قصص تليجرام

جيرانى وحوش(كاملة)


















و بينما كنت أجتر أفكارى السوداء..فجأة ألتقت عينى بعيني "هدى"الميتتين!..و أرتجف قلبى على مرأى ابتسامتها المخيفة،التى كشفت عن أسنانها الصفراء المدببة!..و أصابنى المزيد من الرعب حين أكتشفت أنها لم تكن تنظر إليّ!..تطلعت إلى الوراء بحذر لأعرف إلما تنظر بهذا التركيز!..فوجدتها تنظر ل"بسمة " طفلتى ذات الأربع سنوات!..صرخت"بسمة"وجرت مرتعبة،و"هدى تلاحقها فى الصالة..تريد الإمساك بها!..عدوت نحو"هدى"،و أمسكتها من شعرها ألأزرق المنكوش..فغرست أظافرها فى يدى..فى حين زحفت"صباح"نحو غرفة الولدين،على يديها و ركبتيها..فوثبت أسابقها إلى داخل الغرفة..التى كانت خالية لحسن الحظ..عندما تحركت ملاءة السرير..نظرت تحته فوجدت"أنس"و"ياسين"مربوطين بالحبال!..سحبت"ياسين"




انتزعنى رنين المنبه من لجة نومى المضطرب..بينما تقلب"هاشم"فى الفراش متأففاً..قبل أن يضع الوسادة فوق رأسه..محاولاً مواصلة النوم..لابد أنه يعد الساعات المتبقية على عودته لشرم الشيخ،و لا ألومه..فقد ايقظه كابوسى قبل الميعاد!.. الساعة مازالت الواحدة و النصف و قد تبقى القليل من الوقت حتى موعد السحور..انتزعت نفسى من السرير انتزاعاً..لأذهب إلى المطبخ من أجل تحضير السحور..و قبل أن أدخل المطبخ ..سمعت صوت خرير الماء في الحمام المضئ..

- هل هذه أنت يا"بسمة"؟

مضت دقيقة قبل أن ترد،و هى تفتح الباب:

- أجل يا أمى..كم الساعة الآن؟

- مازال الوقت مبكراً..سأعد طعام السحور بينما توقظى أخويك .

أومات برأسها في موافقة صامتة..و ذهبت لتوقظ"ياسين"و"أنس"بينما أتأمل أنا عودها الناحل..و أتسائل إن كان من المستحسن أن أخذها لطبيب..ربما عرف سبب نحافتها الشديدة..فلم يكن وزنها مناسب لفتاة مراهقة!

"اصحى يا نايم ..اصحى يا نايم..وحد الرزاق" أخترق صوت عم"صبحى"،سكون الليل..مع صوت طبلته..

- اصحى يا أستاذ"علاء".

نظرت من شباك المطبخ على الشارع، الذى زينه أولاد الحى بالزينات الملونة الجميلة،التى مر من تحتها عم"صبحى"..بقامته التى ازدادت انحناءا عن العام الماضى..و تذكرت ذلك اليوم الذي جاء فيه  جيراننا بالطابق العلوى

*************

"لقد جاء المستأجرين الجدد"هتف"ياسين" و هو يقفز على قدميه مقلداً الأرنب

نظرت ناحية غرفة"أنس"النائم،و سألت"ياسين":

- أين اختك؟

- فى غرفتها تتحدث فى الهاتف.

تنهدت فى ضيق..فقد كنت مضطرة للنزول لمقابلة السكان الجدد،و أخشى أن يستيقظ"أنس"..و لا يجدنى فيملأ الدنيا صراخاً!

ترددت قليلاً ثم حسمت أمرى

- حسناً سأذهب لأقابلهم..أخبر"بسمة" أن تعتنى ب"أنس"إذا أستيقظ قبل عودتى.

فى الأسفل توقفت سيارة نقل زرقاء اللون..يقف أمامها رجل ضخم البنيان..معه امرأتان أحداهما أكبر منه سناً..لكنها ترتدى عباءة غالية الثمن و تضع بعض الحمرة على وجنتيها الذابلتين!,،و ثانية كانت حاملاً فى شهورها الأخيرة..و قد تعّلق بطرفى عباءتها الرثة طفلتين ناحلتان..أحداهما بعمر السادسة  - تقريباً - بعمر"ياسين"أبنى ،و الثانية بعمر الرابعة..و هى أكبر من"أنس"بعام واحد

- أهلاً و سهلاً..حمداً لله على السلامة

"- الله يسلمك"رد الرجل بصوت عميق يناسب ضخامة تكوينه،وهو يصافح يدى..قال يعرّف نفسه

- أدعى"مدحت شعبان".

صافحت المرأة الأكبر سناً ..عندما وضع كفه العملاقة على كتفها،فى ود..و هو يضيف:

- زوجتى الأولى"هدى".

- آه..أهلاً و سهلاً يا مدام!..غمغمت مصدومة..فقد كانت"زوجته" أكبر منه بكثير..فى عمر أمه تقريباً!

مدت يدى لأصافح زوجته الثانية التى كانت شابة ،و جميلة..لكنها بدت مرتبكة للغاية..حتى أنها لم تمد يدها إلا بعد أن سحبت يدى فى إحراج...نظر إليها زوجها شذراّ،قبل أن يقول بإحتقار:

 - "صباح"..الثانية!

لهجته العدائية أصابتنى بمزيد من الدهشة..و بدأت أنحاز لجانب تلك الزوجة"المضطهدة"..- غلبانة - بل  و تبدو على شئ من البلاهة.فقد كانت تختلس النظر لزوجها،و ضرتها من طرف خفى كأنها طفلة تخشى العقاب إن هى أسأت التصرف!..

