لماذا لا تُنفذ عمليات الإعدام إلا بعد منتصف الليل؟؟؟!
..ينادوا عشرة أسماء..ينتفض قلبك هلعاً مع كل أسم..
الرجال الذين وقع عليهم الإختيار يبكون في إنهيار..منظرهم يثير الشفقة فعلاً..
لكن ما يفتت قلبك حسرة هو أنك قد تكون التالي!
يكتمل العدد عشرة..يرحلوا بوداع قصير..غزير الدموع!
تبكى عليهم و أكثر على نفسك!
كل ليلة تكتشف أنك مازالت متمسكاً بالحياة
..أيها الكاذب الرعديد!
و مع ذلك تقول لنفسك في تخاذل..ليتني كنت معهم!
لماذا لم أدس نفسي في وسطهم؟!
و تمتنع عينك عن الغمض..بين خوفك من أن يعودوا و يأخذوك لتعدم..أو أن تستيقظ-في الصباح على الضرب و السب..و حمل الجثث إلى مهجع العزاء..
و الرعب الذي ينتظر ليفاجئك..كل بضعة أيام..في يد تمتد لتطبق على كاحلك..أو صوت يرتعش بمسكنة يرجوك ..أن تسقيه شربة ماء..أو آخر يتوسل إليك أن تقتله و تختصر عذابه!
..و يتكرر الأمر كل يوم..ثلاث سنوات وثمانية أشهر..1337 يوم..
تفقد الأمل..توقن أن هذا سيدوم للأبد..
ثم يأتي اليوم!
و تجد نفسك مع أثنين أو ثلاثة تخرج من الباب..لترى الشمس التى لم ترها منذ سنوات..
..بعد أن ظننتها مخلوقاً أسطورياً ليس له وجود..إذن كانت تشرق-في الخارج- كل صباح كعادتها؟
..تلك الخائنة!
تفكر ..تلومها في نفسك..ثم تسامحها بعد دقيقة!
..تغتسل و تتطهر بأشعتها الدافئة المبهجة ..تسجد شكراً لله و تقبّل الرمال الساخنة..و تمرغ جبهتك و خداك في التراب..
لا أدرى ماذا جرى لمن خرجوا معي..
لكني أصبت بخيبة أمل كبيرة حين و جدت مدينتي كومة كبيرة من الحطام..بصعوبة وجدت بيت عمي..أخبرني أن أمي ماتت قهراً بعد أعتقالي..ظلت تبحث عني ثلاثة أعوام..
وجدت طريقي..استخرجت تصريح بالزيارة بينما رفضوا منح تصريح مماثل لعمي..
و في يوم الزيارة مزقوا التصريح..و طردوها!
عادت للبيت.. نامت ولم تستيقظ!
بعدها بأقل من شهر سافر"فارس"براً لتركيا..من هناك خاض البحر بزورق مطاطي ذاهباً إلى اليونان..
وانقطعت أخباره!
لم يعد ثمة شئ يربطني بهذه الأرض..هاجرت إلى ألمانيا..
حيث أقيم من ستة أعوام.. معهم !
مع من؟!.."نزار"و"ورد"و "محمد"و "إنعام"..كلهم..
ال 257! ..
لا أدري كيف وجدوني..ربما تركوا "نضورجياً"يترصد خروجي أو ما شابه..
المؤكد أنهم كانوا هناك
..حين ذهبت لبيتنا المهدوم جزئياً..مروا بجوار حوض الورد الذى سقط فيه "وسيم"ابن الجيران ..وسقاه بدمه..عندما ألقه البرميل المتفجر خارج منزله!
جلسوا على الأريكة المكسورة..و نبشوا في حطام خزانة الثياب..
لم يتركوني قط منذ ذلك الحين..
لهذا استأجرت شقة أوسع!
***
تخرجت منذ بضعة أشهر..صرت طبيباً -متدرباً-كما أردت أمي أن تراني..لم ترني
..و لم أرها حتى في منام.. كأنما خاصمتني!
فقط ضيوفي غير المرغوب فيهم ..ظلوا يحدقون في شهادتي بوجوم
..لم أرتح لنظرتهم .. لم أفهمها
..ربما هم يحسدونني-خاصة-و أن أغلبهم كانوا طلبة بالجامعة.. بعضهم الآخر أطفال..نساء..كهول..عجائز..
كلهم يرمونني بنظرات خرساء متهمة!
لماذا هم غاضبون مني يا موت؟!
كان الإمتحان صعباً صعباً
..توسلوا إلي أن اساعدهم..لم أحتمل إنهيارهم..
أنهيت الإمتحان و لملمت أوراقهم ناقصة الأجوبة..متمنياً لهم أن ينجحوا بدرجات الرأفة..هل ظهرت النتيجة ورسبوا؟
أم أنهم طمعوا في الدرجة النهائية و درجات المستوى الرفيع؟!
نسيت طعام العشاء على الموقد!
انتظرني للحظة وسأعود..ستأتي معي؟
سأكون شاكراً لو فعلت!
هل رأيتهم يا موت؟!هل فهمت الآن مما أشكو؟
أنني شخص حساس و وجود كل هؤلاء الغرباء في شقتي أمر لا يناسب كائن إنطوائي مثلي!
لعلك فهمت لماذا أنتهت علاقتي ب"أولجا"الحسناء -قبل -أن تبدأ عند باب الشقة..
رغم تأكدي أنني أتوهم وجودهم..فقد تبقت لدي بعض الوساوس..ماذا لو كانوا موجودين فعلاً و رأتهم؟!
الرجال والأطفال العراة..و الفتيات المتسربلات ببطاطين الجيش الصوفية..يبدو المنظر أقرب لحفلة من حفلات باخوس الماجنة..
كيف يمكنني أن أفسر - لها- سبب وجودهم؟!
الحمد لله..لم يحترق الأرز..
و البطاطا المسلوقة كادت تنضج..لقد تحسن طهوي كثيراً..كما أنني أضع على الطعام بعض ذرات الملح كطعام الآدميين!
سأترك الأرز ليبرد قليلاً..ثم أضع فوقه البطاطا و المربى التى يحبونها..ليست رائعة
كمربي المشمش الفاخرة المستوردة من سوريا.. لكنها أفضل من -تلك-التي تقدم في المعتقل*6..
