قصص تليجرام

نجمة

أقرأ أيضاً:ألعاب صيفية"صيد السمك"

             مشبوح
نجمة الجزء 1

" - خيا..ليش بعدك سهران !"هتفت"نجمة"ذات الخمس أعوام..فارتج بدن أخيها الأكبر"أياد"من المفاجأة..فقد فاجأه صوتها السائل-و هو-مستغرق فى القراءة على الضوء النحيل المنبعث من الشمعة..ألتفت إليها و قال بصوت هادئ:

- بذاكر شوي..أنتي ليش صحيتي إسا؟!

ردت الطفلة بصوت خفيض :

- خفت.. ما في ضو..و لهلا إمي ما أجت عالدار!

- إمي إسا بتشغل بالمشفى ..فى كثير جرحى بدهم حدن يدير بالوا عليهم..

- إيه باعرف ..الله يوفقها يا رب..قالتها"نجمة"قبل أن تستطرد بزفرة حارة :

- لكن لسنى صغيره.. بدي ماما تدير بالها عليا.

أجلسها"أياد"على ركبته،و همس برقة:

- أنا هون لحتى دير بالي عليكي.. هيك قالت إمي قبل ما تفوت عشغلها..

رفعت أصبعها الصغير أمام فمها مقاطعة:

- وصتنا عبعضنا نحنا التنتين..قالت ديروا بالكم عحالكم..يعنى أنت بتدير بالك علي،و أنا بدير بالي عليك كمان!

ضحك"أياد"إعجاباً بطريقتها الجاده..قال و هو يمسح من عينه دمعة شفقة و خوف عليها:

- أيه تمام ..موافق..شو بدك إسا..أطلبي أى أشي بدك ياه بيحضر يا أحلى"نجمة".

قالت و هى تقلب صفحات كتابه:

- بدي ياك تقرالي شوي بهالكتاب.,ثم قالت مستصعبة:

- كييف عارف تذاكر بهالعتمى؟!..نضرك بيضعف إمي قالت!..لأ خلاص ما تقرا..هود الكتاب بنحطه بعيد..!

قالتها و هى تضع الكتاب على الأرض..ثم سألت ببراءة:

-"أياد"..ليش هادول الناس بدهم يقتلونا؟!

ضمها "أياد"بذراعه نحو صدره..قال مطمئناً:

- أنشاله ما بيصير هيك..

قالت بانفعال و دمعة تقفز عبر أهدابها الشقراء:

- أيه بيصير..بطني عم يتقطع من الجوع و ما في أشي بالدار أكله..جوعانه كتير خيا!

- يا قلب خييك!..كييف بيصير هيك؟..لازم دورعإشي تاكله أحلى"نجمة"بهالعالم حالاً!

***

ظل"أياد"يفتش و ينقب فى كل ركن من المطبخ الخاوى عن طعام تأكل أخته فما وجد-بعد جهد-غير كسرة خبز يابسة..كانت صغيرة و قليلة لن تشبعها لكنه فرح بأن وجدها-فهى-أفضل من لا شئ!

- ما وجدت غيرها يا"نجومه"..إنشالله بتكفي..قالها"أياد"بإبتسامة العاجز المحرج من قصر يده..و هو يمد يده التى خيل إليه -تلك اللحظه-أنها صارت أقصر من البارحة بالخبزة اليابسة.,بينما خطفتها"نجمة"فتكسرت فى يده إلى قطع ثلاث جمعتها بيديها البضتين..و لملم هو الفتات الباقي..و قبل أن يضعه فى فمه-و برغم-جوعه الشديد و ضعه فى فمها الدقيق..أكلت قطعتي الخبز..ثم نظرت للقطعة الصغيرة فى أسف..قالت وهى تمد يدها بتردد:

- هالتنتوفه لألك..ما شفتك أكلت أشي من امبارح..قسمت الأكل بيني أنا و "نضال"و أنت ما ضل ألك شي!

نظر"أياد"ليدها الممدودة بحزن..ثم ردها نحوها قائلاً ببسمة حزينة:

- لا أنتي بدك تاكليها.. صحتين عقلبك!

ثم أضاف بمرح مزيف و هو يمسك بكتفيها الصغيرتين:

- رجال مثلي ما بتكفيه هيك تنتوفيه..أنا بدي آكل جرة العسل هادي!

ضحكت و هى تضع الكسرة الباقية فى فمها..بينما جلس"أياد"على الأرض و جلست هى بجوار..سألته بصوت خافت:

- خيا..ما في أشئ تاني يتاكل..

- لساتك جوعانه؟

قالت بأسف و دهشه:

-لا..الحمداله..لكن ما باعرف كييف نسيت"نضال"..ما تركتله لقمه ياكلها لما يفيق..هوا متلي جوعان من امبارح!