- ما أسمك يا قمر؟

حاولت مداعبة الطفلة الأصغر سناً،و سألتها عن أسمها...لكنها  أختبئت فى ثوب أمها فى رعب..و لم يتطوع أحد بالرد على سؤالى! ..عندما لاحظت متاعهم القليل الذى لم يكن يستحق إستجار سيارة نقل..سألت فى دهشة:

- أهذا كل شئ؟!

ردت"صباح" بسرعة:

- سينتقل"مدحت"باقى الأغراض غداً !

نظر لها زوجها و عيناه تقدحان بالشرر..ربما لو لم أكن واقفة بينهم..لصفعها على وجهها بظهر يده!..

سألنى بشئ من الغلظة هو ينظر لى مستخفاً:

- كم يبلغ إيجار الشهر؟

أجبت فى غيظ:

- سبعمائة جنيه..و شهرين تأمين كالمعتاد..نورتم المكان..و ارجو أن تعجبكم الشقة.

قلتها و أنا أتمنى من  اعماق قلبي لو كنت طردتهم..وقد وقف ذلك الثور الأدمى يتفرس في بنظرته المرعبة ! ..ليتك كنت هنا يا"هاشم"!..فلو كنت هنا لما جرؤ ذاك الوغد أن ينظر لى شذرا بتلك الطريقة!

نقدنى مبلغ التأمين،الذى عددته على مهل..كان ناقصاً

  - هذه تسعمائة فقط ..أين الباقى؟!

- سأدفع لك الباقى مع إيجار الشهر.


يتبع..

على مائدة السحور..أخذ"أنس"ياكل كحوت أبيض صغير..استعداداً لصيام الساعتين اللتين يصومهما من ساعة استيقاظه حتى الظهر..فلم أتمالك نفسي من الابتسام!

فى حين كان"ياسين" يقلّب الطعام بالشوكة..كأنه يتأكد من جودة المنتج قبل المجازفة بأكله!..و"بسمة"تضع لقمة فى فمها،كل ربع ساعة..لتمضغها ببطء شديد..هكذا تشبع قبل أن تأكل - ككل يوم -..نظف"هاشم"حلقه ليقول:

- لقد تركتك على راحتك كل هذه المدة..لكن ألا تري معى أننا يجب أن نتجاوز ما حدث فى يوما ما؟!

لم أرد..فقال فى جدية:

- يجب أن تلتفتى للمصلحة..و لا يوجد شخص عاقل يرضى أن تظل شقة كهذه مغلقة لمدة عامين..من أجل أنك تخافين الغرباء!

اتسعت عيناى في صدمة..كأنه لم يعرف بما حدث منذ عامين..عندما قررت إغلاق تلك الشقة!

- أرجوك أن تغلق باب المناقشة فى هذا الموضوع.

رد بسؤال مستنكر:

- و لماذا؟!..

*************

وقف ذلك ال"مدحت"..فى  فرجة الباب نصف المفتوح .يسألنى فى غلظة:

- ماذا تريدين؟!

أريد العشاء..ألا يوجد عندكم طبق طبيخ بائت!قلتها فى نفسى قبل أن أقول محتدة:

- هذا الباب الذى تقف وراءه ..باب الشقة التى أملكها لو لم تكن تلاحظ!..أين إيجار الشهر يا محترم؟!

- لقد دفعت لك جزءاً منه!

- عن أى جزء تتحدث؟!..عن باقى التأمين الذى لم تدفعه منذ جائتم من ستة أشهر؟!

صمت لدقيقة ..أتاحت لى أن ألاحظ حالة الفوضى التى سادت الشقة..الأبواب المفتحة..الغبار و الأوساخ و الملابس المتناثرة فى كل مكان!..كيف تعيش أمرأتان فى هذه الشقة الشبية بالأسطبل؟!

- سأدفع لك الشهر القادم أجرة شهرين!

صحت فى غل:

- لن يكون هناك شهر قادم!..إذا سمحت أبحث لك عن سكن أخر.. لقد أكتفيت!..فى هذا البيت أثنتاعشر شقة..إيجارها كلها يصلنى حتى باب شقتى أول كل شهر..دون مطالبة أو عناء..بينما يجف ريقى معك طوال الشهر..فلا تدفع  ألا حين يتراكم عليك شهرين أو ثلاثة!

ترك مكانه عند الباب..فترك لى مجال أوسع لتفحص مدى ما وصلت إليه الشقة من قذارة..سيستغرق تنظيف كل هذه الفوضى الكثير من الوقت!

عاد بعد ربع ساعة يقلب كفيه..و أنا التى ظننت أنه ذهب ليحضر- و لو حتى جزء - من الأجرة المتأخرة!

بعدها أخذ يحلف بأغلظ الأيمان أنه سيدفع فى أقرب فرصة..و لم أجد بد من الإنصراف و أنا أفكر فى طريقة للتخلص من هؤلاء السكان المقرفين!..عندما فطنت أن الطفلتين ليس لهما أثر منذ مدة!..قد لا أكون مبالغة لو قلت أننى لم أرهما أبداً!..إلا تلك المرة حين جاءوا ليسكنوا عنى!

******************* 

نظرت ل"هاشم"نظرة مستعطفة ..أنت تعرف لماذا.. فلا تدعى الغباء!..قلت متهربة:

- يمكننا التحدث غداً؟

صمت على مضض..فهو سيسافر فى الصباح..و لن يكون هناك - لحسن الحظ - فرصة للمناقشة!

حاول"أنس"فتح كيس الشيكولاتة..فسألته محاولة رسم أبتسامة على وجهى:

- هل ستأكل الشكولاتة على السحور؟..ستعطش كثيراً فى الغد!

أعطانى شيكولاتته فى إستسلام..شيكولاتة"رنا"يالها من مصادفة مريبة!

فإبنة الجيران الوسطى التى تكبر "أنس"بعام كان أسمها"رنا"!

و الكبرى التى دائما ما كنت أنسى أسمها..كان أسمها"حور"..

