قصص تليجرام

العروس الصينية كاملة




-1-

لم تكن "سو كوالي"عروس عمي صينية..رغم أنها قادمة من الصين..و قد بد لي هذا غريباً بعض الشيء..لكنه جزء بسيط من أسرار و سحر هذا الجزء الغامض من قارة آسيا..عندما جاءت إلى بيت العائلة..خرج كل من في البيت الكبير من رجال و نساء و أطفال..ليتفرجوا على هذه الأعجوبة..

فتاة بيضاء..ذات ابتسامة مشرقة و عيون ضيقة..ترتدي فستان بسيط أصفر اللون و حجاب أبيض..عرفها لنا عمي"عماد"على أنها صينية مسلمة..لكنها قالت لي بلغتها العربية المهشمة - فيما بعد- إنها من مسلمي الايجور..و أن إسمها سو كوالي معناه زهرة الماء أو الزهرة الجميلة باللغة الايغورية حتى أنها كانت تغضب كثيراً عندما يقول عنها أحد أنها صينية..

الايجور أتراك ؟!

صدمتني تلك المعلومة..تبدو ملامحها قريبة أكثر من ملامح الصينين..لكنها كانت تنكر ذلك بشدة..لا يمكن في نظرها أن تشبه الصينين الذين تكرههم أكثر مما يكره المرء الموت و المرض..و هي محقة في ذلك..و قد قتلوا أمها و يعتقلون أبيها بتهمة قتل أمها..و أدخلوا أخيها الأصغر دار أيتام و لم تره 

- أبداً - بعدها..

بداية لم تقم بالإنحناء عند التحايا كما يفعل الصينيين..و قد إعتبرت سلافاتها هذا استهزاء و قلة إحترام من ناحيتها..

و قد أطلقت عليها جدتي لقب الصفراء من أول يوم وطئت في قدميها الصغيرتين أرض منزلنا العامر..

بدا لي هذا تجنياً..فقد كانت بيضاء واسعة الجبهة مع وجه بيضاوي مسحوب برقة..أنف رقيق..و فم دقيق..و بشكل عام كانت أجمل كنات جدتي..فيما مضى كانت أمي الأجمل..لكن الهموم التي قاستها على يد حماتها -جدتي- و زوجها -أبي- جعلتها تكبر قبل الأوان..و رغم أنها لم تكمل السابعة و الثلاثين بدت أكبر من جدتي التي تجاوز عمرها الخامسة و الخمسين..

بدأ "سو كوالي" بتوزيع الهدايا على نساء المنزل..كعادة أهل الريف عند الزواج..لابد أن عمي أخبرها بأمر هذه العادة..

وزعت على كل النسوة الكبريات فساتين مطرزة بالخيوط الملونة و زجاجة عطر جميلة..بما فيهن الجدة -حماتها- التي لم تعجبها هديتها..فقط لأنها لم تختصها بشئ زائد..

ثم بان على "سو كوالي"الارتباك..عندما علمت أن في المنزل سبع فتيات أكبرهن أنا و عمري عشرين عاماً و أصغرهن ابنة عمي "سندس" و عمرها ست سنوات..فاضطرت توزع عطورها الشخصية على الخمسة الكبار..أنا و شقيقاتي الثلاث"هنا"و "منة الله" و"سلوى" و ابنة عمي"سعاد"..بينما أعطت "عبير" و "سندس" بعض الحلوى..

تضايقت جدتي لأنها لم تعطيها الحلوى مثل الصغيرات!

و تضايقت أكثر لأنها -"سو كوالي"- كانت تبتسم طوال الوقت لنا..فعند جدتي الضحك من غير سبب قلة أدب!

و في قرارة نفسي أشفقت على تلك الفتاة الطيبة..سوف تمحو جدتي تلك البسمة اللطيفة في خلال يومين..ليس هذا صعباً عليها..فقد محت ملامح أمي نفسها خلال السنوات التي عاشتها معها!

صار وجهها الجميل المورد..مساحة مريحة من الطيبة..مع تجاعيد على جانبي الفم و ما بين الحاجبين.. و خطوط دقيقة على الجبين..يقولون أن الزمن جبار.. ربما هو كذلك - رغم - أن لم يؤثر في جمال جدتي القاسي..لكن المؤكد أن جدتي ملكة الجبابرة!

منذ البداية أظهرت "سو كوالي" نشاطاً و حباً كبيراً للترتيب و النظام و بدا أنها ستصير المفضلة لدي جدتي التي تعشق النظام و النظافة إلى حد الهوس..و شعرت نساء المنزل كلهن بالغيرة منها..و قد اتضح منذ البداية أن مشاكلها مع جدتي ستكون قليلة بل -و ربما- معدومة..لكن ما لم يوقعه أحد..أن تبدأ المشاكل بينهن من بعد صبيحة يوم الزفاف بيوم واحد!

و كان السبب الذي لا يخطر على بال..هدايا"سو كوالي"؟!

كانت قد أعطت الصغيرتين بعض الحلوى لهن..و حلوى أكثر ليوزعانها على أشقائهن الذكور فما كان من الطفلتين..إلا أنهما تقاسما الحلوى بينهما..و لم يخبرا أشقائهن!

..و فوراً قامت جدتي بتحقيق موسّع..

ثم داهمت حجرة"سو كوالي" في الخامسة فجراً..

للتحقيق معها!

لماذا لم تعطي الأولاد كما أعطيت البنات؟!

و استدعوني لأترجم تلك المشاجرة بعدما صليت الفجر و عدت للنوم..هكذا انتزعتني جدتي من الفراش..قبل أن أنام ساعتين قبل ميعاد الكلية..

قالت"سو كوالي" المسكينة أنها أعطت للبنات نصيب الأولاد..لأنهم كانوا يلعبون بالخارج وقت توزيع الهدايا..

سبتها و سبت هداياها التافهة..و ذهبت لتُوقظ الطفلتين المرتعبتين..و كانتا قد نامتا مطمئنتين أن فعلتهما لن تنكشف..لكن على من؟!

ضربت جدتي الطفلتين السارقتين و هددتهما بخلع الأسنان..و هما يبكيان و يرتجفان من التهديد المخيف..

و ظلت تكيل السباب لـ "سو كوالي" التي بدت مصدومة..لكن صدمتها تحولت لرعب عندما سألتني على انفراد عن فحوى تهديد الجدة الذي جعل البنتين ينخرطان في نوبة حارة من البكاء..شرحت لها بالكلام و الإشارات..أنها تنوي خلع أسنانهن بسبب سرقتهن الحلوى..

لن انسى نظرة الرعب التي علت وجهها الذي صار مصفراً من شدة الخوف..

و من كلامها فهمت أن خلع الأسنان عقوبة حقيقية و شائعة في الصين!..