تنهد فى أسف..لكنه قال:

- إنشاله بيضلوا نايم لحتى بروح أشتري خبز و شى بندورة الصبح .

- أنتي كمان روحي نامي..بكرا ألله بيفرجها.

- النوم طيران من عيوني..بدي تحكيلي حكايه..قالتها"نجمة"و هى تريح رأسها الأشقر على فخذه..داعب شعرها فى حنان:

- شو بدك أحكي؟

- أحكلي حكاية الكووك ..

***

همس"أياد":

كان ياما كان فى قديم الزمان..و ما يحلى الحكى بإلا بذكر النبى..عليه الصلاة و السلام ..

-عليه الصلاة و السلام

- كان فى عصر الجيش العسملي..يعني أيام الأتراك لما كانت تحكم فلسطين..كان فيه فلاح اسمه"درويش"..

- و "درويش"هاد أهبل مسكين..يمعط الحاجات و يسرق الريش..قالت"نجمة"..فنظر لها"أياد"بدهشة..قال مكملاً حكايته:

- أهبل على باب الله..و كانت زوجته"فهيمة"..

قاطعته"نجمة"قائلة فى حماس:

- فهمانه..بس غلبانه بعيشتها ومشاكلها مع زوجها الأهبل "درويش"..

سألها"أياد"بدهشة:

- لما أنتي حافظه لحكايه ليش طلبتي لحتى أحكيها؟!

- بحب أسمع صوتك خيا..باطمني شوي !.."نضال"بيهذى ويصرخ و هو نايم..بينادي عإماه و بياه و خواته اللي استشهدوا بالقصف..!قالتها"نجمة"قبل أن تكمل فى رجاء مستعطف:

- كمل لحكايه..بوعوك ما راح أتكلم..

- شو رأيك تسمعي حكايه تانيه؟قالها"أياد"و هو يحاول إنتقاء قصة يحكيها لأخته لكنه - بدلاً من ذلك- سرح فى القصف الذى مازال صداه يدوي فى أذنيه..و فى الحصار الذى يطبق على رقبته..
 فى يتم"نضال"الذى فقد عائلته كلها فى ليلة واحدة..فى جوعة"نجمة"و المساعدات واقفة فى على مرمى حجر..
فى معبر رفح..الذى لا يريد اليهود فتحه..

فى القهر.

.فى الخذلان..

فى الدماء التى سالت على الأرض..

فى أشلاء الأطفال المحترقة..

فى الصمت العالمي..

فى الموت العربي..

و تبخرت كل ما فى رأسه من حكايا..لم يتبقى فى ذهنه سوى حكاية و احدة..حكاية الثيران الثلاثة التى أكلها الأسد!..

لكنه حين قرر أن يحكيها ل"نجمة"..و جدها قد نامت و رأسها فى حجره..

***

"أياد"!.."نجمة"!

هبت أم"نجمة"من غفوتها القصيرة صارخة فى فزع..بحثت بيدها فى الظلام عن قارورة المياه البلاستيكية لترطب حلقها الجاف..وجدتها شبه فارغة ..أفرغت القطرات القليلة المتبقية على لسانها.. لعقت القطرة المتبقية على حلق الزجاجة.. لم تكن ترها..لكنها شعرت بها ..نهضت فى تثاقل و هى تحمد الله على أن ما أفزعها لم يكن سوى كابوس رهيب!

أتجهت بزي الجراحة الأخضر.. للعنبرالمكتظ بالجرحى من النساء و الأطفال..لتطمئن على أحوالهم ..-و برغم-الساعة التى تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل..و الإضاءة الخافتة التى تبعث على نوم..

كان ثمة طفلان أو أكثر مستيقظيين ،يبكون من الألم و الخوف..

- كييف الأحوال يا"فريده"؟سألت دكتورة "مروة"أم"نجمة"و"أياد"الممرضة ..و هى تربت على كتف طفلة فى الرابعة تصرخ و هى مختبئة بحضن أمها مبتورة الكاحل،الغائبة عن الوعي

- "ورد"محتاجه تغير علجرح،و المره الحامل كمان دكتوره..قالتها الممرضة للطبيبة التى قالت للبنت بإبتسامة مطمئنة:

- هدي شوي يا حلوه..ما تخافي..ماما بخير..بس هى هلأ نايمه!

نظرت لها الطفلة الباكية بقلق و قد توقفت عن البكاء..ناولتها تمرة..قبل أن تتجه لسرير"ورد"التى كشفت عن الضمادة الكبيرة التى تغطي صدرها و أعلى بطنها..

- وريني..

قالت للممرضة :

- خلي"ورد"لبكره..لساتو الغيار نضيف..الشاش و القطن بلشوا يخلصوا..