هيا يا صديقي..لقد صار الطعام جاهزاً.."هم"يعانون جوعاً مزمناً-ككل-معتقل بجيوب الأسد!
..سنضع الطعام هنا على الطاولة..و نعود-أنا و أنت-إلى حجرة المكتب
..فأنا لا أتناول العشاء في البيت..أعمل ليلاً-كما تعلم- و أعتدت الأكل في المستشفى..كي أتركهم على راحتهم!
المشكلة أن اليوم راحتي الأسبوعية..يعني أنني سأبيت في الشرفة حتى الصباح ..لا أريد أن أزعجهم بوجودي!
لكنها تثلج بالخارج-نحن- في شباط.. و درجة الحرارة مازلت تحت الصفر ليلاً..لهذا أرجوك أن تكمل معي السهرة..
لا أريد أن أصاب بألتهاب رئوي..فهذا يعني قضاء أسبوع أو أكثر طريح الفراش .. محاطاً بكل هؤلاء الأصحاب!
يتبع
5*عقار الأندروكرومين عقار يستخرج من الغدة الصنوبرية في المخ يفرز بكثرة في الدم في حالات الفزع الشديد..خاصة في دماء الأطفال حين يتعرضوا للتعذيب..يعتقد البعض أنه يحافظ على الشباب الدائم..5*لكن لتعاطيه بصفة مستمرة و جرعات كبيرة آثار جانبية خطيرة..فهو يسبب الاكتئاب والفصام و الهلاوس و سرطان المخ
6*تستورد ألمانيا من سوريا منتجات زراعية .
الجزء 5(سوريا..جيت)
حقاً يصعب علي أن أصدق أن كل هذه الويلات ليس لها علاقة بالماسونية!
خاصة تعذيب الأطفال و إجبار المعتقلين -الذكور- على إغتصاب زملائهم ..الإستحمام الدموي الجماعي بالماء البارد مع الضرب و الكهرباء!
هناك أيضاً خيطاً ما يربط هذا الجحيم الأرضي.. بقضية البيتزا جيت و عقار الشباب الدائم الأندروكرومين الذي يتعاطاه مشاهير العالم..هل يتعاطاه بشار؟و هل أصيب بسرطان المخ بسببه؟*5..ماذا عن إجهاض الحوامل؟! أمن أجل استخراج الخلايا الجذعية العصبية؟*7..و الجثث مبقورة البطن؟!ماذا عن تجارة الأعضاء؟
بشئ من خيال يمكنك أن تفهم كيف تجرى الأمور..
لا تنس تورطه-بالدليل- في تجارة الكبتاجون*8..
هل يعقل أن يكون حكامنا يأكلون لحومنا -حرفياً- لا مجازاً؟!
ماذا لو كان الدكتور..قد قرر أن يستفيد الإستفادة القصوى من هذا اللحم المجاني؟
كنز من الهرمونات والإنزيمات و الأعضاء البشرية..
و غرف الملح لا تفرق بين جثة و جثة..في النهاية يبدو الجميع كتماثيل شياطين متقنة النحت من خشب جاف..تصلح للحرق أو الدفن في المقابر الجماعية ..
تقول أن عقلي قد أختل؟..و إنه لا يوجد دليل على ما أقول..
بل يوجد!
لقد رأيت بالمهجع ..جثثاً منتزعة الأحشاء..ليس عليها آثار تعذيب واضحة..تذكر البطانية التى غطيت بها"ورد"؟..كانت تخص إحداها!
و"وتين"التى لم أحك لك عنها..و لا حتى أخبرت "فارس"!
***
عذراً على كثرة الإستطراد..إنما أحاول ترتيب أفكاري المبعثرة..
هل أخبرتك عن إتصال"فارس"؟
اتصل بي منذ بضعة أشهر في عز الامتحانات النهائية..قال أنه غادر اليونان منذ مدة..
و يعيش الآن بالنمسا..
إنه بخير!
أكمل دراسته الجامعية و صار مهندس الكترونيات..و حصل على الجنسية النمساوية..
زارني هنا منذ أربعة أسابيع!
.يومها اتصل بي و أيقظني ليفاجأني أنه في مطار دوسلدورف الدولي.!
كاد قلبي يتوقف من شدة الفرحة..
لا تتصور كم كانت سعادتي بلقياه!
- شلونك ا"جوادي"رايح نيفا؟مرضان شي؟قال و هو يضمني بساعديه القوتين. يرفعني من فوق الأرض
..ذلك الذى تركته صبياً
..صار شاباً وسيماً في الرابعة والعشرين..
بالتمام يشبه أبي كأنه بُعث حياً..مع عيني أمي العسليتين و شعرها الأشقر..
قضينا-معاً- أجمل خمسة أيام في حياتي..
استعدنا الأيام الخوالي..حيوياً هو..يتدفق شباباً كنهر الفرات في عنفوانه..
قطع قلبي ركضاً في زواريب دويسبورغ..عرفني على عشرات الأماكن الجديدة في المدينة التى أعيش فيها منذ ست سنوات..ولا أعرف فيها إلا مكانين الكلية و المستشفى!
قلت له مازحاً:
-يحرق حريشك..تكرسحت!بدي يومين أجازه مشان أرتاح من هالأجازه المتعبه!
طبخت له أكل سوري..و طبخ هو أكله نمساوية شنيعة الأسم و مذاق!
حكى لي ..حكيت له..بعض الأمور..هى كل ما أستطعت أن أحكيه
كم استمتعت بوجوده!
سألت نفسي-بدهشة-علاما كنا نتشاجر-و نحن صغار-و نتناقر كالديكة؟!..ولدنة!
و رغم أنني لم أكن أحب أن أتشارك فراشاً واحداً معه-لأن-نومته متل الطين..كنت راغباً بشدة أن ينام بجواري
-بعدك بترفس و أنت نايم ؟!سألته قبل أن أضيف:
- تعا نام معاي بالتخت بلا فرك و دبك إذا بتريد!
***
ليتك رأيت كم كبر أخي الصغير!..
صارت له صديقة أيضاً..
- كان بدا ل"ميلا"أنو تجي معي..بس ما رضيت جيبا..
قال ضاحكاً:
- خفت تشوفك ماشاله باشا و العيون زرق هيك.. تنغرم فيك و تتركني!