قال"أنس":

-لقد طلبت البنت منى أن آكل الشيكولاته التى اعطتها لى بعد الإفطار..لكننى نسيتها!

- البنت!.. أى  بنت؟ ألم أخبرك ألا تأخذ شيئاً من أحد؟

قال"أنس"محتجا:

- إنها بنتاً ظريفة!عمرها ست سنوات..كما أنها تسكن فوقنا!

ارتجفت يدى حتى إننى سكبت طبق الفول على المائدة دون قصد!

راقبت البقعة المتسعة بعين زائغة..لقد رأها"أنس"!..رأى"رنا"!..أم لعله رأى"حور"لقد كانت فى السادسة حين ماتت!


يتبع...

ما أن قفلت راجعة إلى شقتى بالطابق الأسفل..حتى أُغلق الباب..ثم عاد ليُفتح!..ألتفت لأرى ما هناك..ففوجئت ب"صباح"تندفع نحوى..كأنما قذفها أحدهم من الداخل!..بالكاد تفاديت الإصتدام بها..ثم أمسكت ذراعها قبل أن تسقط..صحت بها محذرة:

- على مهلك!

.و فى تلك اللحظة فطنت لأنها لا تكاد ترى أمامها!..و أنها قد صارت عمياء كالوطواط!..أصابنى منظرها الرث..بثيابها المتربة،و عينيها الشائهتين بمزيج من الرعب و الحيرة!

فحين جاءت مع زوجها و ضرتها، من ستة أشهر كانت سليمة العينين!..جميلة كزهرة يانعة!..فما الذى يجعل نظر أمرأة شابة فى سنها يتدهور على هذا النحو المروع..فى هذه المدة القصيرة؟!

- هل أنت بخير؟!

و لاحظت بطنها الضامر الملتصق بظهرها..لقد ولدت بالتأكيد - و لا عجب - فقد كانت فى شهرها الأخير، حين وصلت إلى منزلى..لكن تعجب كل العجب لأطفالها الهادئين كالملائكة!..فلم تكن أحداهما تجرى أو تلهو، وتصخب كباقى الأطفال!..وهب أنهما- الطفلتين -خائفتان من زوجة أبيهما الشمطاء.. لهذا تلزمان الهدوء..-و هذا مستحيل برأيي -فكيف يصمت الرضيع الذى لم يتجاوز عمره بضعة أشهر؟!..ألا يجوع..أو يرغب فى تغيير حفاضه؟!

نظرت"صباح"أمامها كما ينظر العميان..قبل أن تقول فى إستعطاف:

- أرجوك أسمحى لنا بالبقاء شهرأخر!..ليس لنا مكان نذهب إليه فى الوقت الحالى!

غلى يافوخى بالغضب..هكذا الأمر إذا!..كنت أكره الإبتزاز..خاصة الإبتزاز العاطفي..لكن كيف ترفض رجاء أمرأة ضعيفة عمياء..و لديها ثلاثة أطفال..أكبرهم طفلة فى السادسة..و أصغرهم رضيع!

أنحنت للأمام فجأة تبحث عن يدى لتقبّلها 

- بالله عليك..أقبّل يديك!

مددت إليها يدى لأساعدها على الوقوف ..و قلت مبدية بعض الضيق:

- لا بأس..من أجل خاطرك أنت ،و أطفالك فقط ..سأتركم حتى تدبروا مكاناً آخراً.

شكرتنى و أنصرفت تتحسس طريقها إلى شقتها..و هى ستند على الحائط..بعد أن رفضت مساعدتى ..فقط لو كنت أعرف ما فعلته لنهلت على رأسها ضرباً بالشبشب حتى يتمزق!

********************************

"لقد أعطتنى الشيكولاته ،عندما كانت في السوبر ماركت مع شقيقيها"أكمل"أنس"حديثه الذى كهرب الجو..لم أكن أعرف  هل فقدت عقلي أخيراً؟ً.. أم أن ما قاله"أنس"للتو حقيقي؟!

 تحرك خوف مبهم في احشائى..و أنا أفكر في سر "ظهورهم" المفاجئ ل"أنس"!..منذ عامان و أطيافهم تحرمنى النوم..فلماذا قرروا الآن الظهور لأولادى؟!

"أنت كذّاب"هتف "هاشم"فى غل..

سأل"أنس"بعينين متسعتين من الصدمة:

- ماذا؟!

أكمل"هاشم"فى إندفاع:

-أنت كاذب..و قليل الأدب!

و أضاف سائلاً فى سخط:

- من وصاك بأن تقول هذا الكلام الفارغ؟!..أيها..أيها الثعبان الصغير!أصبر حتى تشرق الشمس..سوف أؤدبك يا عديم التربية!

اختبئ الصغير في حضنى..و هو يبكى بصوت عالي..عندما حاول"هاشم"انتزعه منى..و هو يمسك ذراعه بقسوة ..قال فى غل:

- هل تبكى أيها الشقى؟!..لا يوجد فوقنا أحد سوى الحاج"محفوظ"..و هو ليس لديه اطفال صغار.

- أترك الولد يا"هاشم"..لقد ارعبته!

- ما الأمر يا أبى؟! سأل"ياسين"الذى ادهشه انفعال أبيه المبالغ فيه

..قبل أن يضيف:

- "أنس"لم يكذب..لقد اعطته"ريماس"حفيدة عم"محفوظ"قطعة الشيكولاته،حين كنا نشترى من السوبر ماركت!

نظر له"هاشم"متفاجئا..ثم قام لينام دون أن يكمل سحوره..ربّت على كتف"أنس"الباكى..و قد أرحنى أن من رأوهم لم يكونوا سوى"على"و"عبد الرحمن"و "ريماس"أبناء "يارة"بنت عم "محفوظ"!

- هيا أكمل طعامك يا "انوس"..قلت ل"أنس"و أنا اداعب شعره ملاطفة.. فقال متنهفا:

- لا أريد!..