أنتقلت لجارتها الشابة الحامل..نظرت للضمادة الناشعة بالدماء على رأسها،و مطت شفتها بأسف ..قالت بتعاطف:

- بدك تتحملي شوي يا"سلمى"..بنغير عالجرح إللي براسك..الضمادة تاعت كتفك بدنا نسيبا هلأ..

أنهمكت فى نزع الضمادة برفق عندما سألتها الشابة التى تكتم ألمها بشجاعة:

- دكتوره..الجنين ما بيتحرك متل الأول صارله يومين و اليوم التالت!

- كييف يعني؟..ما بيتحرك خالص و لا صارت حركته أخف؟سألت الطبيبة،و هى تعقم مكان الجرح و تلصق الضمادة الجديدة، فأجابت المريضة القلقة:

- صار يندار بشويش هسا..و ما بيركل كتير!

- أنتي بالشهر الكام؟

- التامن..

- كنت مفكرتك بالشهور الأولى بطنك لساتو صغير!هتفت الطبيبة بدهشة..قبل أن تضيف و هى تربت على بطنها المنتفخ:

- أنا فالرابع..شوفي!..والله اللي بيطلع عليا بيفكرني راح أولد بكره!

ابتسمت المريضة..قالت:

- ممكن توم..

- اربعه..

- ماشاله..الله يخليلك ياهم هما و بيام قالتها المريضة..قبل أن تسأل بلهفه:

- دكتوره..ما شفتي زوجي..اسمه"كرم" "كرم الحوامده"..هوا شاب زريف الطول و بسمته ما بتفارق وشو!

- ما باخد بالي..فات علينا كتير مصابين بهاليومين..

- و ما عرفتي شو صار لإمي..إمه لزوجي و عمامو و ولادهم..سألت المريضة،و ردت الطبيبة بتنهيدة متعبة:

- مابعرف صدقيني..الله يطمنك عليهم..و ما تخافي عالبيبي..بالشهور الأخيره بيوخم شوي..كمان حجمه ضعيف شوي من شان هيك حركته ضعيفه
يتبع

أقرأ أيضاً:سيد الرجالة
           غلطة عمري

نجمة الجزء 2

غادرت الطبيبة العنبر و هى تبكي بحرقة..حاولت مسح دموعها التى جرت على خديها..و هى تسترجع سؤال"سلمى"-العروس الجديدة-عن زوجها و أهله..وكيف أنكرت أنها تعرف مصيره رغم أنها-الطبيبة- رأت أسمه مكتوباً على كفن عائلته التى لم يتبقى منها أحياء-لا رجل و لا أمرأة- سوى طفلين ولد و بنت..لكنها لم تكن تقدر على إخبارها وهى بهذا الضعف..

كيف تخبرها ؟وهى نفسها معرضة للموت هى وجنينها بسبب قلة التغذية و عدم توافر مياه الشرب النظيفة..و نقص الأمكانات الطبية التى توفر لها ولادة سهلة و آمنة.

أخذت تكفكف دموعها دون جدوى..و هى لا تدري هل تبكي من أجل"سلمى"..التى لمست قصتها قلبها ؟..أم أنها تذكرت طفليها"عمر"و"فيروز"اللذين أستشهدا بقصف صاروخي من عامين فى قصف المستشفى الميداني- حيث- كانت تعمل وقتها..و صدمة أخيهما الأكبر"عبد الله"المعتقل ذي سابعة عشر عاماً هو و أبيه حين علما بنبأ أستشهاد الطفلين-ربما-لهذا السبب أصر أبو"عبد الله"على أن ينجبا بعملية حقن مجهري..و نجح-رغم-سجنه فى تهريب نطفته إليها..

- كباية شاى يا عالم..الصداع فشخ راسي نصين! هتف أحد الأطباء بالممر فانتزعها من أفكارها و ردها إلى أرض الواقع.. قبل أن تسترعي إنتباهها الممرضة المهرولة، نحو حضانة الأطفال بوليد خادج أزرق اللون..يحتاج أن يوضع على جهاز تنفس..وضعت"مروة"يدها على بطنها برد فعل لا إرادي..و تمتم قلبها بالدعاء..بأن يحفظهم الله لها..سفراء الحرية..

..و يرد الغائبين

- دكتور"نوير"نادت"مروة" على الطبيب المسئول عن سير العمل بالمستشفى..فألتفت إليها الأخيربحدة سائلاً بإنزعاج:

- إيوه يا دكتورة!..حصلت شي مصيبه تانيه؟!

قالت"مروة" بتوتر و قد أنتقلت إليها عدوى العصبية:

- لا سمح الله!..بس كان بدي روح أطمن عالولاد..صارلي أربع تيام ما شافتهم..ما بعرف كيف بيناموا ،و لا ضل عندهم أكل..و لا من وين بيجيبوا المي؟..ألله لا يسامح يللي ردم الأنفاق!