- ما حكيت عنها من قبل!
ضايقني أنه يكلمني منذ شهور و لم يخبرني أنه يعيش مع فتاة-دون زواج-منذ ثلاث سنوات ..و برغم ضيقي و رفضي لفعلته..لم أجادله..
هو في النهاية أخي-ليس ابني-و لو كان ابني ما كان ليقبل "تدخلي"في حياته الشخصية.
لا أريد أن نتشاجر-بعدما-ألتقينا لأى سبباً كان..
قال"فارس و هو يريني صورتها:
- ..شو رأيك فيها؟
قلت بسخرية مبطنة:
- و الله ميله ما بعدا ميله!
ابتسم مظنة أن جمال خليلته الشقراء قد راقني..يبدو أنه حسه للدعابة ذاب و تلاشى في الغربة كما ذابت الأخلاق التى تربى عليها !
- راح تتزوجها؟
..سألته بلهجة شبه آمرة..
- بدك ياني أتزوجها؟!
بدي تتركها! قلت في نفسي ..قبل أن أعيد تأمل ابتسامته الرائعة..و ميلا"المبتهجة تطبق كفيها على ذراعه-بفخر- كأنما ملكت العالم..إنهما متحابان.!.. نظرت له متنهداً..قلت:
بدي اياك تعمل الشي المظبوط!
***
و على ذكر"فارس"كنت أخبرتك-سابقاً- أن نومتة مثل الطين.. أعتذر و أسحب كلامي..لدي تصحيح بسيط نومته لم تعد طيناً بل أسوء من الطين!
في الليلة الأولى لوصوله أستيقظت -مرعوباً- على صيحته المكتومة في وقت متأخر -حوالي- الثالثة صباحاً..بدا كأنما يتشاجر مع وحش مبهم..ربت على صدره فأستيقظ وهو يشهق كالغريق !
..قرأت له جزئين من سورة البقرة -ختمت القرآن فى المعتقل-حتى هدأ و نام..غفوت جواره فحلمت بأمي!
كنا في حديقة البيت و الشمس ساطعة ..و معنا فارس..أبي أيضاً كان موجوداً..كان سعيداً و يبتسم ..أوصني برعاية قلم المشمش الذى زرعه..تلفت حولي في حيرة فلم يكن ثمة أشجار حولنا..ناولتني أمي مرآة رأيت فيها شجرة مشمش طولها مترين تنوئ بالثمر!
ربتت على صدري و قالت ببسمة بيضاء:
- دير بالك ع حالك!
يتبع
5*ورد ذكر المعلومة في الفصل السابق.
7*هى خلايا لها فوائد طبية نادرة تستخرج من الأجنة المجهضة خلال شهور الحمل الثلاثة الأولى.
8*عام 2021 صنفت ألمانيا سوريا كدولة إرهابية بسبب تصدير سوريا لشحنة كبيرة من مخدر الكبتاجون لألمانيا..مع دلائل تشير لضلوع عائلة الأسد في أغرق سوريا بالمخدر السالف ذكره و تصديره للأردن و السعودية و الأمارات.
أقرأ أيضاً هاربة من الفردوس
الجزء 6 ( حبيبتي سوريا )
استيقظت مندهشاً..كانت أول لا توصيني فيها على"فارس"!
كأنما أطمئنت حين رأتنا معاً..
تطلعت ل"فارس" النائم بجواري.. للهدية التى أهدايها لي أبي و أمي..
تحسست لحيته الشقراء الأنيقة..و شاربه الذى يشبه شارب أبي.
- يا ريحة لحباب!تنهدت في شوق..قبلت رأسه ..أبتسمت و تندت عيني بدمعة..
-... تقبر قلبي يا أبو الفوارس..!
***
سوريه يا حبيبتي
أعيدي لي كرامتي..
أعيدي لي هويتي!
بشارك السفاح بكفره البواح
قتل شباب الثورة
يا حبيبتي!
***
رجالنا و نسائنا ..أطفالنا وشيوخنا
قتلوا بدم بارد
طمروا بذات الحفرة!
و شعبنا أسير ..في سجنك الكبير
و حلمنا الكسير
ينادى يا سوريتي..فكي القيود عن يدي..
أعيدي لي كرامتي..
أعيدي لي هويتي!
الآن إني عربي
مشرداً في خيمة ..
مثقوبة
مطراً يحول أرضها لبركة
البرد يخترق العظام
و الجوع يقتل طفلتي !
يا حبيبتي..
***
سورية يا رمس كل ثائر
يا ظلمة الأفكار و الضمائر
جنودك قد اغتصبوا الحرائر
و اغتالوا براءة الضفائر
في طفلة وصبية
و ما استحوا من شيبة
من ذا يعيد كرامتي؟!
يا حبيبتي..
***
لم ينتهي مشوار الغربة يا عروية
حتى تعود أرضنا السليبة
ففي الخيام طفلة المصيبة
تنادي يا سورية الحبيبة
أعيدي أمي و أبي
أعيدي لي برائتي..أعيدي لي طفولتي!
***
في وجه صباح لملمت الجراح
و قد حزمت حقيبتي
هرباً من الجنود
و برميل البارود
ألقوه دمر قريتي
حدودنا خيام..وبحرنا حطام زوارق
و مراكب هجرة
و حقيبة مقلوبة
و دميتي الطافية تبحث عن يدي
***
سوريه يا حبيبتي
أعيدي لي جثتي!
سوريا..هل تسمحي لي بسؤال؟..لماذا تكرهينني؟!..كان أملي أن أعيش فيك..أتزوج فتاة طيبة مثل "ورد"أختها-أو ربما-صادفتها هى بذاتها..تمشي على استحياء..فيتعلق قلبي بطرف ثوبها السابغ..يكنس الشارع ويتدحرج على الحصى!
أذهب لطلب يدها من أبيها الذى يقول بتسامح أنه:
- نحنا بنشتري رجال..و ما راح نختلف يا إم"الجواد"
أو يغالي في مطالبه و تتعثر الزيجة..ننصرف..و في المنزل يظل"فارس"يشاكسني ويمازحني محاولاً مواساتي..
- شو عاجبك فيها؟!..يحرق أختها ..ما فيها حلا!