قالت لي أنها رأت بنفسها الشرطة الصينية و هي تخلع أسنان رجل أربعيني..سرق بعض الطعام من أجل أطفاله الجوعى..هو نفسه كان بارز العظام من شدة الجوع..و عندما خلعوا أسنانه و بعض أضراسه المتبقية..مات أمام أعين أولاده الذين حضروا الموقف..و لا يعرف أحد حتى الآن هل مات بسبب النزيف أم بسبب الألم؟!..هي تظنه مات بسبب الرعب..لكن ما خطر لي!

لقد مات هذا الرجل بسبب القهر و كسرة القلب..لم يكن لدي شك في ذلك 

في تلك اللحظات وقف شعر رأسي رعباً كأنما عاينت الحادث بنفسي..حاولت تهدئتها دون جدوى.. و اضطررت لأن أستمع -مرغمة- لحكاياتها..حتى فاتتني المحاضرة الأولى و بالكاد لحقت الثانية..لكنني لم أندم كثيراً على تفويت المحاضرة..كان"سو كوالي"بحاجة لصديقة..و قد صرنا مقربتين بسرعة..و بدا لي هذا مكسباً عظيماً في ذاك الوقت..ليتك لم تدخلي بيتنا يا"سو"!

أما شبعت قهراً يا مسكينة؟!

لماذا يخلق الله فتاة من نسيم؟..و يلقي بها في مهب الريح ؟!

يتبع

العروس الصينية (الجزء الأول)

19/6/2025

-2-

"سو"يا"سو"حبيبي حبسو!

كان الملاعين الأربعة الصغار أبناء عمي "رشيد" و عمي "حماد"يدورون حول "سو كوالي" يصفقون و يغنون بينما هي تبتسم لهم غير عالمة أنهم يسخرون منها بتلك الطريقة..كنت للتو عائدة من الكلية..صفعت أطولهم على قفاه..فصاح محتجاً:

- والله لقول لأمي!

تحسست موضع الصفعة و بابتسامة مغتاظة قلت له من بين أسناني بوعيد صادق:

- قول لها يا "أيمن"يا حبيبي..و أنا هاقول لستك أخليها تسلخك يا قليل الأدب!

قال الصبي ذو العشرة أعوام بتبجح:

- ليه؟! هوا أنا عملت أيه يعني؟! أنا بغني "سو" يا "سو"!

"سو" يا "سو"حبيبي حبسو!

ظل المشاغب يدور حول "سو كوالي" هو أقرانه الأوغاد زاعقاً بأعلى صوته..عندما أقبلت جدتي الغاضبة تسبنا كلنا..أنا و "سو" و الأطفال المشاغبين.. 

عندما شرحت لجدتي ما حصل ضربت الأطفال و طردتهم..

ثم..

- أنتي يا هبله..أكبري عيب!

صاحت جدتي في "سو" المسكينة..

- اوعي تفتكري إني زعقت العيال علشانك..أنا سكتهم بس علشان ابني..إنما إنتي! تفلت جدتي على الأرض و انصرفت و هي تبرطم بالشتائم و اللعنات..بينما انكمشت "سو كوالي" على نفسها..احنت رأسها في خجل..احمر وجهها مرهف القسمات و لمحت في عينها دمعة حائرة..و رغم أنها في الثانية و العشرين..بدت لي طفلة صغيرة 

مسكينة!..

شعرت بأنني مسئولة عنها على نحو ما..ربت على كتفها من الخلف دون أن تلاحظ جدتي..

ضغطت على كتفها برفق و قلت لها مواسية بصوت خافت:

- ما تزعليش!

- أنت..طيب.."منال"!

***

لم تنتهي مشاكل "سو كوالي" مع جدتي..فقد وجدت نقطة ضعف البنت..قلة ثقتها بنفسها..كنت قد اتفقت مع "سو كوالي" و عمي "عماد" أن يكون إسمها من الآن و صاعد.. "الزهرة" ليكف الأطفال عن مضايقتها..لكن جدتي سامحها الله صارت تناديها بالصفرا !

مما جعل الجميع يغمز و يلمز في إسمها..و بينما كنت أجلس مع "زهرة" على طرف السرير في حجرتها الخاصة..

كان كبير المتنمرين يصيح تحت الشباك بعلو صوته منشداً..و من وراءه جوقة الجراء الصغيرة

"صفرا..صفرا..أوه أوو !"

- صبراً "أيمن" الكلب!

نظرت لي"الزهرة" و هي تفرك كفيها في توتر .. كأنها تقول ماذا بعد؟!..شردت قليلاً و لا أدري بما كانت تفكر..هل تلومني؟!..يجوز!

تأملت شعرها الأسود الطويل المنساب على ظهرها في نعومة..و ملامحها الرقيقة بإعجاب.. 

و فطنت أخيراً كم كنت حمقاء حين ظننتها صينية!

من غير الأحمق الذي يخلط بين ملامحهم الفظة و ملامح هذا الملاك؟!

أخذت أحكي لها عن حماتها..و تعاملها الجاف مع الجميع..و هي المرأة الريفية الجاهلة..التي تظن أن الرجل لا يكون رجلاً بحق إلا إذا ضرب زوجته..و لا تعتبر المرأة امرأة حقاً إلا إذا قبلت عيش الذل من أجل أبناءها..كما فعلت هي(الجدة)

و كما فعلت أمي!..

أخبرتني أن أبيها لم يكن يضرب أمها أبداً..و أن ضرب الزوجات و البنات غير محبوب في تركستان الشرقية بلدها..

-هكذا قالت- ضحكت و قلت لها أن ضرب كل ما هو مؤنث في بلدي محبوب جداً!..لكنها لم تضحك..

حكت لي عن يوم قُتلت أمها بمحشّة و اتهموا أبيها بقتلها..هي لم تره و هو يقتلها.. لكنها رأتهم و هم يعتقلوه و يصطحبوا أخيها "جلال" إلى دار رعاية..و لولا أنها كانت تلعب مع بنات الجيران في بيتهم..لأخذوها معه!

هو الآن في الرابعة و العشرين..و لا تعلم أين هو و لا أي دين يعتنق..بكت بحسرة حين تخيلت أن أخيها الوحيد يسجد لصنم كما يفعل الهان عبدة الأوثان!

و عادت تبكي بكاءاً مراً..حين تذكرت الجنود الصينين حين داسوا بأحذيتهم على أختها الرضيعة"أيجول"التي كانت بعد بعمر ثلاثة أشهر..ثم ألقها أحدهم بقدمه كأنها خرقة بالية..مغطاة بالدم بجوار الجدار!

بكيت معها و قد تخيلت المنظر البشع..و الأكثر بشعة أنها كانت صغيرة حين رأت كل هذا..لم يكن عمرها قد تجاوز الأربع سنوات..قالت أنه كان بوسعها أن تصدق رواية الشرطة عن أبيها..لكن الجيران أخبروها أنه لم يكن في الدار وقت قتل أمها..و لولاهم لكانت تربت على الكفر مثل أخيه المسكين..