- إن كنت شبعت..فأذهب لتغسل يديك و أسنانك،قبل أن تنام 

مد شفته السفلى و قال باكياً:

- مازلت جائعاً ..لكننى فقدت شهيتى!..ولن استطيع الصيام غدا!

كان منظره يثير الضحك و البكاء بهذا البوز المضحك..لكننى تحكمت في نفسى كى لا أضحك

  - لا تبك يا حبيبي..و أكمل طعامك.

ضممته ضمة قوية..و غزت الدموع عيناي..حين تذكرت أطفال جيراننا المساكين..و لمت نفسى للمرة المليون..على أننى فتحت بيتى لإيواء تلك الوحوش!

*******************************************

جلست"صباح"على أسفل درجة من درجات السلم الهابط إلى شقتى..و برغم الإضاءة الخافتة..ميزت حدود جسدها النحيل..و عرفتها من بؤس حالها..و التراب الذى غطاها- كأنما مسحوا بها الشارع تواً- و وجدتنى أهز رأسى فى أسف

- ما الذى يجلسك هكذا على السلم؟

صمتت طويلاً حتى ظننتها لن ترد..بعدها قالت بغم:

- نصيب!

جلست بجوارها على السلم.. قلت لها:

- لم أعرف متى أنجبت..لكن يبدو أن هذا حدث منذ مدة..أرزقت بصبى أم فتاة؟!

- كان ولداً.

سألتها بإبتسامة لأحثها على "الفضفضة":

- و ما أسم الأمير الصغير؟

صمتت كأنما تفكر قبل أن تقول بنفس ميتة:

- خالد!

أدهشتنى اللهجة التى تتكلم بها..فقد بدت كأنها تذكرت الأسم بعد جهد كبير!..و شعرت بالنفور منها..من أقترابى من مساحتها الشخصية إلى حد الجلوس هكذا ،و قد تلامس جسدانا..لكن أمور كهذه يضطر الأعمى للتغاضى عنها - لعجز بصره - و على النور المنبعث من داخل المنزل.. رأيت جرحاًغريباً على معصمها..كأنما كان أحدهم يحاول بتر يدها بسكين..!

سألتها بدهشة : 

- ما هذا الجرح؟!

رفعت كم ثوبها لأعلى لتكشف عن عدد من الجروح الغائرة فى لحم ذراعها..و قالت بمرارة:

- "مدحت" هو من فعل بى هذا!

أنفغر فمى ذهولاً من منظر ذراعها..فعلى ما يبدو أن زوجها- ذلك الوحش-كان ينوى تقطيع لحم ذراعها"كستليتا"

- و زوجته الأخرى ماذا فعلت حين فعل هذا؟!

- إنها هى من تحرضه!..و حين كان يقطع فى لحمى بالسكين كانت تضع يدها على فمى لتمنعنى من الصراخ!

- .........................!

كشفت عن حرق فى كتفها الأيسر من ناحية الظهر..و قالت:

- هو أيضا من تسبب فى ضياع بصرى..فقد كان يحقن الكلور و البوتاس،فى عينى بحقنة..بمعاونة ضرتى..و بأمرها أيضاً!

و أندفعت تحكى لى عن تعذيبهما لها..و أن زوجها ينفذ كل أوامر"هدى"زوجته الأولى- فهى من أشترت له السيارة النقل التى يعمل عليها..و أن زوجها ..تزوجها طمعاً بمالها..لكنها -"هدى"-لاتنجب..لهذا تركته يتزوج"صباح"

سألتها فى صدمة :

- و لماذا لم تأخذى أولادك..و تذهبى لأهلك؟!ما الذى يجعلك تتحملى كل هذا؟!

أجابت فى أسف:

- ليس الأمر كما تظنين..لقد حاولت..لكن أخوتى طردونى!..قالوا لى لم يعد لك مكان بيننا..فقد كنت هربت من البيت لأتزوج"مدحت"..و قد أوصى أبى ألا أدخل البيت بعد وفاته-هكذا قال أخوتى-فقد مات و هو غاضباً عليّ.

"- حتى لو لم يكن مكان لتذهبى إليه..يجب أن تتركى هؤلاء الوحوش!..خذى أطفالك و أهربى منهما!"هتفت فى غيظ من موقفها المتخاذل..

- يمكننى أن أساعدك لتبدأى حياتك بعيداً عنهما!..أنا أساساً أنوى طردهما من الشقة..

قلتها و أن أنوى تهريبها منهما..ثم أجعلها هى، و أطفالها يسكنوا فى ذات الشقة من دون إيجار.

عندما غمغمت فى تخاذل:

- لن ينفع أن أهرب مع الأولاد..بعد أن جعلنى "مدحت".."أعملهم".

سألتها بأبتسامة أمتزج فيها الغيظ بالدهشة:

- ماذا عملت لهم ؟!هل جعلك تقتليهم؟!

قلتها مازحة..لكننى ًصُدمت عندما ردت فى برود:

- شئ مثل هذا!


   يتبع

 

تفقدت"هاشم"النائم..و قمت بتغطيته..

"هل نام"أنس"؟"أرتج بدنى من المفاجأة حين سأل"هاشم" الذى  لم يكن نائماً،هذا السؤال..قلت فى لوم:

- أجل..نام باكياً!

لم يعلق على ما قلته..أردت أن أسأله لما فعل هذا ب"أنس"..فى النهاية اثرت الصمت..لكننى لم أستطع أن أصمت طويلاً

- هل جاء المستأجر الجديد عن طريق"أنور"أفندي أيضاً؟!

رد"هاشم"دون أن يقوم، أو يلتفت:

- حسبتك قد أغلقت باب الحديث،فى هذا الموضوع!..لا بأس أفعلى ما ترينه صواب..ما دمت تعتبرينى غير موجود!