يقول مهوناً فأزجره..و أظل حزيناً..فتتأثر أمي بحالي..و تعود لتسوق القريب و البعيد على أبو العروس حتى يوافق..و نقيم عرساً يحضره الأقارب والأصدقاء..و يوم الزفاف تخبرني العروس أنها كانت تدعو الله أن يتم زوجنا-لأنها-أحبتني كما أحببتها..و نعيش في منزل بسيط ..أفتتح حجرة منه عيادة ..تكلفة معاينة المريض بها 130 ليرة سورية*9..في أفقر مكان في داريا ..لماذا أستكثرتي عليّ هذا الحلم البسيط؟!
الوطن ليس قطعة من الأرض ولا مجموعة من البشر، الوطن هو المكان الذي تُحفظ فيه
كرامة الإنسان كما قال تولستوي
و أنت لم تحفظي لي كرامة !
أمي ماتت قهراً..
الدار هُدمت بالبراميل المتفجرة..
عريشة العنب التى كنا نجلس في ظلها أحترقت
..و أشجار التفاح والمشمش و المندرين التى زرعها أبي بيديه ذُبلت و ماتت
لم يعد في داريا و أو دمشق و لا سوريا-كلها- مكاناً آمناً..
لم تعودي وطني!
ها أنا ذا وحيداً في ألمانيا..و أخي في النمسا..و ملايين غيرنا تشتتوا في بلاد الله..
بعتنا!..بماذا بعتنا؟
و من يشترينا إذا رمتنا أمنا؟!
***
لماذا النمسا و ليس اليونان -مثلاً-أو تركيا؟سألت"فارس" و نحن نتناول طعام الأفطار..
أجاب بلا أحتفال-جات هيك!
-إنها بلد مثل كل بلاد الله..قال
هى أفضل من سوريا على كل حال..
أستغفرالله يا سوريا!
كيف طاوعني قلبي لأقولها و أنت البلد؟.. لا بلاداً -لي- سواك..
كما قال محمود درويش
بلادُنا هي أن تكون بلادَنا
وبلادنا هي أَن نكون بلادَها
هي أن نكونَ نباتَها وطيورَها وجمادَها
وبلادُنا ميلادُنا
أَجدادُنا
أَحفادُنا
أَكبادُنا تمشي على أَو زغبِ القطا ,
وبلادُنا هي أَن نُسيِّج بالبنفسج نارَها ورمادَها
هي أَن تكون بلادَنا
هي أن نكون بلادَها
هي جَنَّةٌ
أَو محنةٌ
سَيَّان
يتبع
9*سعر صرف الليرة السورية عام 2011 كان يعادل 64 ليرة مقابل دولار واحد.
أقرأ أيضاً شبيك..لبيك
الجزء7 (في بلاد الأغريق)
تحممت بماء دافئ .. لبست بذلة أنيقة..تعطرت..و وقفت أمام المرأة أمشط شعري وأطمئن على هندامي..ليس عيباً أن أتعلم شيئاً من أخي الصغير..
تقيئ"حسن"على سجادة غرفة النوم..لمحته في المرآة..لم أجرؤ على لومه-بالطبع-..فقط ذهبت لأحضر المنظف لأزيل أثر القئ..بينما كانت"وتين"تحاول فتح علبة الحليب دون جدوى..فتحت لها الغطاء المؤمن كعلب الدواء..تركتها تعد رضعة صغيرها الخادج..و عدت للغرفة..رششت بعض معطر الجو-لأنى-وجدت بخاخ المنظف فارغ.. ذكرني أن أعيد الطعام-طعامهم-في الثلاجة..
لقد رحل"فارس"..ودعته ..واعطيته 1500يورو من ال1700 المتبقية من راتبي..و معطف شتوي
أشتريه-له- من الأوكازيون الصيفي..
- نحنا لما مننغرم و نميل..بننعدل و نزوّج!
قلت له..وعدني أنه ستزوج"ميلا"فور عودته للنمسا..
أحتضنني و هو يضحك ضحكة صافية..حسدته عليها-رغماً عني-كنت أعظه و أنهه عن الحرام -أنا -الغريق في بحر من دم!
اًدعو له بالمغفرة..و يقيني أن الله سيغفر له-ماذا فعل؟-هو في النهاية أحب..و لن يغفر لي!
رحل-بعدما-أعتدت وجوده وترك لي فراغاً هائلاًٍ..لا تستطيع كل أشباح الكون أن تملئه !
ليته كان هنا!
لو كان هنا-بقربي-لحكيت له عن الطرد أياه ..الذى ظننته من" أولجا. رغم أنني لم أعد أرها منذ انتقلت للشقة الجديدة.. كانت جارتي في سكني الأول..
تعرف ..هناك أمور لا تحكي بالهاتف..مثل رحلة هروبه الشبية بمأساة إغريقية..التى حكاها لي في ذلك المساء..بجانب المدفأة بينما الثلوج تنهمر بالخارج
بداية من النصب عليه و سرقة متعلقاته الشخصية بتركيا..مروراً بسجنه و تعذيبه في اليونان..حتى وصوله للنمسا التى يحكى عنها-كأنها-جنة الله في أرضه..
***
فتح "فارس"خزائن ذكرياته..
حكى عن الأيام التى قضها بتركيا
..مختبئاً بشقة المهرب الذي سرقه
و كيف استقبلته اليونان..بالسجن و الإستجواب!
ضحك و هو يتذكر و يحكي عن الجلد و الكهرباء و الحجز المليئ بالحشرات..
و كيف تمكن- بصعوبة- من السفر و اللجوء إلى النمسا
أصعب جزء في معاناته كان تعريته أمام النساء والأطفال..حيث قضى أثنى عشر يوماً مع سبعين رجل و أمرأة و طفل عراة و يعذبون..كان أغلبهم سوريين مع عدد قليل من الفلسطينيين حوالى تسع شبان
و برغم ضحكه بصوت عالى..التمعت عينه بدمعة عنيدة..و قدرت أنه يستدرجني للحكى..سايرته..
أعرف أخي المعتز بنفسه و كرامته..أعرف أن يتمزق و هو يحكى ما لحق به من أهانات-و هو-مراهق في بداية أحساسه بالرجولة..حكيت له عن المعتقل..عن الحرمان من النوم و الطعام و المياه النظيفة..و حكيت له عن الجرب و البق و الإسهال..