قالت هذا و هي تتمتم بالحمد لله على أنها مسلمة..و تعيش أن في بلد مسلم..بوسعها أن تصلي و تصوم و ترتدي حجابها الذي تحبه..قلت لها ضاحكة أن كثير من الفتيات في مصر تتمنى خلع الحجاب..و أثار ذلك استغرابها!

- حجاب..جميل!

قالت "الزهرة" و أضافت 

- إسلام..كمان..جميل..

و طلبت إلي أن أعلمها القرآن..هي تحفظ بعض السور..و تريد أن تحفظ المزيد..

تهربت منها بحجة الدراسة..عندما علمت أن تحفظ أكثر مما حفظت أنا!

..لكنني أجبرت نفسي على الإعتراف لها في اليوم التالي..قلت لها و وجهي يشتعل خجلاً..

- و الله أنا كمان محتاجه حد يعلمني!

يتبع 

العروس الصينية ( الجزء الثاني)

-3-

في اليوم التالي كان دور "الزهرة" في الطبيخ..و قد فاجئت الجميع بطعامة أكلاها التي لا توصف!

رائحة الشواء و الأرز البخاري..و التوابل!

حتى سلفتيها الحاقدتين أبتلعتا لسانهما و ظلتا تزومان في رضا كالقطط!

- تسلم ايدك يا "زهره" كانت هذه من أمي..

- ياريت تعلمي البت"منال"طبيخك اللي زي الفل..

وحدها جدتي التي بدت متضايقة..

ابتلعت ملعقة من الأرز..ثم وضعت ملعقتها..

- سمن كتير!..انتي عايزه تموتيني ..أنا ست تعبانه!

قالتها جدتي في سخط و قامت!

..لم تأكل معنا..أكملت غداءها بقطعة جبن و خبزة يابسة و هي تغمغم في حنق:

- سمنه فلاحي و لحمه و رز و الأخر كل ده يترمي !.. طبعاً ماهو مال يهود!

و لم يُرمي شئ بالطبع..أرسل الرجال الصواني فارغة..و تكفل النساء و الأطفال بالباقي..

حتى أنني وجدت جدتي في المطبخ تأكل خلسة ما تبقى من الطعام في أواني الطهي !

لم يرها أحد غيري - كنا بعد الفجر - و أهل البيت كلاً منهم في حجرته الخاصة..

و قررت أنني حين أعود من الكلية سأحكي لـ"زهرة" عما رأيت!

"بسم الله الرحمن الرحيم..خضتيني الله يقطعك!"

قالت جدتي التي فوجئت بي أمامها فأجفلت..

- أيه اللي مصحيكي دلوقت يا بت؟! 

 - كنت بصلي الفجر!

كشفت غطاء أناء الأرز الذي لم يتبقى منه حبه واحدة و سألت بمنتهى البراءة:

- ستي كان باقي أكل من امبارح ..راح فين؟!

- رميته للفراخ!قالت و هي تمسح شفتيها من أثر الدهن

- لحقتي؟! سألت بتشكيك

- رميته امبارح بعد الغدا..

ردت بحدة..

- بتسألي ليه؟!

 سألت باستغراب مصطنع:

- رميتيه أنت متأكده؟!دا كان فيه حتتين لحمه مع الرز !

شخطتت في بقوة أفزعتني

- و انتي مالك؟!..مكنش فيه لحمه.. ما حدش بالي..أرتحتي؟!

و لم تنتظر ردي..انصرفت و هي تبرطم كالعادة..

- عيال تفلق!..هتحاسبني هي كمان!

كتمت الضحك بصعوبة..بينما جدتي تصيح في صحن الدار تحت الشبابيك 

- انتوا لسه نايمين يا بهيمه منك ليها؟!..نسوان زي البقر ما يستهالوا غير الدبح!


***

- أيه أخبار عروسة عمك؟ عامله ايه!

قلت ضاحكة:

- عامله عظّمة!

و حكيت لها ما فعلته "الزهرة"..حيث استمالت قلوب أطفال المنزل و السر في البقلاوة التركية الجميلة التي تصنعها!

 الصبية المشاغبين صاروا في منتهى الأدب.. و تذهب البنتين لـ"الزهرة"لتضفر لهن شعرهن كل يوم..حتى غارت أمهاتهن من الوافدة الجديدة التي أكلت عقل الجميع

أخذت أثرثر عنها مع"منار"صديقتي و قدري المقدور منذ كنا بالأول الإبتدائي حتى صرنا زملاء بنفس الكلية و نفس القسم..بينما هي تجهز على أخر قطعة من البقلاوة التي صنعتها"الزهرة".. حكيت لها عن ظرفها و لطفها و براعتها في العديد من الأمور..مثلاً العطور التي أهدتنا أياها هي من صنعتها بنفسها و الفساتين قامت بحياكتها و تطريزها بالخيوط و حتى صابون الإستحمام السائل الجميل خاصتها هي قامت بصناعته! قالت منار التي خلب لبها مذاق البقلاوة و هي تمص أصابعها..

- هما كده الصينيين..شاطرين في كل حاجه!

ليست صينية يا بلهاء!

قلت لها بغضب مفاجئ:

- يابنتي مش صينيه!

بدت متفاجئة للمرة العشرين..صمتت برهة قبل أن تسأل باستغراب:

- أمال أيه بس؟!

رن سؤالها في عقلي بوقع مختلف..

منذ أقل من شهر كنت أعتقد بما تعتقده "منار"..أن الايجور صينيين لكنهم مسلمين..أسمع عن اضطهاد الصين لهم فاتضايق قليلاً..ثم أنسى الأمر برمته!

طبيعي..

فالناس يتعاطفون مع الأقرب..و هم بعيدين عنا..لا يجمعنا بهم لا تاريخ و لا جغرافيا هم للعرق المغولي أقرب أيضاً!

لكني نسيت..

 أو ربما تنسيت أنه يجمعنا دين واحد !

"كلي..كلي.."

قلت لـ"منار" مغتاظة و كأني أوبخ نفسي على النسيان 

- أحشري يا حبيبتي..هوا دا اللي احنا فالحين فيه !

صمتت منار و صمت في ضيق..

على ماذا كنت ألومها بالضبط ؟!

و ماذا فعلنا للقريبين منا ؟!..جيراننا يقتلون كل يوم..في غزة.. في السودان.. في لبنان ..و في سوريا..و نحن نتفرج بعجز..

عجز!..

لا ليس عجزاً بل بلادة

سألت منار فجأة:

..لما لا تحكي لجدتك عما عانته "سو كوالي" من اضطهاد في بلدها المحتل ربما أشفقت عليها؟!