شعرت بالحنق و الغيظ..و هل تظن نفسك موجوداً فى حياتى؟! أين كنت وقت جاءت الشرطة للقبض على "مدحت"و "صباح" و"هدى"قلتها فى نفسى ،فلم أكن أرغب في الجدال..بعد بضعة ساعات ستعود أنت إلى شرم الشيخ..و أعود وحدى..فلماذا تصر على أن تبتلينى بمصيبة قبل ذهابك؟!

- لقد اتصل"محمد"بى،حين كنت فى شرم.

- "محمد"من؟!

اعتدل جالساً فى الفراش..و أضاء الأباجورة

-"محمد"زوج أختك"هند".

- آه..أجل ماذا كان يريد؟

تأملنى دقيقة..قبل أن يسأل متعجباً:

- حقا ًلا تعرفى!..ألم تخبرك اختك؟!

- إنه يتهمنا-أنا و انت-بالتحايل..لكنه قالها بأكبر قدر ممكن من التهذيب!

- عن أى تحايل تتحدث؟! ..منذ وفاة أبى و أنا أرسل إليها نصيبها من إيجار البيت..حتى الشقة المغلقة،أخصم أجرتها من نصيبى كل شهر!

- أجل هذا صحيح..لكنه كان يتسأل فى شك لماذا لم تزد قيمة الإيجار منذ عامين؟!

- هكذا الأمر إذا!

أضاف"هاشم"بسرعة:

- لقد قال أنه سيقضي أجازة العيد فى مصر..و سوف يزورنا ليضع بعض النقط على الحروف!

- أى نقط و أى حروف!..و ما شأنه هو الآخر؟!..لقد أخبرت"هند"بالقصة كلها!

- ما شأنه هو الآخر؟!..تمام!..يبدو أن"هند"تعامل زوجها بطريقة "مختلفة" عن الطريقة التي تتبعينها معى!

ربما لأنه أخذها معه عندما سافر..و لم يتخذها فرصة ليعبث مع نساء أخريات مثلك!

قلت مغتاظة:

- ماذا تريد بالضبط يا "هاشم"؟ لماذا تضغط على اعصابى بتلك الطريقة؟! ..أنا لن أفتح تلك الشقة أبداً مهما حدث!..ليس بعد ما حدث فيها.

 سأل"هاشم"ساخطا:

- و ماذا حدث من أجل كل هذا؟!..الأمر لا يستدعي كل هذا الحذر !..لقد كانت حادثة"عادية"!

***************

وقفت بشرفة شقتى ..و قد جمعت اطفالى الثلاثة حولى..حتى  سمعت صوت سرينة سيارة الشرطة.. شعرت ببعض الأمان..فمنذ حكت لى"صباح" ..ماذا فعلته بأولادها..و أنا فى حالة رعب!

لم أتصور أن تفعل  أم ما فعلته "صباح"بثمرة قلبها!-هذا إن كان لديها قلب!- ثلاثة أطفال أبرياء كالملائكة..تقتلهم من أجل أنها لا تحتمل الحياة بدون زوجها"الجوكولو"!..فقد حكت لى..أن"هدى"ضرتها أردت أن تطردها ..هى و أولادها إلى الشارع.. و لما لم يكن لديها مكان تذهب إليها.. توسلت إليهما أن يتركها تعيش معهما..فما كان من السيدة مالكة "الجوكولو"إلا أن وافقت على بقاء"صباح"بشرط..أن تقتل أطفالها الثلاثة..فوافقت على قتلهم!..بعدها أحضرت "هدى"طبق الغسيل الكبير..و ملأته بالماء و قامت"صباح"بتغريقهم فيه..واحداً بعد واحد..بينما كان السيد"جوكولو"يصور المذبحة بكاميرا هاتفه المحمول..كى لا تبلغ"صباح"الشرطة عنهما فيما بعد..و قد توسلت إليّ ألا أبلغ عنهم..لكننى ما أن دخلت الشقة حتى أتصلت بالشرطة فوراً ..و قمت بالتبليغ..فتحت باب شقتى قبل أن يطرق الشرطى الباب..سأل بصوت حازم:

- أنت من تقدمت بالبلاغ؟.

هزت رأسى و أنا أقول برهبة:

- أجل يا حضرة الضابط..أنا مالكة العمارة،و أنا من أتصلت بكم..أنهم يسكونوا بالطابق الذى يعلو هذا مباشرة ..أول شقة على يمين السلم

- شكراً يا افندم أدخلى شقتك ..و نحن سنقوم باللازم..قالها و هو يصعد  درجات السلم جرياً..و العساكر يركضون خلفه.

و لم تكد تمضى بضع دقائق..و بينما كنت أدخل"ياسين"و "أنس"رأيت قوة الشرطة تهبط السلم..و هم يجّرون"هدى"و"صباح"عندما تدحرج"مدحت" على السلم..بعد أن ألقى بنفسه-يبدو أنه كان يحاول الهرب-عندما هبط إليه أربعة عساكر أنهالوا عليه ضرباً و ركلاً و هو يحاول أن يحمى وجهه بيديه

***************************************

"حادثة عادية!..هل تسمى تلك المجزرة  مجرد حادثة عادية؟!"صحت فى جنون..و قد بدأت الدموع تتساقط من عيني كالمطر..

- هل قتل ثلاثة أولاد صغار بهذة الطريقة البشعة..و وضعهم فى أكياس قمامة ..و رميهم لا أدرى أين ..أمراً عادياً بالنسبة لك؟!

 بهت"هاشم" من المفاجأة..قال بعد لحظة صمت:

- أنا لا أقصد..لم أعرف أن هذا الموضوع يضايقك على هذا النحو!

قام من السرير محاولاً تهدئتى..

- ما كل هذا البكاء ؟!..لقد مر عامين!..إنك لم تبك بهذا الشكل وقتها!