لم أحكى له عن قتلاي الذين يسكنون بشقتي..لم أحكي له عن "عبد الوهاب"..و"وتين"التى...كلا لن أحكي..لا أستطيع!
الحكي أشبه باستفراغ حمضاً أجبرت على ابتلاعه ..أحرق حنجرتي و بلعومي..و أستقر بمعدتي..أي محاولة لتقيئه ..أشبه بمحاولة إنتحار..قطرات من هذا الحمض ستحرق رئتي و أموت!
***
الأم الغولة!
كلا لن أحكي عن سوريا..لن اتهمها بأنها غولة.. رغم أنها التهمت لحمي..و حمصت عظامي و سحقتها لتصنع منها خبزها..
لن ألومها و أهجوها..فربما أحبتني ..على طريقتها!
طريقة القطة التى تأكل صغارها إذا جاعت..لقد سامحتها!
..لكنني سأحكي-لك-عن"شام"
***
يا أبن الحرام!
صرخت..هاجمتني قبل أتبين ماهيتها ..أنشبت مخالبها في وجهي..
وضعت يدي على عيني النازفة بفزع..قبل أن أتبين أنها هتكت جفن عيني اليسرى بأظافرها الحامية..طارت قبضتيها الصغيرتين لتصيبا صدري بلكمة عنيفة و مؤلمة..من أتت بكل تلك القوة؟!
- يا.....شو عملت لك؟!
صرخت الفتاة حنطية اللون ذات الشعر الأشقر المنفوش و العنق الملتوى..و الجنون يصرخ في عينيها الزمرديتين الشبيتين بعيني نمرة متوحشة..
- صار لي ثمانا سنين ناطرتو لهالولد..أخدتوه مني بغمضة عين.. الله لا يوفقكن!
ضربتني بقبضها المضمومة و هى تصيح :
- -أترجيتك ..بست أيدك و رجلك منشان تتركني..يا عديم الشرف يا ....
أمسكت يديها لأمنعها من مهاجمتي و اشتبكنا فيما يشبه رقصة تانجو محمومة..إيقاعها نبض قلبي الواجف..لم أكن أدري من هذه الجنية..و لا لما تهاجمني بهذه الشراسة..نفضت يدها من يدي و هى تصرخ:
- ..الله يحرم إمك شوفتك..متل ما حرمتني...
..هوت يدي على وجهها كصاعقة البرق..ناولتها صفعة قاسية ملئت فمها بالدماء..و تكومت فاقدة الوعي تحت قدمي.. - كأنما -انهارت السماء على رأسها..و لولا أن عنقها كان مكسوراً-منذ البداية-لظننت صفعتي كسرته!
..كنت حتى هذه اللحظة أعيش على الأمل في رؤية وجه أمي و لو من وراء سلك الزيارة..و قد جعلتني دعائها الغاضب أقنط-كأنما-ليس بين دعوتها و بين الله حجاب..أو كأن-تلك الدعوة هى ما يمنع خروجي..بل-ربما- هى التى أدت لحبسي و اعتقالي!
..تفحصتها نادماً..كانت أنثى بشرية لا غولة و لا شيطانة.. جسدها العاري تبدو عليه آثار تعذيب وحشي و كانت تنزف بغزارة جراء إجهاض حمل في شهوره الأولى..
كيف عرفت؟فحصتها..لم يكن لديها رحم..استأصلوه بالجنين!
و أنت تعرف الباقي يا موت..أنت تعرف الباقي!
***
كانت الضحية رقم ثلاثة بعد المائة الأولى..
و بعد مرور كل هذه الأعوام
لا أدرى.. هل قتلتها خوفاً أم حنقاً أم شفقة..أم فعلتها لمجرد الاعتياد!
شعوري وقتها كان غريباً..لا يشبه فرحاً و لا حزناً..شعور بالخواء و العدم..كأنما شنقت نفسي و مت!
صرت ظلك..صرت حتف من يلقيه حظه في طريقي..
أقتل دون ذرة ندم أو تردد..
لكنني لم أحكي لا أحد -سواك-لأنني مازلت أخجل.. من نفسي..
و منهم.. من الأشباح التى تملأ شقتي..و بخاصة شبح"فارس"!
***
عينان مثبتان تخترقان ظهري..هناك شخصاً يراقبني!
تلفتت حولي مرتعباً..عندما اصطدمت عيني بعينه اللوزية..لم أكن أعرفه..لكن ملامحه السامية و بشرته حنطية اللون تشي بأصل عربي-سوري- على وجه الدقة..دقق النظر في وجهي..و طفت على ملامحه القسيمة إبتسامة-كمن-وجد صديقاً قديماً..سقط قلبي بين قدمي عندما أقبل علي متهلل الوجه..خفت ..وليت هارباً بخطوات واسعة سريعة..لحق بي بقامته المعتدلة كقامة جندي..و هو يضع يديه في جيوب معطفه الأنيق ..هل هو من رجال النظام السوري؟..إن كان كذلك فلماذا يلاحقني؟!
ليس لي نشاط سياسي..و لست شاهداً في قضية..وليس لدي انتماء لأي جماعة طائفية
و برغم أن الوقت لم يكن متأخر..كان المارة قليلين..فضلاً عن عدم ثقتي إن كان أحدهم سيحاول حمايتي إن هاجمني ذلك الشاب..بدأت أسير بسرعة أقرب للعدو..عندما صاح الفتى منادياً و هو يركض خلفي:
- دكتور"جواد"!
يتبع
أقرأ أيضاً الأفعى و المجنون
الجزء8 (نخب الجنون)
لحق الشاب بي فوقفت مضطراً..
- ليش ركضت لما شوفتني؟!سألني مستغرباً قبل أن يضيف مستوضحاً..
- مبين عليك مستعجل شي؟
- مابتذكرني يا دكتور؟أنا"محمد"أخوه لنقيب"بسام" اللي أنقتل بسجن تدمر..