فكرت..و حين سألت نفسي.. حقاً لما لا أحكي لها؟!..شعرت بانقباض مؤلم في قلبي..

هل حقاً سترأف بها؟!..أما ستصليها سعيراً ؟!

بالتأكيد ستهينها أكثر..ليست جدتي ممن يرحمون الضعيف!

و كأنما قرأت أفكاري..ردت منار على نفسها:

- و لا أقولك بلاش ! متهيألي ستك ممكن تبلغ عنها زي ما عملوا مع طلبة أزهر اللي سلموهم للصين!

يتبع

العروس الصينية (الجزء الثالث)

22/6/2025

 عندما عدت من الكلية صليت الظهر والعصر..و تمددت على الفراش أفكر في سؤال منار..و بزغ في ذهني سؤال آخر كان مختبئاً في ركن مظلم من عقلي..رغم أنه تكرر كثيراً من عروس عمي 

"مسلم يعمل كذا ؟!".."مسلم يعمل كذا ؟!"

تسألني"الزهرة"..و في عينيها اللتان انطفئ بريقهما قلق و حيرة و رعب!

تُكرر السؤال مراراً.. و لا أدرى بما أجيبها! 

دائماً جدتي تسخر من كلامها..

من ملبسها..

من عينيها الضيقتين..

و عندما وجدتها تطيل في الصلاة و -خاصة-السجود..سمتها الشيخة صفرا الصينية!

قالت أنها تمثل..و أنها كافرة مثل قومها..

و عبثاً حاولت أن أشرح لها أن قوم "الزهرة" مسلمين أتراك..لكن دون جدوى..ذهبت كل محاولاتي سدى!

..الآن تجمعت كل تلك الأفعال في سؤال واحد في عقلي 

هل هذه أخلاق مسلمين ؟!

مخي يكاد أن ينفجر !

جدتي تصلي و تصوم الاثنين و الخميس من كل أسبوع

ذهبت للعمرة مرتين و تدفع الزكاة في موعدها..من أجل أن تدخل الجنة..هل ستدخلها حقاً و جميع من في البيت يدعون عليها بالهلاك العاجل؟!..ربما.. الله أعلم!

إلى أن جاء اليوم الذي تأكدت فيه أن هذه المرأة بلا قلب!

بعد بضعة أيام سمعت أمي تصرخ من الطابق الأول..و هي جالسة تسبح بهدوء بعدما صلت المغرب!

.. صعدت السلم جرياً فوجدت أبي يضرب أمي بقسوة شديدة بعدما عادا من الخارج- لا أعلم- أين كانا..و يركلها بركبته في بطنها المنتفخ و هي تصرخ و تبكي 

جريت لأقف أمامه مدافعة عنها..لطمني على وجههي..

آلمتني الصفعة..سألته بوجع لماذا تضرب أمي ماذا فعلت؟!

- أمك حامل في الشهر الخامس!

لم أفهم ما المشكلة..أمي حامل..كنت أتوقع هذا من وقت بدأ بطنها يكبر -رغم- أنها اجتهدت في إخفاء الأمر..

قلت بتوسل استعطفه:

- تقوم تضربها في بطنها ؟!..عايز تموت أبنك؟!

صاح في هياج:

- مش ابني!

 يا خبر أسود !..

- بتقول ايه يا بابا؟!مش ابنك ازاي ؟!

صرخ أبي في وجهي في سخط و هو يدفعني بيده:

- انتي افتكرتي أيه يا حمارة انتي كمان ؟!

 صاحت أمي و هي ترتجف من الخوف و الغل:

- منك لله يا بعيد أنت و أمك! .. أنت السبب

- ابوكي عايزيني أنزّل الحمل علشان طلعت حامل في بنت!

هكذا إذن!

في ذلك الوقت كان كل من في البيت تقريباً يدقون باب شقتنا..ليعرفوا ما الخبر!

فتحت أحدى شقيقاتي الباب و دخل اعمامي و زوجاتهم..

سأل عمي"رشيد" بجزع :

 - في أيه يا "محمد"؟!..وحد الله يا أخي!

- مفيش حاجه يا عم!

قالها و غادر البيت صافقاً الباب بقوة كاد تخلع المفصلات!

بينما دخلت النساء لحجرة أمي..يسألنها ما الخطب؟!

قالت أمي و هي تبكي بانهيار..

- الدكتوره قالت 80%بنت..أمه قالت لازم تنزلها..مش ناقصين علل!

علل؟!

جدتي قالت ذلك؟!..تذكرت جلستها الهادئة في الدور الأسفل..

تسبح على مسبحتها السوداء اللامعة بهدوء و وقار -كأنها- لم تحرض على قتل أختي و هي ما تزال جنيناً في بطن أمي!

احتضنت أمي..احتويت جسدها المرتجف بين ذراعيي..بينما ربتت العديد من الأيادي على ظهرها و كتفها..

و هي تبكي و تتسائل بمرارة عما يجب أن تفعل..و سلفاتها يوسينها بكلمات لطيفة

كانت "الزهرة" تنظر لوجهي صامتة..

انتظرت أن تسأل -كالعادة- هل مسلم يعمل كذا ؟!و حمدت الله على أنها لم تفعل!

قالت "الزهرة" لأمي في حسم بعدما انصرفت بقية زوجات أعمامي:

- الطفل يموت حرام!

أضفت أنا:

- و خطر عليكي كمان!

- أعمل أيه ؟! أهو كان هيقتلني علشان رفضت!

قالت امي و هي تنظر لها بحيرة و تساؤل يائس..قالت "الزهرة":

- أنا عندي فكرة!

***

رحلت أمي إلي بيت أهلها!و هكذا لم يستطع أبي اجهاض الحمل..كانت فكرة"الزهرة"..لهذا عاقبتها جدتي بالقيام بأعمال أمي في المنزل..و كانت وحدها تجيد حلب الأبقار و تنظيف الزريبة..

لم تعترض "الزهرة"..قبلت تكليف جدتي بابتسامة هادئة..حتى أنها رفضت حين عرضت مساعدتها..

قالت بطيبة:

- أنت ذاكر..أنا كله تمام !

مرت الشهور الأربعة الثقيلة بفضل الله و من بعده بفضل فكرة "الزهرة" البسيطة..حتى وضعت أمي أخي"جلال"..أسمته أمي على إسم أخو "الزهرة"لتسعدها.. 

أجل كان صبياً!

..عرفت أمي ذلك في متابعة الشهر السادس..أخبرت أبي على الهاتف فلم يصدقها..و حلف عليها بالطلاق ثلاثاً إن هي انجبت بنتاً..ثم جاء الفرج من عند الله!

بعدها ساد الفرح في البيت بقدوم ولي العهد!..و لست أدرى لما كل هذا التلهف على إنجاب صبي؟!..

كأن السماء ستمطر ذهباً يوم ولادته الميمون!