- ماشي الحال دكتوره..فيك تروحي تشوفيهم بالصباح..قالها الطبيب الكبير..قبل أن يضيف معتذراً

- لا تأخذيني يا إم"عبد الله"..كله مطجن فوق راسي..لسه من شي ساعه خبروني إن المولد راح يبطل بعد تلات ساعات..يعني الحضانات و أجهزة الغسيل و العمليات.. كله راح يوقف..كارثه و طبت عراسي!

أتسعت عينا"مروة"بذعر..تسألت بدهشة:

- و شاحنات المساعدات اللي و صلت القطاع ما فيهن وقود؟!

- و لا نقطه!..ما في حتى أشي يتاكل..كلها مستلزمات طبيه..

قالها الطبيب بمرارة كبيرة..قبل أن يضيف طبيب شاب متدخلاً فى الحوار..قال بغيظ ساخر:

- الأخوه بمصر باعتين كمان أكفان حلوه بترد الروح ..باتمنى ما نحتاج نرسل إلهم زيا عن قريب!..

-اليوم..بدهم يتركونا لحالنا..و بكره ما بيلقوا إللي ينافح عنن!

 بمرارة حُفرت على قسمات وجهه المرهق الشاحب أضاف الطبيب الشاب بصوت خفيض كأنه يحدث نفسه..فتتطلعا إليه بشفقة..قال د"محمد "بأسف:

- عظم لله أجرك يا"عابد"..كانت بنتا لأختك ما؟..

أومأ برأسه إيجاباً..أضاف بتجهم:

- كانت بحضانة المستشفى إللي انقصفت !

قالت له"مروة"مواسية:

-البقاء لله يا د"عابد"..ألله بيعوض عليها إنشاله..

" شباب..بدنا مساعده بالطوارئ!"قاطعها صياح مسعف وهو يهرول نحوهم..قال بأنفاس متلاحقة :

- القصف داير..و المصابين لجداد عبّوا الإستقبال!

***

انتبه"أياد"من غفوته القصيرة و هو ما يزل جالساً و"نجمة"تتوسد فخذه..على دوي الصواريخ المتلاحقة..أرتجف قلبه فى فزع كان القصف قريباً جداً..أخذ يتمتم بصوت خفيض يتعالى:

-- الله أكبر!..اللهم حوالينا لا علينا..اللهم حوالينا لا علينا!

- أيش هاد؟!صاحت"نجمة"فى فزع..و هى تعتدل جالسة..

- لا تخافي يا "نجمة" هتف"أياد" و هو يحضتنها بقوة..هب واقفاً و هو يحملها على ذراعه..و هرع يخبئها تحت منضدة خشبية صقيلة..مظنة أنها ستحميها إن إنهار المبنى..و هو يهتف..ليتغلب على صوت القصف الذى يأتي من كل مكان:

- ما تنتقلي من هون لحتى اجيب"نضال"..

هتفت"نجمة"بهلع

- بدنا نموت هلا!

- ما تخافي!

صرخت و هى تتشبث بساق بنطاله:

- لا..ما فيني أتركك..ما تبعد عني!

فك يدها المتصلبة على ساقه قسراً..و قال بحزم:

- بروح جيبو ل"نضال"و برجع حالاً!

ذهب ليبحث عن ابن خاله فى الظلام الذى لا يضيئه سوى برق القذائف المشتعلة..

و فجأة غرق المكان فى الأضواء التى بعثتها المباني المحترقة..

أستحال الليل نهار أحمر بلون اللهب!

"أياد"!انبثقت الصرخة الداوية مختلطة بالدخان و رائحة الحريق..و لم يمييز أكان "نضال"صاحبها أم"نجمة"..

حتى لم يعرف من أي أتجاه تأتي!

و قد تحول الوضع للوحة سريالية مجنونة..

أختطلت أحاسيسه بها..

فجأة صار يشم أصوات القصف..

يتسمع حرارة اللهيب..

و يبصر رائحة الدخان!

"أياد"!..ألتفت و قد تعرف أخيراً على مصدر الصرخة المرتعدة..عندما أندفع"نضال"ذو الثمانية أعوام،فى صدره كالقذيفة..أحتوى جسده الراجف بين ذراعيه..بينما"نجمة"تناديه هى الأخرى..

حمل"أياد"جسد"نضال"المرتعد كالمصابين بالشلل الرعاش-مصاب بصدمة عصبية-و عاد جرياً..إلى حيث ترك""نجمة"..التى فوجئ بها تقف أمامه..صاح بها:

- أرجعي أتخبي تحت الترابيزه!