تأملت الشاب الذي منحته قامته المهيبة مظهراً أنيقاً على الرغم من ثيابه القديمة المستعملة
تذكرته!..إنه ذلك الشاب الشريد الذي كان ينام في الحديقة العامة القريبة من منزلي..تبادلنا الحديث ذات مرة..و أخبرني أنه من أدلب..و ترك سوريا بعدما تأكد من إستشهاد أخيه من صور قيصر*10
- أتذكرتك..وينك هلأ؟..رجعت تدرس؟
-لأ..منحتي ترفضت..بس هلأ بشتغل بلكي أمن مصاري الدراسه..و إنشالله برجع أدرس..
- أنا بعمل هون..أشار لمحل وجبات جاهزة..قبل أن يضيف:
- إنشالله تشرفنا بالزيارة..
- من عيوني حاضر!
- تكرم عيونك.. ولا تاكل هم..بس تشرف و لحساب عليا..راح توكل أطيب شاورما من أيدي
- حبيبي يسلموا..
كدت أقول له أن يوفر نقوده فمصاريف الدراسة مرتفعة للغاية من دون منحة..لولا أنه سيعتبرها إهانة..استأذنته في الانصراف معتذراً بميعاد مناوبتي
- إنت بتعرف شو يعني مواعيد ألماني..قلت وأنا أصافحه ضاحكاً..
و بالمناسبه أيدك المفتوحه هادي ما راح تنفع هون..هوني المعيشه غاليه و كمان الدراسه..
- شوف مين بيكلم..دكتور جواد الطائي!..قال ضاحكاً..قبل أن يضيف:
- بدي أتشكرك عل الفيست..كنت راح موت برد لولاه!
***
أنني أحتفل معك الليلة..فلتشرب نخبك و لا تخشى شيئاً..ليس خمراً..فأنا لا أشرب الخمر أبداً..هذا شراب اللوز..جلبته من محل حلويات شرقية يستورده من سوريا-ابتعته خصيصاً لهذه المناسبة..
أجل فلنشرب نخب جنوني..و أخبرني..هل رأيت"فارس"في تلك الليلة المدلهمة؟..فتى صغير يغطي شفته العليا زغب أشقر .. ذلك الذى ألقى أعوامه السبعة عشر في البحر..هل عاش أم ألقى الموج جثته على ساحل بحر إيجه؟كم كان عددهم؟!عشرين..سبعين..ثلاثة عشر..ما أهون الموت حين يصير رقماً في نشرة الأخبار!
حين تراقب موجات البحر تلاعب القارب على الشاشة.. بينما تتدثر بطانية ناعمة.. تحتسي قدحاً من الكاكاو الساخن.. ربما ذرفت دمعتين لتشعر كم أنت إنسان رائع مرهف الإحساس..ثم تقلب القناة بحثاً عن ماتش كرة قدم أو فيلم..تسأل نفسك بعيون شبه مغمضة بإسترخاء..كم كان عدد الضحايا؟..تسعة..في المرة الفائتة كانوا أربعة و عشرين..
لم يحققوا cible هذه الليلة!
لكن تخيل شعور من له أخ أو أبن أو قريب سفر بالبحر وانقطعت أخباره..و هو ولا يعلم يقيناً أحياً هو أم ميت..-كحالي-أسأل صفحة المياه التى تتمطى تحت أشعة الشمس في تكاسل..بعدما لفظت ما ابتلعته من جثث..هل كان بينهم يا بحر؟..أم هو حي؟..أين هو؟ محتجزاً بتركيا أم يعذب باليونان؟..هل أطلقوا عليه النار بأوكرانيا ؟أم رحلوه إلى سوريا؟..في أي طريق سيمشيه سيجد البنادق مصوبة نحو صدره..و الإتهامات مشرعة بوجهه كالحراب..قصة الذباب الأزرق تتكرر مجدداً..و الجثة هذه المرة سورية!
لعنة اللجوء تطارد اللاجئ أينما حل..أنت عربي إرهابي متخلف سواء كنت من سوريا أو فلسطين أو العراق أو من أي دولة عربية أو إسلامية..
ثم اتصل!
من النمسا..قال أنه بخير فعادت لي الروح..هل قال أنه أخذ رقم هاتفي من عمي"كاظم"؟لا أذكر!..
كيف وجدني؟وكيف لم أشك وقتها؟!..
التفسير الوحيد أنني كنت بحاجة إليه..لهذا لم أدقق كثيرً..ليتني لم ألتقى بك يا"محمد"!
***
كيف استطاع عقلي خداعي بهذه الطريقة؟!
لقد تجاوز الحدود هذه المرة!
صنع لي وهماً لا يشبه ما يحيط بي من أوهام..
أجل..أجل أعرف أنني أعيش وحدي..لا يوجد-هم-سوى هلوسات عقلي المضطرب المختل.. البيت الذى أضطر لتنظيفه من الدم و القئ و الإسهال كل ساعة أعلم أنه نظيف، و مرتب كبيت العروس الجديدة ..لا شئ يضطرني للمبيت في الشرفة في مختلف الظروف الجوية..
حتى الطعام الذي أطهوه -لهم- عندما يفسد أقوم بتعبئته في كيس و أتخلص منه -متل- الفالح في سلة إعادة تدوير بقايا الطعام..لكن"فارس"كان يبدو حقيقياً!
عقلي جعلني أعيش مع أخي في الميتافيرس ..صنع لي عالماً متشابكاً من التفاصيل الصغيرة..بسمته الرقيقة و حماسه الوثاب..قامته الطويلة و قوة ساعديه ..أناقة ملابسه و عطره الرائع برائحة الخوخ..كوابيسه و نومه المضطرب..و عشيقته النمساوية؟ كل هذا وهم!
أنني أتذكر.. أتذكر كلماته ..حكاياته المرة التى غلفها بالمزح و الضحكات..كحبة دواء مغلفة بالسكر..لقد لمست وجهه.. تحسست لحيته الشقراء و شاربه!
..أنني أبكى..لم أفعلها منذ عشر سنين!
حتى عند الصلاة و تلاوة القرآن..لم تعد دمعة واحدة تنزل من عيني..
جفت عيناي منذ مدة..في البداية كنت أعتصر بعض دمعات فسيولوجية ماء و ملح.. ثم لم يعد بوسعي أن أبكي على قتلاي كالتماسيح بعد التهام ضحاياها..لكن الأمر أقوى من قدرتي على الاحتمال ..
أن يموت أمل أحيته من عدم..فصار شاباً طولاً بعرض مثل القمر!