المهم أن أكثرهم سعادة كان أبي.. الذي أحب "الزهرة" لدرجة أنه صار يبتسم لها في مودة حين يراها -و هو- الغضوب العبوس!

صار كل من في البيت يحب "الزهرة"..حتى الماعز و الأبقار؟!

لكن جدتي ازدادت لها بُغضاً!

و بينما كنت أجلس مع "الزهرة" في حجرتها و هي تسرح شعر"عبير"..قالت البنت الصغيرة في تردد:

- عايزه أقولك حاجه!

قالت "الزهرة" مشجعة :

- قولي حبيبي!

صمتت البنت هنيهة كأنما تفكر ..ثم قالت بصوت لا يكاد يُسمع:

- أصلك مره قولتي لي ما تقوليش كلام الكبار!

ازدادت عيني"الزهرة" ضيقاً و زمت شفتيها في جد..

قالت ببطء:

- إذا كلام سيئ لا تقول!

كانت"عبير" قد اخبرت"الزهرة"مرة أن أمها -أم عبير- تكرهها.. فنبهت عليها هي و "سندس" ألا تنقلا الكلام الذي تسمعانه في أي مجلس..

- حرام حبيبي لا تقول كلام.. الناس يزعل من بعض!

قالت"عبير"مدافعة عن نفسها:

- هاقول كلام حلو..

أومئت"الزهرة"برأسها موافقة فأخبرتها البنت..أن أمها تقول..أنها تحب"الزهرة" لأنه طيبة..و أنها نادمة على أنها ظلمتها!

..ربتت الزهرة على كتف البنت و قالت ببسمة طيبة:

- أنا أحب أمك أيضاً..

همست في أذن "عبير" و هي تضفر لها شعرها:

- أخبريها بذلك!

و عندما همت البنت بالانصراف سألتها الزهرة بحزن:

- هل وجدت "دومي"؟!..

سألتها باستغراب:

- حاجه ضايعه منك؟!

أخذت تمثل بيدها ..

- "دومي"..يلعب به بنات!..

دمية ؟!

كانت تفتقد دمية قماشية صنعتها أمها لها..و أهدتها لها بمناسبة ولادة أختها "أيجول"..و قالت لها أن "أيجول" من أحضرتها..فأسمتها "أيجول" على إسم أختها!

اتسعت عينا "عبير" بدهشة..سألت بأهتمام كبير:

- هي عروسه قماش ريحتها حلوه و شعرها أسود و ناعم زي شعرك؟!

- بوُ مامانىنج تشيتشي!

قالت"الزهرة"بلهفة إن هذا شعر أمي!

قالت "عبير"بشهقة منفعلة:

- "سندس" أخدتها!

يتبع 

العروس الصينية (الجزء الرابع)

-5-

قالت "الزهرة" لـ"عبير":

- قول لـ"سندس"هات دومتي.."الزهرة" يزعل كثير منك!

لم أتصور أن يكون هذا الطلب البسيط سبباً في كل الحوادث التي جرت لاحقاً..

انصرفت البنت لتنفيذ الأمر ..بينما قالت لي الزهرة بصوت خافت:

- اعتاز شيء منك "منال" قالت "الزهرة"و وجهها يتضرج بدماء الخجل..إنها تريد إختباراً للحمل..و قد اشتريت لها الاختبار في نفس اليوم..و شرحت لها طريقة استخدامه..

و في اليوم التالي أرتني "الزهرة" الإختبار..كان هناك شرطتين!

إنها حامل بالفعل!

لكنها لم تكن متأكدة لأن الخط الثاني مازال غير واضح..

احتضنتها بفرح و هنئتها..سألتها هل أخبرت عمي "عماد"..لم تخبره كانت مرتبكة و غير واثقة..

- اليوم قول له إن شاء الله! قالت بفرحة

ودّعتها و ذهبت إلى الجامعة 

إلى هنا كانت الأمور على ما يرام..

لكن حين عدت..

وجدتها في حجرتها تبكي في انهيار!

و عندما سألتها عن سبب كل هذا البكاء 

رفعت رأسها و نظرت إلي بعينين حمروان من كثرة البكاء 

"مومام ئانامنى كيدوردى!"

قالت بغضب:

- جده حرقت ماما!

لقد أحرقت جدتي "أيجول" دمية "الزهرة"!

الدمية القماشية التي صنعتها أمها بيديها..و خاطت لها فستاناً من أثوابها القديمة..الدمية التي كانت "الزهرة" تلاعب بها أختها الرضيعة و احتفظت بها أكثر من ثمانية عشر عاماً..و عطّرتها بأجمل العطور..و كانت تنظفها بفرشاة أسنان ناعمة بمنتهى الحب و الحرص كي لا يتمزق قماشها القديم..و بعد هذا كله!

أحرقتها جدتي لأنها ظنتها دمية فتيش!

كيف حدث هذا ؟!

بالأمس حين غادرتنا "عبير"..ذهبت لأم"سندس" و أخبرتها أن ابنتها سرقت دمية "الزهرة"..فما كان من الأم الغاضبة إلا أنها ضربت البنت و توعدتها بأن تحرقها بملعقة ساخنة على يدها التي سرقت بها..فلم تجد الصغيرة سبيلاً سوى أن تنكر السرقة -رغم- أن أمها وجدت الدمية المخبئة تحت السرير!

..هددتها أمها و ملعقة الساخنة في يدها تنوي إحراقها بها..فأقسمت الطفلة بدموعها أنها لم تسرق..و أن "الزهرة" أعطتها لها لتلعب بها..و عندما سألتها لما خبئتها تحت السرير..تمسكت بكذبتها و أصرت أن الزهرة هي التي قالت لها خبئيها تحت الفراش كي لا تمزقها جدتها!

بعدها أخذت الأم الغاضبة الدمية و جرت "سندس" من ذراعها حتى مجلس الجدة..و حكت لها ما قالته البنت..هددتها الجدة أنها ستحلق لها شعرها إن هي كذبت..فصممت على الكذبة التي ظنتها ستنجيها..

و هكذا بعدما اطمئنت جدتي لدليل إدانة "الزهرة" و أنها بلا ريب ساحرة..و قد صنعت تلك الدمية لتؤذي سلفتها و زوجها و أطفالهما الأبرياء..أرسلت تستدعيها..

أتهمتها بالسحر و أحرقت الدمية أمامها..لم تهتم الزهرة لشئ سوى حرق دمية أمها..هي - بالكاد - تفهم العربية..لهذا لم تكن تعلم عاقبة الفعل الشنيع الذي أتُهمت به ظلماً.. و لم تفهم اتهامات جدتي و صراخها الغاضب..

كان عمي أخبرها أن جدتي سيدة متدينة تكره الصور و التصوير..خاصة صُنع الدمى..حتى أن عمي "عماد" أشترى مرة ألعاباً لأطفال المنزل في أحد الأعياد فحطمت جدتي كل الدمى و تركت للصبيان المسدسات!..