- و من أدارك أنت؟..أنت لم تكن موجوداً حتى!

- لا بأس..اهدئى و اشربى بعض الماء قبل أن يؤذن الفجر ..

ذهب ليحضر بعض الماء..فانطلق آذان الفجر

***************

احتضنت" أنس"و"ياسين"النائمين بذراعى التى ناما عليها هما الأثنين..و دموعى تجرى بصمت على وجهى..  ربّت على صدر"بسمة"الباكية لتهدئ و تتمكن من النوم..فقد كانت-بحكم أنها الأكبر-أحدى عشر عاما- تفهم كل ما حدث اليوم..و تعرف أن الشرطة قبضت على جيراننا الملاعين،لأنهم قتلوا أطفالهم..و حمدت الله أنها لم تعرف كل التفاصيل التى عرفتها عندما استدعونى بالقسم..

- ماما..لماذا قتلوا هؤلاء الأولاد؟!سألت"بسمة"دامعة العينين

- لأنهم وحوش..ليس فى قلوبهم رحمة.

- هل تبكى يا ماما ؟ 

قلت كاذبة :

- لا أبدا.ً.و لماذا أبكى؟..أنا متضايقة فقط من أجلك..أذهبى و أغسلى وجهك،و حوالى أن تنامى.

- لا أستطيع النوم..انا خائفة..

- لا تخافى..لقد قبض عليهم..و أنا هنا بجوارك..و لن أسمح لشئ أن يؤذك أنت أو اخويك.

- لماذا لا يعود بابا و يبقى معنا؟!لو عاد سأشعر بالإطمئنان .

تنهدت فى أسف..لماذا لا يعود فعلاً ؟..  ما الذى يبقيه هناك؟!

- عمله يضطره للبقاء بعيدا عنا  ..فهو مرشد سياحي لهذا يعمل فى شرم الشيخ.

سألت فى شك:

- ألا يوجد عمل بمجال السياحة إلا فى شرم الشيخ؟!

كان هذا رأيي أنا أيضا..لكننى لم أدرى ماذا اقول لها

- لا داعي لهذا الكلام..إننى معك فلا تخافى. 

- المشكلة أنك أيضا خائفة

- أبداً لست كذلك!

- لماذا لم تستطيعي النوم حتى الآن إذا ؟!

أدهشتني لهجتها، و الثقة التى تتحدث..و قد كانت محقة في كل حرف من كلامها.

- كل ما فى الأمر ..هو أننى أشعر بالحر!..كما أن صوت هذا الرضيع يجعلني لا أستطيع النوم.

سألت"بسمة"مندهشة:

-أى رضيع؟!..لا يوجد رضع في العمارة كلها!

اتسعت عيناى فى اندهاش..فبالفعل لم يكن ثمة رضيع في العمارة كلها.. إلا"خالد" إبن"صباح"و "مدحت"الميت..و برغم هذا  مازلت أسمع بكاء طفل!.

- ماذا تعننين؟!ألا تسمعين صوت الصريخ؟!إن صوته عال جدا!

     هزت رأسها نافية فى حيرة.. لكن البكاء لم يتوقف..و و قف شعر رأسى هلعاً!

..و صرت متأكدة أنه بكاء"خالد"فعلاً..بكاء مولود لم يتذوق حليب أمه.. و لو لمرة واحدة!..

ثم سمعت صوت الطفلتين!..كانتا تغنيان له تهويدة حزينة..جعلته يهدأ و ينام..و لم أستطع النوم فى تلك الليلة!

يتبع...

 

هدأت قليلاً بعد أن صليت الفجر..ذهبت لأنام فوجدت"هاشم"-الذى لم يصلي- ما زال مستيقظاً..لم أكن أدرى لماذا يصوم و هو لا يصلي!- فقد صام الأيام التى قضاها معنا - و إن كنت أرجح أنه لا يصوم فى شرم..وجدتها فرصة لأسأله السؤال المحشور فى حلقى منذ قمنا من على الطعام

-لماذا عنّفت"أنس" بتلك الطريقة..حين كنا نتسحر؟!

قال بعد أن تأملني لحظة:

- أنت السبب!و أضاف موضحاً قبل أن أسأل:

- منذ تلك الحادثة و أحوالك غريبة!..و الأطفال يستغلون حالتك للتلاعب بك.....

- أتظننى مجنونة؟!

قال فى كياسة:

- لست مجنونة..لكنك مضطربة قليلاً..خاصة بعد أن توقفت عن تناول العلاج من تلقاء نفسك.

- حقاً؟..و ما أدراك أننى توقفت عن تناول العلاج؟

أخرج من جيبه شريط مضاد الاكتئاب الخاص بى.. قال:

- أليس هذا أخر شريط فى العلبة؟ّ..إنه فى جيبى منذ عدت قبل خمسة أيام..و لم تسألى عنه حين ضاع.!

****************

"أكملى يا سيدة"هنا" ..إننى أستمع..ماذا حدث بعد ألقاء  القبض عليهم؟"سألنى الطبيب فأجابت بسؤال مندهش:

- و ما الذى جعلك تظن أن شئ ما حدث بعدها؟!

أبتسم الطبيب العجوز..فبدا قريب الشبه من أبى- رحمه الله-

- لو لم يحدث شئ..لما جئت إليّ تطلبين النصيحة..أليس كذلك؟

هزت رأسى مؤمنة على كلامه:

- بعد أن صارت شقتهم خالية..صرت أسمع بكاء أبنهم الرضيع..و لهو الشقيقيتن و ركضهما على سقف بيتى.. كل ليلة!..الجدير بالذكر أننى لم أكن أسمع لهم صوتا من قبل-حين كانوا أحياء - ..و لم يعد بمقدورى النوم..حتى أننى التجأت لإستخدام منوم!