جرت لتختبئ كما أمرها..و بينما هى تزحف على يديها و ركبتيها لتعود مكانها تحت المنضدة..و قبل أن تختفي تحتها تماماً أنهار السقف فوقهم..صرخت"نجمة"..

و لم تسمع لرفيقيها صوت!

أعتدلت جالسة بإلتفافة مستحيلة..جعلتها تقطع يقيناً أن ساقيها قد تهشمتا تماماً..ولم تعد عظامهما متصلة بجسمها..

لكنها- من فرط الهلع -لم تشعر بألم!

-"أياد"! أندلعت صرختها الحزينة تشعل الليل بجمرات دموعها المتساقطة..

- يا ألله.."أياد"!.."نضال"يا ألله....ليش يا خيا؟!..ليش بدك تتركني..وينو"أياد"يا ألله؟!..ما تخليه يتركني..

- "نضال"!..وينك؟..لوين رحتو؟!..وين أتخبيتو؟!..بدكم تلعبوا معي ماهيك؟!

أنطلقت ضحكاتها الهستيرية..ثم أنفجرت فى البكاء..

تمتمت بصوت مبتل بالدموع:

- يا ألله ما تخليه يروح.. ما تخليه يروح !..

- ما تخليه يروح ..يا ألله!صرخت فى ضراعة و توسل وهى تحاول أن تسحب ساقيها من تحت انقاض التى مازالت تتهاوى عليها..وبينما هى تحاول تحريك الكتل الأسمنتية التى كسرت عظام ساقيها..تدحرج رأس"نضال" المهشم بحجرها..ظلت تصرخ فى هستيريا..حتى فقدت الوعي!

***

- آه!

شعرت الطبيبة"مروة"بطعنة تخترق قلبها..بينما كانت تستخرج شظية أستقرت بصدر مصاب فى الثامنة عشر من عمره ..يجز على طرف الملاءة الغارقة بالدم فقد - كان-بكامل وعيه 

- قلتي أشي يا دكتوره؟!سألت الممرضة التى لم تفهم همهمة الطبيبة من تحت قناعها الطبي..

نظرت"مروة"ليديها الغارقتين بالدماء.. و هما تهتزان

- ما فيني كمل ..إيدي بترجف!

لم تدر"مروة"ما ألمّ بها؟..فهذه-حتماً-لم تكن أول مرة تقوم فيها بعلاج جرحى- و قد عملت بالعديد من المستشفيات الميدانية..لكنها أول مرة يرتجف فيها قلبها بهذه الطريقة..ربما لأن القصف صار دانياً جداً من منزلها!

- دكتور..بدنا مساعده!

- فيكي تروحي يا دكتوره..باخد مكانك!

أرتج بدن"مروة"عندما تكلم أحد زملائها..ألتفتت للطبيب الذى حضر إستجابة لنداء الممرضة رافعاً يديه إستعداداً للعمل..لم تتعرفه بسبب القناع.. لكنها تراجعت خطوة للوراء-لتفسح له- و عينيها لا تفارقان قفازاته التى صارت حمراء بلون الدم..و البقعة الحمراء الداكنة التى غطت صدر زيه الأخضر..

أتجهت إلى الخارج و أصوات الصراخ و الأنين تدوي فى أذنيها..

و قدميها تدوس-دون أن تنتبه فى الدماء التى لطخت ردهة الإستقبال..

التى تحولت لميدان حرب!

مصابون يملأون الأرض يفترشون ملاءات ملوثة بالدماء..

و مسعفون يستعملون الملاءات -بدل-المحفات فى نقل المصابين لكثرتهم..

الهواء تلون برائحة الدماء ..

..عبق الجو بصرخات تتلوى كالدخان..

لابد أن يدفع أحدهم الثمن..

لابد..

لا يمكن أن يمر كل هذا دون حساب!

مضت تقطع طريق الآلام الذى لا يريد أن ينتهى..

تحمل هواجسها بشأن أبنائها كصليب ثقيل يكاد يزهق أنفاسها..و تفاصيل الكابوس الذى يداهمها كلما اغمضت عينيها..شجرة عوسج جذورها مغروسة فى رئتيها..و فروعها تمزق مخها و تطل من محجري عينيها..

خيل إليها أنها تمشي منذ ألف عام.. عندما وجدت نفسها تزاحم الجموع على باب المشفى..لا تستطيع أن تخترق زحام مدهم المتدفق داخلاً..

بينما هى وحدها تسبح ضد التيار

.. تناضل من أجل الخروج..و هى تتخبط بينهم-كالعمياء-عندما صفعت وجهها-فجأة- لفحة هواء باردة..أصبتها بمزيد من القشعريرة..