ظنت أن غضب جدتي بسبب الدمية نفسها..

جلست أواسيها في مصيبتها و هي تردد..

- ماما مات مرتين!

عندما دخل عمي "عماد"..أمسك الزهرة من ذراعها و سحبها نحوه ظننتها جاء ليصالحها..لكنه صفعها بقوة جعلتها تسقط على الأرض!

"بتشتمي أمي و تسحري لأخويا و مراته يا كافره يا أخت الكافر؟!"صاح عمي و هو يركل جسد "الزهرة" النحيل..

- حرام عليك يا عمي!

سحبها من شعرها الذي تبعثر على وجهها و صفعها مرة أخرى..

- مش قولتلك ما تعمليش العرايس الملعونه دي تاني ؟!

صاحت " الزهرة" بألم:

- و الله..لا عملت شي!..

- سيبها يا عمي حرام عليك..ما عملتش حاجه و الله!..

قلت و أنا أحاول تخليص ذراعها من قبضته القوية.. دفعني للخلف

- "الزهرة"حامل!..صحت.. والله العظيم حامل!

تركها ترتمي على السرير باكية..بينما قلت أنا:

- ستي حرقت العروسه اللعبه بتاعتها و هي صغيره..هي معملتش حاجه و الله!

..انهار جالساً على السرير بجوار زوجته الباكية،و قد فهم ما جرى أخيراً..رفع خصلات شعرها السوداء عن وجهها..كانت أصابعه القاسية مرسومة على وجهها أصبعاً أصبع!

أمسك كفها الرقيقة و همس بندم:

- أنا آسف يا "سو".. سامحيني 

سحبت كفها و أشاحت بوجهها عنه..و ظلت تبكي بصمت!

قام متثاقلاً..و قد انحنى رأسه خجلاً و ندماً على تسرعه..

مشى نحو الباب..و اختلس نظرة إلى"الزهرة" قبل أن يخرج و يغلق الباب خلفه بهدوء

..رفعت "الزهرة" رأسها..نظرت نحو الباب المغلق و انخرطت في بكاء حار..

احتضنتها مواسية..و قد طفرت من عيني الدموع

كل هذا بسبب جدتي.. لا سامحها الله!

"ألم شديد!"

 وضعت يدها على قلبها..قالت و هي تشهق بالبكاء

 - كنت رايد هو يفرح ..لكن هو كسر هذا!.

قالت أن قلبها كُسر..و ليتنا صدقناها!

****

من تلك اللحظة تغير كل شيء..كل من في البيت الكبير انقلب على "الزهرة"..و عم البيت جو مشئوم.. البنات الصغيرات صرن متأكدات أن "الزهرة"قلبت جنين أمي ولداً بعدما كان بنتاً!

الكل يتحدث عن الدمية المسحورة.. حتى أن البنات الأكبر سناً قلن أنهن سمعن صرخة مخيفة حين أحرقتها جدتي!

أنا نفسي بدأت أصدق!

 أمرت جدتي بحبسها في حجرتها..و أوصت الجميع ألا يعطيها أحد أي طعام..لهذا صرت أهّرب لها بعض الطعام من المطبخ خلسة دون أن يلاحظ أحد..

 رأتني أمي ذات مرة و كادت أن تضربني 

- بتأكليها يا "منال"؟!..دي ساحره..يعني موتها حلال!

قالت أمي بدهشة و لوم..

- حرام عليكي يا ماما!.. انتي نسيتي إن هي اللي دافعت عنك لما بابا كان بيضربك ؟! دا لولاها كان زمان أخويا جلال ميت من زمن!.. 

لكنها لم تبدل رأيها ؟!

قالت بعناد:

- مش يمكن هي اللي قلبت أبوكي عليا من الأول بسحرها؟!.. و بعدين رجعت تساعدني علشان أفتكرها طيبه؟!

يا سلام!

كأنه قبل أن تأت "الزهرة" كان يقّبل يديها و قدميها كل يوم!

ما أسخف عقل النساء!

في تلك الأثناء سألت "سندس" عن قصة الدمية..و اعترفت لي أنها أخذتها من صندوق خشبي صغير تحتفظ به "الزهرة" في حجرتها..كانت تريد أن تلعب بها ثم تعيدها دون أن تعلم الأخيرة أنها أخذته..لكن "الزهرة" علمت و كان ما كان!

طلبت إليّ ألا أخبر أمها..و وعدتها أنني لن أفعل.. و كنت أنوي الصمت فعلاً لكنني لم استطيع 

 وجدت "رباب" أمها في المساء و هي تتفرج على ذلك المسلسل الهندي البائخ الذي تحبه في الصالة الواسعة مع جدتي..جدتي تسبح على مسبحتها و تتمتم بأورادها المسائية..تستغفر الله من مشاهدة التلفزيون..و هي تنظر لـ"رباب" نظرة جانبية قاتلة..

كم تدهشني تلك المرأة!

..جلست أحدق في التلفزيون و أنا أفكر في "الزهرة" التي تتضور جوعاً في حجرتها..

و كيف سأحدث جدتي في الموضوع دون أن أخلف عهدي للطفلة؟!..

عندما قالت "رباب" بلهجة ذات مغزى:

- شوفتي "ساكالولو" مرات عمك؟!..عملت لي عمل أنا و جوزي!

-علشان كده عاملين نتخانق!..صحيح ياما تحت السواهي دواهي!

كأنه هو الآخر ملاكاً من ملائكة الرحمن!

رب أخرجني من هذه القرية الظالم أهلها..

قلت ببطء و صوت خفيض :

- مش يمكن تكون "سندس" هي اللي.....

صحت مستنكرة:

- هي اللي أيه؟!أنا بنتي مبتكدبش!

و قبل أن أنطق نادت على البنت بصوت يشبه الرعد :

- "سنداااس"!

جاء البنت و هي تتطلع لنا في قلق..قبل أن تنقض عليها أمها رافعة الشبشب في الهواء:

- مين يا بت اللي جاب العروسه المسخوطه و حطها تحت السرير ؟!

- انطقي يا بت الكلب!..فين الخرطوم ؟!

امسكت البنت من يدها و ابعدتها عن أمها التي كانت تصيح بغضب:

- قولي الحقيقة و إلا هقطّع لحمك بالخرطوم..

- اخدتي العروسه و لا مرات عمك ادتهالك؟!  

- قولي الحقيقة و محدش هيضربك

قلت بنبرة هادئة للبنت التي اختبئت ورائي في خوف..بينما صاحت أمها و هي تحاول إبعادي من طريقها:

- أوعي يا "منال"!

صرخت البنت برعب:

- أخدتها!

- و الله أنا اللي اخدتها!