بعد"رحيله"بأيام وجدت المال ال 1500 يورو مخفياً في درج مهمل..تضايقت..لكنني قدرت أنه عز عليه إلحاحي..أخذ المال ثم رده دون أن يخبرني..لكن!
لماذا أخفاه -كأنه- لا يريدني أن أراه؟
نسيت أن أخبرك ..لقد كان"محمد"يتحدث عن المعطف الذى أهديته ل"فارس"!..قال أنه كان جديداً بالbillet!
..لم أشترى شيئاً جديداً لنفسي..منذ أكثر من عامين-حتى إذا اشتريت ملابس في العادة أشتريها مستعملة..
قال أيضاً أنني أهديته له قبل أيام العاصفة الثلجية ..لم أفهم..أو ..لم أرد أن أصدق ما فهمته..هل تعلم متى حدثت تلك العاصفة ؟
..أجل..في نفس تاريخ زيارة"فارس"..يعني أنه يوم ذهبت لإحضار "فارس"من المطار..كانت رحلات طيران-حتى الداخلية منها متوقفة بسبب عاصفة ثلجية.. حبست الجميع في منازلهم لمدة خمسة أيام..هل تعلم ما معنى هذا؟!
هل تدرى كيف كان حالي حين علمت؟
***
- ستوبن! صاح دكتور"هوفمان"بصرامة..فتوقفت عن تركيب الأبرة الوريدية للمريض
- ماذا دهاك يا"جواد"؟!
سأل قبل أن يضيف بلهجة قاسية موبخاً:
- أنت الليلة أكثر غباءاً من المعتاد!
كان قد وبخني عدة مرات شرودي و أخطائي المتكررة..و هو محق..مجال عملي لا يحتمل الخطأ أو التهاون..لكنه أردف متسائلاً بغيظ:
- ثم أين الأحد عشر سؤالاً الذين تسألهم لي كل مناوبة؟!
- أخي!قلت بصوت مبحوح من التأثر..فسأل بدهشة:
-أخوك؟!هل لديك أخ يعيش معك هنا؟
- كان يعيش في الوطن..لقد مات!
- أيها الأحمق!..لماذا لم تطلب أجازة مادمت متأثراً لهذه الدرجة؟!
- لقد عرفت للتو و أنا قادم للمشفى..
يتبع
10*القيصر هو ضابط منشق عن الجيش السوري
أقرأ أيضاً أحلى حب
الجزء الأخير(تحت جناحك)
ربما بالغت قليلاً!..الآن حين أفكر ببعض التجرد و الحيادية..أدرك أن الأمور-ربما-أقل غوراًَ مما ظننت..ربما عذبوا"نزار" للضغط على والده..أو لمجرد أنه طفل معدوم الحيلة..وإجهاض النساء ربما كان مجرد وسيلة للضغط و الإيذاء..و على ذكر الإجهاض..فأنني
حين أتذكر "شام"..أسأل نفسي..هل تسرعت حين قتلتها؟..ربما كانوا يخوفنها فقط ..لم يكونوا سيتركنها حتى تموت..ماذا لو كانوا يدخرون لها مصيراً أسوء؟..أن تعيش بالعار..أنثى بلا رحم..أو زوج-من- يقبل أن يعيش مع مغتصبة؟أليس الموت أفضل لها؟!
و أعود لأتذكر قوله تعالى أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ.. وأخاف!
من أنت لتحكم في مصير إنسانة؟!ربما لو عاشت لكان الله عوضها و جبر قلبها..
ما أهون الموت!..حين يكون مجرد رقم
و ما أصعبه حين يكون له وجه و اسم و حكاية!
لا أخفى عنك سراً..أغلب الضحايا لم أكن أعرفهم..و قد أخترعت لهم أسماء-فحالي-لم يكن ليسمح بالسؤال عن أسماء!..و الأصعب حين يكون للضحية وجه وأسم معروفان..
ك"عبد الوهاب"الجراح الذى علمني الكثير..و جعلته تطبيقاً عملياً لأهم درس علمني أياه!
كان مصاباً بالسل لا يقوى على الحركة من شدة ضعفه..لكنه كان متمسكاً بالأمل-مهما-بدا واهياً
..لن أنسى نظرته المتوسلة..عيناه تتكلمان ..تترجياني و لم أني!
زحف على الأرض مبتعداً عني..لم أتركه..وقفت فوقه..متمثلاً جبروتك..و لويت عنقه بحركة عكسية سريعة..كم منهم كان مثله يريد أن يعيش و لم أبه لتوسلاته الصامتة..و كم دفعت الثمن من صحتي و أعصابي!
..لست جماداً..و لا أحد يستطيع احتمال مرائ هاتين العينين اللائمتين..في صحوه و منامه -و لا حتى أنا-لهذا أرجوك يا موت..دعني أغمض عيني دون أن أراهما..
أريد أن أستريح..و إن كنت لا أستحق الراحة-برأيك-
فقل بربك هل أستحق كل هذا العذاب؟!
***
..في تلك الليلة طلب إلي د"هوفمان"الذهاب للسكن..قلت له المناوبة لم تنته..فأشار بيده بملل., قال بنفاد صبر:
-أذهب..أذهب و نم قليلاً..أنت بل نفع هذه الليلة!
لكن من يستطيع النوم في ليلة كهذى؟ّ..
ما أن وصلت السكن حتى أفرغت محتويات خزانتي على الأرض بحثاً عن الخطاب أياه..وجدت رقم هاتف "أولجا و عنوان طبيبة نفسانية.."رابية المحمدي"اسمها المكتوب بحروف لاتينية الذى ربما كان-ربيعة أو رابعة-.. يشي بأصل عربي ربما هى لاجئة سورية أو فلسطينية..عرفت- فيما بعد-أنها عراقية..وجدت كذلك الرسالة المكتوبة بالألمانية رسالة التهديد..تأملت الخط المألوف و نمت في عقلي فكرة مجنونة..لكنها ليس أكثر جنوناً مما مر بي و عرفته هذه الليلة..
كتبت ذات العبارة..مستخدماً يدي اليسرى...تطابق تام!..أتدري ما معنى هذا؟!
..أجل لقد كتبت رسالة تهديد.. لنفسي!