- أولاً أريد أن أسألك سؤالاً هاماً..لماذا ظننت أن حل مشكلتك عندى؟

- ماذا تعني يا دكتور؟

- أقصد أن أسألك ألا تؤمنى بالماوارئيات؟

قلت بابتسامة متعجبة:

- كلا لا أؤمن بها.

- و لماذا؟

وتّرني سؤاله و شعرت كأننى فى إمتحان..حاولت تصنع أكبر قدر من الهدوء..و أخذت أجمع شتات أفكاري المبعثرة..ثم قلت ببطء:

- لا يمكن أن أصدق هذه التراهات..لأننى حصلت على قدر جيد من التعليم؟

و انتابتنى دهشة حقيقية..فبعد كل هذا المجهود الخارق..بدا ردى أشبه بسؤال أكثر منه أجابة!

رد الطبيب المخضرم بلهجة هادئة:

- التعليم لا يصنع فارق فى معتقدات الإنسان..التى هى نتاج تربيته،و ثقافة مجتمعه.

- بمعنى أن كونى طبيب لا يمنع أن المعتقدات التى تربيت عليها ستظل موجودة بركن ما ..كدرج مهمل فى عقلى.. ستمتد إليه يدى فى وقت من الأوقات!

- حسناً..كل ما فى الأمر أننى الوحيدة في المنزل..من يسمع تلك الأصوات..لا زوجى و أحد من الأولاد سمع شئ!

***********

"هل أدهشك أننى لاحظت؟!"سأل"هاشم"الذى كان ما يزال ممسكاً بشريط البرشام الذى كنت قد تناولت منه حبتين منذ شهر تقريبا..و شعرت فى هذه اللحظة أننى أكرهه!..

قلت فى عناد:

- إننى لم اعد بحاجة لتناول أى دواء.

- لا بأس يا"هنا"أنت حرة..لقد تبقت ثلاث أو أربع  ساعات على ميعاد سفرى..لكن قبل أن أغادر يجب أن أخبرك..لقد طلب إليّ الأستاذ"أحمد الجهينى"أن أخبرك أنه سيسافر نهاية هذا  الشهر .

- على هذا سيصير لدينا شقتين خاليتين!

و كأنما لطمنى أحدهم على وجهى فجأة..

- و لماذا لم يخبرنى هو بنفسه؟سألته بإنزعاج واضح

قال فى لوم:

- لأنك أحرجتيه!..فلا أعتقد أن صاحب بيت،عرض على مستأجر من قبل.. تخفيض قيمة الإيجار،كى لا يترك شقته!..ألا يكفى أنك لم ترفعى قيمة الإيجار - كما يفعل كل الناس- منذ عامين؟!

فى تلك اللحظة أدركت أننى بالغت فى خوفى..فأضررت بمصلحتى،و بمصلحة"هند"..و فضلت الخسارة على المجازفة بتسكين أشخاص غرباء فى البيت..لكن لم يكن بوسعى أن أتخيل أن يغادر أحد السكان القدامى-خاصة عم أحمد-صديق والدى -رحمه الله-أو خالتى أم"بسنت"التى لم أجد من آتمنه على أطفالى حين أستدعونى فى القسم و النيابة..للشهادة ضد قاتل أطفاله..خيراً منها..و برغم هذا لا أعتقد أن هذا سيكون عذراً مقبولاً أمام"هند"أو زوجها!

قال"هاشم"برقة:

- أنت لم تكونى هكذا!عهدى بك قوية..أتذكرين حين سقطت من على السلم..و كسرت ساقك..وقتها كنت مسافراً..و لم تخبرينى..لم أعرف وقتها إلا بعدها بشهر حين عدت من السفر!

وقتها كان أبى مازال حياً..كذا فكرت فى نفسى..وقتها أسرع بى إلى المستشفى..و ظل يرعانى..و يرعى"بسمة"-حتى أنه كان يمشط شعرها بنفسه.كل يوم..و يوصلها إلى الحضانة ..لم يكن إحتمالى للألم،و عدم شكوتى وقتها..بسبب قوتى،بل بسبب خجلى!..إذ ماذا كنت سأشكو ،و هو يعاملنى كالأميرات!..و لو كان أبى حياً يرزق..لما تعرضت لهذا الموقف من الأساس!..كان سيعرف- بفراسته التى لا تخيب- أن هؤلاء وحوش معدومة الضمير..و أنهم يجب أن يوضعوا فى أقفاص كالحيوانات..لا أن يؤيهم سقف شقة..بالتأكيد كان سيطردهم.. أنا واثقة..ما كان سنخدع مثلى!


يتبع...

"كنت تحبين أباك؟"سأل الطبيب فأجبت دون تردد:

- جداً..جداً..لو كانت هناك كلمة أكبر من الحب، لما أستطاعت أن تصف شعورى نحو أبى..لقد كسرنى موته المفاجئ..أتدرى؟..شعرت فجأة أننى معّلقة فى الهواء!..ليس لى ظهر..لا..بل و ليس لى موطئ قدم على الأرض حتى!..لقد كان حياتى نفسها..أعتقد أنه لولا وجود الأولاد،لمت بعده من شدة الحزن عليه.

- و زوجك؟..ما دوره فى كل هذا؟

قلت بعد برهة :

- زوجى!..لقد أختار منذ مدة أن يلعب فى حياتى دور ضيف الشرف..منذ سنوات- و قبل وفاة أبى-و هو يعمل فى شرم الشيخ..لكن حتى هذه العلاقة المتصدعة كان أبى من يرممها بإستمرار!..لكن بعد وفاة أبى إنهار عالمى كله..حتى زواجى!..أكتشفت فجأة ـ أنه صار حبراً على ورق!

- ألا تظني أنك تبالغين قليلاً يا سيدة"هنا؟العديد من الرجال يسافروا من أجل العمل..حتى أن البعض منهم يسافر خارج البلاد..على الأقل زوجك هنا..ما زال قريباً منك و من أسرته..تستطيعين إستدعائه بسرعة بمكالمة تليفون،فيكون عندك فى غضون ساعتين!