قالت جدتي بهدوء :

- حتى لو.. تلاقيها عمله عمل بالمحبه لجوزها!

 اخبرتها أنا أن الدمية التي أحرقتها لا علاقة لها بالأعمال..كانت دمية أهدتها لها أمها و هي صغيرة..و تحبها كثيراً لأنها تذكرها بها..كنت أتحدث و أنا أراقب ردة فعلها..لم يرف لها جفن أو تختلج عضلة في وجهها القاسي! 

لكن الأمر الجيد أن الجميع قد عرفوا أن "الزهرة" بريئة..و اعتذرت لها "رباب"..و أمي

بينما لم تعتذر جدتي أو تجد سبباً للندم فيما فعلت!

أين عمي عماد من كل هذا ؟!

هو الآخر كان يدخل و يخرج -دون- أن يسأل عن "الزهرة" التي بدأت تذوي من الهم و الكمد - حتى- لم يلاحظ أنها حبيسة حجرتها و لا تأكل مع نساء البيت!

عندما عاتبته قال ضاحكاً:

- يعني اللي استحملت كل ده مش هتعرف تستحمل حماتها؟!..دي ستك حتى طيبه و قلبها ابيض!

- ستي هي مستحملاها.. حتى ما بتردش عليها!..بس أنتا ضربتها ياعمي!

..قال باستهزاء:

- دول كانوا قلمين في ساعة غضب!

- و هوا ده ضرب؟! مشفتيش أبوكي بيضرب أمك أزاي؟!

و اعمامك؟!..و لا جدك الله يرحمه؟!..دا كان بيضرب ستك لحد ماتموت في أيده!

يتبع 

العروس الصينية (الجزء الخامس)

27/6/2025

-6-

الزهرة" مريضة!..بات هذا واضحاً لكل ذي عينين..لكن زوجها لم يلاحظ شحوب وجهها و تنفسها العسير..جدتي كذلك لم تصدق!

قلت لهما بوضوح أنها تشكو من ألم شديد في قلبها..و أن حالها تغير منذ ضربها عمي..أخبرتهما ما قالته عن أن قلبها كُسر!

لكن جدتي هونت الأمر على عمي..قالت أن زوجته تدلل..

- خليك راجل..و متصعبش عليك!

فالنساء يتلفهن الدلال -برأيها- تركتهما بعدما شعرت أنني أديت واجبي..و هما حرّين !

ليت أمر اقتصر على ذلك..لقد صارت جدتي تعاير زوجة عمي بمرضها!

كلما رأتها أمامها ترميها بكلمة جارحة..

- قال أيه ؟ قلبها أنكسر..أصله صيني!

تقول جدتي و هي تضحك باستهزاء..

- عيني عليك يا بني!.. البضاعه طلعت مغشوشه!

بعد اسبوع من المفاوضات بين عمي و جدتي علمت أنهما سيصطحبان "الزهرة" إلى طبيب القلب.. الحمدالله أخيراً!

حجز عمي موعد عند طبيب قلب كبير..فجاء دوره في الكشف بعد يومين..لا بأس..لقد انتظرت طويلاً..لن يضرها الإنتظار ليومين أخريين!

في يوم الكشف عدت من الكلية بعد المغرب صليت..و سألت أمي عنهم هل عادوا من عند الطبيب ؟

- عمك و ستك؟..لسه ماجوش!

قلت سأنام حتى يعود..

- ماما صحيني لما يرجعوا .. علشان اطمن على"الزهره"

سألت أمي باستغراب و ليه لما يرجعوا؟!.."الزهره" فوق في شقتها!

- فوق؟!

لم أفهم قلت بصدمة:

- رجعت لوحدها ؟!

أكدت أمي أنها لم تذهب من الأصل..عمي أخذ جدتي ليكشف عليها عند طبيب القلب..

ادعت أن قلبها يؤلمها..و ظلت تصيح و هي تضع كلتا يديها على صدرها..

سألت بدهشة بلغت منتهاها:

- طيب و "زهره"؟!ماخدوشها معاهم ليه؟!

قالت أمي أن جدتي طلبت أن يأخذ واحدة منهما..حتى لا يتشوش و يرتبك ..فاختار أمه و ذهب بها للطبيب..و ترك "الزهرة" لوقت لاحق على أن يكون قريباً!

***

"الدكتور قال قلبك زي الفل يا حاجه"قالت جدتي و هي تجلس في الصالة مع كناتها الأربع و بعض من أطفالهن..

قلت بغيظ :

 - و ما دام قلبك زي الفل يا حاجه ؟!..رحتي تكشفي ليه بدل اللي قلبها وجعها؟!

 - وجع في قلبك و قلبها إن شاء الله !..مالها ؟!..ماهي زي القردة أهو..ما بيها حاجه !

تمايلت بجسدها كأنها ترقص و هي تقول بلهجة تمثيلية مصطنعة:

- الست الكبيره اللي عندها خمسه و خمسين سنه..قلبها زي الفل..و بنت امبارح قلبها موجوع؟! خيبه على الشباب من بدري!

و لم تذهب "الزهرة" لأي مكان بعدها!..حتى متابعة الحمل العادية كانت تذهب مع أمي للوحدة الصحية القريبة..مع ملاحظات جدتي الدائمة..بأن متابعة الحمل ترف زائد و ليس لها لزوم!

مرت الشهور لا أدري كيف..و عندما اقترب موعد الولادة..

استدعتني "الزهرة" و عندما ذهبت إليها وجدت وجهها قد إزداد تورداً و جمالاً على نحو مفاجئ..قالت أمي مرة أن الحمل بصبي يجعل المرأة أجمل..فهل "زهرة"حبلى بصبي؟!

لم تكن قد علمت نوع الجنين لأنه لا يوجد سونار في وحدتنا الريفية..هي أيضاً لم تكن تريد معرفة نوع الجنين خوفاً من جدتي..ستجعل أيامها سوداء لو اتضح أن جنينها بنتاً!

عندما اقتربت منها وجدت عيونها منتفخة من البكاء..لكنها بدت فاتنة برغم كل شئ!

قالت"الزهرة":

- حلمت بماما!

-ماما قال.. "جلال"مسلم و عايش في عراق!

شعرت بقشعريرة تغزو جسدي..و تندت عيناي بالدموع..تمنيت من أعماق قلبي أن يكون هذا صحيحاً..فأنا أعرف كم تحب أخيها و تدعو له في كل صلاة أن يكون مسلماً

قالت "الزهرة"كأنها تقر واقع..و هي تلمس بطنها بأناملها الرقيقة 

- ماما كان يحمل بنت مثل قمر!..قال هي "أيشه"!

"عائشة"!

- خد بالك منه "منال" !..راح اطمن على "أيشه" معك أنت!

- لا تسيب هو ينام زعلان !..