وجدت نفسها خارج المستشفى ..
المستشفى التى لجأ إليها عدداً كبيراً من الهاربين من القصف خلال الأيام الماضية-غير عالمين -أنها قد تصبح هدفاً للهجمات الصاروخية الأسرائيلية ..الآن أو فى أى وقت لاحق!

تتطلع للحي الذى كان بيتها فيه ..و هو يبدو من بعيد خرائب و أنقاض مشتعلة..و لامت نفسها للمرة المليون أنها لم تحضر الأطفال الثلاثة للمشفى-رغم-أن أسرائيل لا تتورع عن قصف المستشفيات و المدارس..

حتى مراكز الإغاثة التابعة للأمم المتحدة..
قصفتها!

- يا رب!

هتفت بقلب محترق و هى تدعو الله

ألا يكون القصف قد أصاب منزلها بالذات..و أن يكون أبنائها سالمين!

تمنت فى تلك اللحظة أن تخترق ببصرها حجاب الغيب لترى ماذا ألّم بهم..

أو أن ينبت لها جناحين لتذهب إليهم حالاً..

فلا يمكنها الإنتظار حتى ترجع سيارة الإسعاف الوحيدة-التى-مازالت تعمل..

أو تتهادى بها عربة كارو ذاهبة بعد ساعتين لتنقل جثث الضحايا من الحي المدمر!

***

بعد أسبوع جلس "عامر"على مائدة الأفطار مع زوجته و ابنه الأصغر"عبد الرحمن"ذو السبعة أعوام..عندما لحق بهم ابنه الأوسط"زياد"ذو الأعوام الثلاثة عشر..الذى قفز على الكرسي كأنه يمتطي ظهر جواد..ليجلس بجوار والدته..تطلع إليه أبوه مستنكراً
دون تعليق

- بصي.. قالها"زياد"الذى لم يلاحظ نظرات والده المستاءة نحوه..لأمه و هو يريها بعض الصور على هاتفه المحمول..ظل يستعرض الصور..بينما أمه تشهق فى جزع..تمتمت بصوت مخنوق:

-لا حول و لا قوة إلا بالله!

- ضربوا مخبز الشرق أمبارح كمان..قال"زياد"بينما تمتمت أمه بحزن:

- حسبي الله و نعم الوكيل!..ربنا يورينا فيهم آيه!

- وريني..قال"عامر"فناوله"زياد"الهاتف..استعرض صور ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة فى إمتعاض.. قبل أن يقول لولده لائماً:

- ..توتوتو..حد يتفرج على المناظر دي عالصبح؟!

زم"زياد"شفتيه فى ضيق،ولم يرد..بينما لاحظ أبيه الوشاح الفلسطيني الذى يرتديه"زياد"فوق زي المدرسة و قدر أنه سيخرج فى تظاهرة من تلك المظاهرات عديمة القيمة التى ينظمها الفتية الصغار فى عمر ابنه بعد الدوام المدرسي..لكنه تجاهل الأمر..

إنه في سن البلوغ و لابد أنه يشعر بذلك الحماس الذى يخدش أوردته من الداخل..

..إن كل هذا التستوستيرون الذى يتدفق فى دمه لا يلعب!..

و طاف بذهنه بيتي شعر لبيرم التونسي يقول فيهما

ياعم ياللي لابد جوا .. وكلك قوه

يا هل ترى أمك حوا ولدتنا كلاب!

مط شفتيه فى تفكير.. لكن منذ متى يهتم"زياد" بشئ- بخلاف- حجز كرة القدم و لعب البلاي ستيشن؟
حتى أن أكثر مادة يكرهها هى مادة الدراسات الإجتماعية!

لا بأس..

.. أن بعض الصراخ سيفيده..و يجعله يهدئ قليلاً!

- بابا..ممكن نروح ماكدوناز فى الHoliday؟!

سأل"عبد الرحمن"..فهتف"زياد"مستنكراً:

- أنتا حيوان يا ابني؟!على طول همك على كرشك؟!..خلي عندك دم ..فيه مقاطعه للمنتجات اللي بتدعم أسرائيل..دول إللي بيقتلوا أخوتنا ف"غزه"!

- هوا أحنا لينا أخوات ف"غزه" سأل"عبد الرحمن"بدهشة..فردت أمه:

- كل المسلمين أخوات يا حبيبي..

- متزعقش لاخوك!هتف"عامر"بغضب..قبل أن يضيف مستخفاً:

- و بعدين مقاطعة أيه يا ابو مقاطعه؟!...فكرك هيفلسوا لو أنت مشترتش!..المقاطعه بتضر الأقتصاد بتاعنا أحنا..

ما أن فتح"زياد"فمه ليناقش والده حتى قاطعه الأخيربأشارة ملول من يده..قال"عامر":

- مش هانفتح حورات عالصبح!..هاتأخر على شغلي و أنتا هتتأخر على مدرستك!