سالت من عيني دمعة غيظ و قهر و حيرة..خبطت رأسي بالجدار..لقد جننت تماما!
***
51 سنة و أربعة أشهر!
هى المدة التى تلزمني لأكفر عن قتل 257 إنسان إن أفطرت شهراً واحداً كل عام..لكنني ممنوعاً من الصيام بأمر الطبيبة!
رغم أن ساعات الصيام في ألمانيا تصل احياناً لعشرين ساعة.
.لم يضايقني طول النهار..يمكنني تناول وجبة واحدة في اليوم..فقد أعتدت الجوع ..من تضايق هى طبيبتي!
حين استعدت وعيي.. طالعتني عينيها البنيتين الصغيرتين كعيني حمامة..و على الرغم من وداعة نظرتها..وتّرني تحديقها المستمر في وجهي..سألتني إن كنت أخوض إضراباً مفتوحاً عن الطعام..
قلت لها أنني صائم بينما كنت منهمكاً في نزع إبرة الوريد التى تنقط المحلول المغذي في دمي..
نهتني بإشارة من يدها المعروقة..
-لا تنزع هذا..أنت تحتاجه ..تبدو ناحلاً كراهب بوذي!
كيف عرفت؟!..أشعر بالفعل أنني تالف الجسد..فاسد القلب كرهبان بوذا!
- أنا بحاجة لمتابعة الصيام لقد تبقى سبعة عشر يوماً!
هزت رأسها المحاط بهالة شعر كسحابة قطنية بيضاء..
- أجل أنت حر بالتأكيد..لكن لا أضمن لك أن تظل حياً إن أنت أكملت هذا التحدى!
حدث هذا من عامين..و منذ ذلك الحين لم أكرر المحاولة..الشئ الجيد أننا صرنا صديقين..أنا و ماما "فريدا"كما أصرت أن أناديها
لم أحك لها..لكنها رأت الهضاب و الوديان التى نقشت على جسدي بالحفر البارز و الغائر..و تعرفت عليّ جيداً منذ ذلك الحين!
عرفتني على زوجها الطيار المدني المتقاعد..رجل لطيف في الستين
المشكلة أنني ما عادوت دراسة الطب إلا للتكفير عن جرائمي السابقة..لكن-للأسف ما أن بدأت مسيرتي المهنية حتى بدأ الجنون في عقلي..يعلن عن نفسه هلاوس وضلالات..ترى كم تبقى حتى أفصل جهاز التنفس عن مرضى العناية..أو أقتل الرضع الموجودين بالحضانات؟!
ذهبت مؤخراً لعيادة الطبيبة العراقية بصحبة "أولجا"هل تصدق؟!..أنا نفسي لا أصدق إنها موجودة..كنت قد بدأت أظنها وهماً هى الأخرى..كانت مفاجأة مدهشة حين سمعت صوتها الحبيب في الهاتف..كشاطئ آمن لاح لشخص موشك على الغرق..
حتى أنني ظلت أبكى طوال المكالمة..كطفل تائه وجد أمه..
لم تتزوج وهذا -غريب-لكننا اتفقنا على الزواج في الربيع..
***
مثل سوريا
سوريا التى ليس لها مثيل..صارت مثلاً!
حين بدأت أكتب قصتي سألت نفسي بماذا أخطئ الثوار لتكون النتيجة كارثة بهذا الحجم ؟أن تكون مثل سوريا و العراق فزاعة يخوف بها الطغاة شعوبهم..
في عيادة الطبيبة العراقية عرفت حين سألت نفسي أسمها "رابعة المحمدي"هل هى سنية أم شيعية؟..لم أسألها بالطبع.. فهذا ليس من شأني..
لكن السؤال أجاب على هاجس قديم..فمن هنا أنتهت الثورة و بدأت الحرب الأهلية!
نجح"بشار في القضاء على الثورة "بنسبة95.1% -نفس-نسبة نجاحه في إنتخاباته الأخيرة..كم هو ذكي!
و بعيداً عن كونها- الإنتخابات -على الأرجح..مزورة كسابقتها..لكنه استحقها بجدارة هذه المرة!
بجدارة و حقارة و إستحقاق..
سحب سوريا مترين في وحل الطائفية ثم تركها تغرق ببطء- كما-فعل الإحتلال الفرنسي منذ عقود..لامست القاع..و تذوق الجميع دم الآخرين!
تماماً كما سحبتني..و ورطتني في دماء رفاقي يا موت!
و من هذه الدماء نمت بذرة الجنون في عقلي..كحبة فاصولياء مسحورة..أخترقت جمجمتي..و تسلقت نحو فضاء مجهول يعيش فيه الموتى..و أعيش بينهم كالشبح!
قالت الطبيبة أن عليّ أن أتوقف عن لوم نفسي و أسامحها
لا أستطيع!..
سألت نفسي بماذا أخطئت؟أجبت ..لا شئ!
غيري قتل و مزق الصف و فتح الطريق لأيران لقتل المسلمين السنة و سمح بأن تكون سوريا ساحة للصراع بين روسيا و تركيا....و فصائل مدعومة من أمريكا..و فصائل لا يعرف أحد لصالح من تعمل!
و في النهاية نجح في تثبيت حكمه الجائر على جثث خمسة مليون سوري..
و ظهر في النهاية بمظهر الحاكم الشرعي!
ماذا فعلت أنا مقارنة بهذا المجرم الكبير؟!..لقد كنت مكرهاً..
لكنني ..لم أستطيع مواصلة الكذب و المدارة..فربما كنت مقيداً معصوب العينين..لكن رغم كل الظروف تظل لدي أرادة..لو لم تكن موجودة من الأساس لما بذلوا كل هذا الجهد لتحطيمها!
يبدو أنني لن أرى الطبيبة هذه الملزمة..سأحاول أن أكتب غيرها..و إن ظللت حياً حتى الصباح فذكرني بميعاد الدواء..فقد نسيته هذه الليلة!
أم أخبرك بشئ أفضل؟..ضمني تحت جناحك و أخفيني بعيداً عنهم..أطمرني في قعر منجم ناضب أو في قرار المحيط..أو أحرق جثتي و أذر رمادي في الهواء..عسى ألا يجدوني!
أنت صديقي الوحيد الآن فلا تبخل علي بهذه الخدمة..
أرجوك!
تمت