كنت الآن أبكي بلا سبب..قلت بضحك و الدموع تغرق وجهي:

- ليه و إنتِ ناوي تدبسيني و تخلعي ؟!

انهمرت دموعها فجأة..قالت بأسى خلع قلبي:

- كنت رايد احضن "أيشه" .. و شم ريحته حلوه!

..سألتها بجزع و دموعي تستحيل بحراً :

- ليه بقولي كده؟!.. محدش هيربيها غيرك أنتي!

- خلص "منال".."زهره" موت..أنا حاس!

احتضنتها و أخذت أربت على ظهرها و اطمئنها أنها ستعيش..

- لا تكوني متشائمة يا فتاة!

في تلك الليلة أخذت تحكي لي عن حياتها في تركستان..و كيف هربت بدينها من الصينين الهان..وصفت لي مكان سكنها في حي الحسين..و كيف تعرفت على عمي"عماد"..حكت كثيراً عن كل شيء..بعض الأشياء كنت أعرفها من قبل..و بعضها الآخر كنت أسمعه لأول مرة..هل حقاً يشعر الإنسان بدنو أجله؟!..ألمني قلبي في تلك الليلة..دعوت الله أن ينجيها..

قلبي يعتصر من أجل فراقها المحتمل..فكيف إذا صار الفراق؟!

في يوم الولادة استيقظت مكتئبة..لم أذهب للكلية في ذلك اليوم..و في نحو العاشرة صباحاً فجاء المخاض "الزهرة"..ذهبت معها للمستشفى..قلت للأطباء أنها مريضة بالقلب و يجب أن تلد بعملية قيصرية..سأل الطبيب عمي عن الأشعة و رسم القلب..لا يوجد!

-أنا عارف إنك خايفه على أختك!

ابتسم الطبيب بتفهم..قال لي:

-لكن الولادة الطبيعية أفضل لها!

و من أدارك أنت يا أحمق!

صرخت و احتبس الصراخ داخلي!..

 في عنبر الولادة..جلست بجوارها اتمتم بالدعاء..لا اتذكر ما كنت أقول من فرط الخوف و الارتباك..

دخلت حجرة الولادة..صرخاتها تنبئ بولادة صعبة..بعد وقت طال خرجت الممرضة تهرول بالطفلة الميتة!

محاولات إنعاش قلبها كلها باءت بالفشل!

من هذه اللحظة صرت  أشعر بأن ما يجري حولي حلم أو كابوس!

 "الزهرة" عادت إلى عنبر الولادة.. طلبت أن ترى الطفلة الميتة..ضمتها لصدرها بحنان..همست في أذنها الصغيرة ببضع كلمات لم أستطع سماعها..و سالت من عينها دمعة ارتياح!

ثم بدأت تقرأ آيات من سورة فصلت 

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ *حتى قوله تعالى  وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ..

بعدها ماتت!

من شدة الصدمة لم أستطع البكاء!..كان عمي "عماد" يبكي و يضرب الأرض بقدميه كالأطفال..و عندما حُمل النعش بكى جميع من في البيت حتى جدتي لمحتها تمسح دموع وهمية غير موجودة!

..و أنا بينهم كالصنم ذاهلة..لا ابكي..و لا أتكلم!

اتذكر جلستنا الأخيرة..و الدفتر الذي كتبت فيه وصفات العطور التي أوصتني أن أعطيه لعمي كي لا يتوقف عمله بموتها!

تذكرتها و هي تضم الطفلة و توسوس لها بصوت خفيض..و النور يغمر وجهها الغارق في العرق البارد!

بالتأكيد كانت سعيدة لمفارقة هذه الحياة الظالمة..

تراقصت على شفتي ابتسامة مترددة..

كدت اضحك بصوت عالٍ!

لقد نجاها الله حقاً!

بدأ جسدي يهتز من الضحك المكتوم..ظنت أمي أنني أبكي..فأسرعت تحتضني!

اتركيني..

لقد فهمت كل شيء..يا مزيفين!..هل حزنتم على "الزهرة" يا كذابين ؟!

لم يعقب أحد على كلماتي..هل قلت شئ أم أنني توهمت ذلك؟!

ضحكت مجدداً على دفترها المكتوب باللغة الإيجورية..التي لا يعرفها عمي..لن يستطيع أن يقرأ منه حرف..أحسن!

و فطنت في الحال للخسارة التي لم يحسب لها حساب..

بعدما ظن أن زوجته أسيرة لديها ..ليس بوسعها الهرب و هي بلا أهل أو بلد..هربت لأعلى!

و رغم أنه خسر عمله في صناعة العطور و شهرته في القرية و القرى المجاورة..كانت خسارته في فقد"الزهرة" أكبر خساراته!

كلنا خسرنها..و لم أدرك وقتها لماذا كل هذه الخسارة الفادحة؟!

كل يوم أتطلع إلى السماء..و اطلب من الله أن ينتقم لتلك الفتاة البريئة..

ماتت غريبة مخذولة و يتيمة..

عمي سيتزوج أدعو الله ألا يرى خيراً من بعد "الزهرة"..جدتي تشجعه على الزواج..تقول له أنها ستختار له عروسه بعناية..و هو يصمت..تسب "الزهرة" و تقول أنها كانت نحيفة و قبيحة..

يترك المجلس و يعود لشقته..يبكي بين ملابسها المنثورة على السرير..

و لا تؤثر بي دموعه!

أعطيته الدفتر..قال بصوت مهزوم :

- أعمل بيه أيه؟!

قال أن "الزهرة"حفظت سبع أجزاء من القرآن و هي لا تقرأ العربية..

أشفقت عليه قليلاً..لكن لا !

لقد قتلها ببروده و جمود مشاعره..

أنا أكرهه من كل قلبي!

اعطاني ثيابها لأوزعها على نساء البيت..وزعتها و لم أقو على الاحتفاظ بشئ منها.. 

كلما وجدت فساتينها تهفو على حبل الغسيل..ينخلع فؤادي من مكانه!

مرت الأيام و أنا أنتظر الإنتقام العادل..لا شيء يحدث!

جدتي كما هي متسلطة ليس في قلبها رحمة!

و كناتها كما هن يضحكن لها..و يلوكون سيرتها في مجالسهن الخاصة!

ابي و أعمامي كما هم قساة..

يسخرون من عمي "عماد" لأنه حزين لفراق زوجته..

و أنا أكاد أجن!

أين العدالة فيما صار؟! 

ثم فطنت أخيراً أن أقسى عقوبة يعقبها الله لإنسان أن يبتليه بقلب من صخر كقلب جدتي..

و بدأت أنظر للصورة الكاملة و أواسي نفسي..بأن وراء هذه الدنيا حساب غفل عنه الناس..و يومها تعود الحقوق كاملة غير منقوصة 

تمت

العروس الصينية (الجزء السادس)

قصص تليجرام