أبتلع"زياد"تعليقه مرغماً..قال و هو يصنع لنفسه شطيرة:

- لما أرجع من المدرسة نبقى نتكلم!

- لا دلوقت و لا بعدين!..أنت واحد دماغه فاضي و مش هتعب نفسي فالكلام معاك..و قولك على حاجه هنروح ماكدوناز يوم الجمعه

..هاتيجي معانا و لا مقاطع!

- أنا كمان مش رايح يا بابا!هتف"عبد الرحمن"..قبل أن يضيف فى شرح:

-هاقاطع..علشان اخواتي إللي ف"غزه"!

ابتسمت أمه فى إستحسان هى و أخيه"زياد"الذى حمل حقيبته على كتفه..قبل أن يقول لأبيه:

- طب ممكن التليفون علشان أروح المدرسه؟

- أستني لحظه.. هاشوف الأخبار!

جرت عينا"عامر"على عناوين الأخبار..عندما ألتقط خبر عن إعتقال بعض المتظاهرين من مظاهرة داعمة لفلسطين قامت الحكومة-بنفسها- بتنظيمها منذ أيام و تقديمهم للمحاكمة!

- التليفون يا بابا..هاتأخر!

نظر له أبوه و سأله بضيق:

- أيه اللي انتا لابسه ده؟!

- هدوم!..رد"زياد"بدهشة..قبل أن يقول والده بغضب:

- ماتلبسش الشال ده تاني!

سأل"زياد"بحيرة:

- ليه؟!

- من غير ليه!..و يلا روح على أوضتك..مفيش نزول النهارده..

هتف"زياد"و أمه بدهشة:

- هوا أيه اللي حصل؟!

- أعتقلوا تلاته و أربعين واحد!

ناولها"عامر"الهاتف..لتقرأ الخبر..بينما يسألها:

- فين"نسمه"؟

- لسه نايمه!..قالت أم"زياد"..فقال هو ينظرل"زياد":

- لو عندها جامعه خليها تروح أنا عارفها عاقله مش هتمشي فمضاهرات..إنما ده ما يخطيش عتبة البيت النهارده!

هتف"زياد"فى إحتجاج:

- أنا مش صغير يا بابا علشان تحبسني فالبيت!

- لأ عيل صغير..و احبسك فالبيت..بدل ما تتحبس فى الإصلاحيه!

- يلا غور روح أوضتك!

ألقى"زياد"الحقيبة فى حنق..و ذهب لحجرته غاضباً..بينما قال أبيه لأمه:

- طبعاً أول ما اخرج أنا هيحاول يخرج هوا كمان..قوليه إنه لو خرج وقعته سوده معايا..

قالت زوجته بتوتر و قد شعرت بخطورة الموقف:

- حاضر!

أضاف و هو يدرك كم هو كاذب:

- فهميه الحيوان ده ..إنه لو أتقبض عليه مش هامشي وراه خطوه..و لا هاجيب له محامي!

***

- كيفها"نجمة"هلا؟"سألت أم"نجمة..قبل أن تضيف بتساؤل محزون:

- ما ضل مسكن إلها؟.. لما بتفيق بتتوجع كتير..

قال الطبيب..فى أسف:

- المشكلة أكبر من هيك يا دكتوره..مكان البتر ملوث....الساق اليمنى ماشي حالها..بس الساق اليسرى بدنا نشيل من فوق الركبه..

وضعت"مروة"كفيها على فمها تكتم تأوهاتها الحزينة..

- يا ربي.. يا ربي..يا لطيف!..هيك ما بقى من إجرها أشي!

أضافت و دموعها تكوي و جنتيها:

- بنت يادوبها خمس سنين.. كيف بدها تتحمل كل هيك عذاب ؟!..و كيف بتتحمل جراحه تانيه من غير بنج؟!..حرام!..والله والله حرام!

- ما بيكفيها ما شافت بهاديك الليله!

قال الطبيب مواسياً:

- ألله بيعينك و بيعنها.. ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص ‏من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ..

و انتي أم الصابرين يا إم"عبدالله"..

- وينو"عبدالله"..كل ياللي باعرفه عنه أنه أسير-هو-و أبوه عند اليهود..زمانه مشبوح و يتعذب..ما شفت شو عاملين و مسوين فى المعتقلين؟!

- قلبي بدو يطق يا أبو"جاسر"..و كيف حالها المسكينه؟..اللي راس ابن خالها طبت بحجرها..و"أياد"..

أختنق صوتها بالعبرات..و هى تتذكر كيف تعرفت على جثة ابنها ذى الخمسة عشر ربيعاً من كفه بأصابعها التى طالما عزف بها البيانو..و التى طالما مازحه أبوه-بسبها-قائلاً..أنها تشبه أصابع الجراحين..