- ليس الأمر بسيطاً على هذا النحو الذى تظنه!..لقد كنا بنتين أنا و أختى"هند"مع أمنا..و لم يتركنا أبى ـ أبداً-مع العلم أنه كان يعلم مهندس بترول..حتى عندما كان يعمل بالسعودية أخذنا معه..فى حين لدى أنا بنتاً،و ولدين-بحاجة لأب-تعرف تربية الذكور تحتاج لحزم ..و شخصية أبوية..لكن الطامة الكبرى كانت حين حدثت تلك الجريمة التى حكيت لك عنها آنفاً..و اضطررت أن أترك أولادى فى رعاية أحدى الجارات ..فى ذلك الوقت شعرت أننى صرت أرملة رسمياً!

- و هل هذا السبب الحقيقي لعدم شعورك بالأمان؟سأل الطبيب بلهجة محايدة

- ماذا تعنى يا دكتور؟

- أحياناً يلعب معنا عقلنا ألعاب قاسية..و غالباً كل ما تسمعيه من أصوات،مجرد هلاوس..مبعثها شعور غير منطقى بالذنب!

****************

حزمت حقيبة"هاشم"الذى أستعد للرحيل متظاهرة بالأسف و الحزن..لكن بداخلى كنت أشعر ببعض الإرتياح!..فقد أعتدت غيابه ..و برغم علمى كيف يقضى وقته هناك بصحبة السائحات الروسيات..لم يعد هذا يضايقنى!..

ما الذى يضايقك إذاً..لمع التساؤل فى ذهنى كومضة خاطفة..فتحت الحقيبة مجدداً،و أخذت أتأمل ثيابه المطوية بداخلها..أنا غسلتها و كويتها و رصصتها فى الحقيبة..ليأخذها معه و هو مسافر..و سألت نفسي لماذا لا يبقى معى؟..ربما لو كان هنا حين جاء"مدحت"هذا و زوجتيه ..ربما كان سيفهم،و يطردهم..و لما كانوا قتلوا الأطفال!.. ربما كان الطبيب محقاً حين قال أن سبب غضبى من "هاشم" هو شعورى بالذنب..لأننى عرضت أطفالى-دون قصد- لهذا الموقف الصعب..أو ربما كنت - دون أن أدرى-أحمّل نفسى مسئولية تلك الأرواح البرئية التى أُزهقت..أو!..أو إننى المسئولة حقاً عن فرار"هاشم" من البيت!

"- هل إنتهيت؟"سأل "هاشم"و هو يتطلع لحقيبة ثيابه المفتوحة، قبل أن يغلقها،ويسحبها خارجاً من الغرفة.

هل ستتركيه يذهب؟!

-"هاشم"!

ألتفت إلي سائلاً:

- ما الأمر؟

- إننى أوافق على تأجير الشقة المغلقة..بشرط أن تقابل أنت المستأجر!

تطلع إلي فى حيرة بضع لحظات..نظر بعدها- لا أرادياً- لساعته:

- الآن!..ما الذى غيّر رأيك فجأة؟!..عموماً لم يعد هناك وقت..فلدي موعد طائرة ..عندما أعود المر........

قاطعته بسرعة:

- أنت لم تفهمنى!..أريدك أن تقابل المستأجر..و تبقى معنا و لا تسافر!..هذا هو شرطى الوحيد.

- أنت تمزحين أليس كذلك؟!..تريدين أن أترك عملى و أعمل عندك؟..و هل ستعطيننى أجرة بواب؟!سأل"هاشم" ساخطاً قبل أن يضيف:

- أم لعل هذه حيلتك الجديدة لإبقاء الشقة مغلقة؟..عموماً على راحتك..أنا ذاهب.

- لماذا؟!..لقد كنت-سابقاً- تعمل فى الإرشاد السياحي هنا فى القاهرة..لست مضطراً للسفر!

-أجل كان هذا حين كانت السياحة مزدهرة..لكن بعد الثورة لم يعد الحال كما كان!

كان قد قال قوله الفاصل ..ولم يعد ثمة مجال للمناقشة..قلت واجمة:

- لا فائدة إذن.. مع السلامة يا"هاشم..لديك موعد طائرة و يجب ألا تتأخر!

و ما أن غادر البيت حتى خطرت لى فكرة غريبة.. جعلتنى أرتدى ثيابى على عجل..و أصعد إلى الشقة المغلقة..و قبل أن أدس المفتاح فى ثقب الباب أحجمت فى اللحظة الأخيرة!..أخر مرة دخلت فيها هذه الشقة - و لم أكن وحدي- كنت أرفع الأنقاض التى خلفها السكان القدامى..كراكيبهم ،و ملابسهم و ملابس الأطفال..و خار عزمى و قررت العودة من حيث أتيت..لكننى نظرت من الفلق الذى خلفه رجال الشرطة  فى جسم الباب.. عندما أقتحموا الشقة منذ عامين و لم أصلحه بعد..لم يكن ثمة شئ غريب..مجرد شقة مهجورة غارقة فى التراب!..وضعت أذنى على الباب.. لا حس و لا حركة!

شجعنى هذا على فتح الباب..دخلت الشقة التى بدت كئيبة خانقة ..رغم ضوء النهار الذى دخل الشقة على إستحياء!..أضأت النور و أنا أدعو الله أن يكون المصباح  ليس" محروقاً"..فأضات الصالة الخالية..و خفق قلبى كالطبل!..فعلى الأرض التى غطاها التراب..كانت هناك آثار أقدام حافية!..ثلاثة أزواج مختلفة الحجم!.. أقدام دقيقة ..أصغرها قدم طولها لا يتجاوز السبعة سنتمتر!

تمت

قصص تليجرام