- و"أياد"يا حبة قلبي!..و غلبتها نوبة حارة من البكاء..جعلت كلامها غير مفهوم..عندما أندفعت أحدى زميلاتها تحتضنتها و هى تبكي على بكاءها الذى يمزق نياط القلوب..ظلت صديقتها تواسيها..قالت"مروة"و هى تمسح دموعها:

- إنا لله وانا اليه راجعون ..إنا لله وانا اليه راجعون..لله الأمر من قبل و بعد!

أنصرف الطبيب و هو يكبت دمعه متأثر بتلك المأساة..التى كان أسوء ما فيها..هو أنها تكررت أمامه مئات المرات!

سنوات من التصعيد القمعي الذى لا يتوقف..

قصف..قتل..حرق.. تعذيب..و تجويع

أسوار تعزل غزة عن العالم

غزة التى تخلى عنها القريب و البعيد!

لا شئ يبعث على الأمل ..

أو حتى رغبة فى الحياة!

سوى هذا الإيمان العميق بالله

هذا الإيمان بأن وعد الله حق..

و أن نصره لأت..

آت لا محاله!

***

دخلت"مروة"العنبر المكتظ بالجرحى-أغلبهم -أطفال منهم ابنتها..و وسط صرخهم وبكائهم مشت نحو سرير"نجمة"الذى تتشاركه مع ثلاث فتيات أكبرهن فى العاشرة و أصغرهن بعمر ثلاث أعوام..و قد بدا عليهن-إضافة- لجروحهن المريعة بالغة السوء..علامات الجفاف و سوء التغذية..

أقتربت من"نجمة"و قد ظنتها لأول وهلة نائمة..وقد بدت هادئة هذا الصباح -على غير العادة- لا تصرخ و لا تبكي..

لكنها أندهشت عندما وجدتها مستيقظة و تبتسم!

- كيفك حبيبتي؟ منيحه؟!سألت"مروة"بلهفة..قبل أن تتبع سؤالها بسؤال:

- كيف حاسه؟..موجوعه شي؟!..جوعانه؟..بدك مي؟

- لا..أنا منيحه هلأ..ما عدت حاسه بوجع،و ما بدي أشي..قولي للدكتور كمان إني ما بحتاج عمليه تانية!

لم تحري أمها جواب - من الدهش- و هى تتطلع لساقها المتورمة المبتورة من تحت الركبة..عندما فاجئتها الصغيرة بإبتسامة تتسع و هى تتطلع إلى شيئاً ما خلف ظهر أمها :

-"أياد"بدو يخبرك شي حلو.."عبد الله" راجع قريب هوا و بابا!

تطلعت"مروة"للخلف ..كأنها ستجد"أياد"واقفاً وراءها..- و برغم -تأكدها من موت نجلها..هتفت بتوتر شابته اللهفة:

- "أياد"!..وينه"أياد"يا بنتي؟!

أشارت"نجمة"بأصبعها المنمق..قالت :

- هناك..أجا هوا و"نضال"من شان ياخدوني!

سألت أمها بصدمة:

- ياخدوكي لوين يا إمي؟!

- "فيروز"و"عمر"أجم معاهم كمان..كان بدهم ياخدوني..لكن أنا حكيت معهم إنه ما بيصير أروح معاهم من دون ما اخبرك..و أحكيلك باي!

أمتلأت عينا أم"نجمة"بالدموع..سالت دمعة من عينها اليسرى..أمسكت بكفي"نجمة" الصغيرتان تقبلهما و تغسلهما بدموعها.. قالت برجاء متوسل:

- لأ ما تتركيني!..ما ألي غيرك يا إمي!

دفنت وجهها فى شعر"نجمة"المعطر..و قبلت وجهها..لم تتحرك"نجمة"..ولم تعد الأم تشعر بحرارة أنفاسها..جست وريد عنقها..وضعت أذنها على صدرها تتسمع نبضً لم يعد موجوداً..

صرخت..

- ليش يا"نجمة"؟!..بدك تتركيني أنتي كمان!

هزت جسد ابنتها الهامد..لم تكن تصدق أنها ماتت..

و لم تعد"مروة"تعي ما تقول و ماتفعل من الصدمة بينما العديد من الأكف الممدودة تربت على ظهرها و كتفيها..

فى حين بدت"نجمة"دقيقة الملامح ..وضاءة الحسن كملاك ..و قد تبدا في عينيها الفيروزيتين..قمر أزهر و نجمة متلألئة..يطلان على غزة والقدس و نابلس..

وطولكرم و جنين ..

و كافة الأراضي المحررة بأذن الله


و مازال العدوان مستمر..

قصص تليجرام