قصص تليجرام

على باب الجنة(قصة قصيرة)كاملة جزئين


جزء 1 على هامش الحياة!


الجنة هى الحديقة ذات النخل و الشجر والبستان و دار النعيم فى الأخرة                    

                                                                                                                                المعجم الوسيط

 الجنة هى البستان ألتف شجره حتى ستر الأرض بأشجاره و هى الحديقة فيها شجر ونخيل و عنب،فإن خلت من النخيل أو العنب لم تكن جنة، بل حديقة

                                                                                                                               معجم متن اللغة

***************************

أقبل علي الصبى الأسمر ذا السن الضاحك و الغمازة الواحدة..بينما أجلس فى ظل" تكعيبة" العنب،يحمل طبقاً معدنياً كبيرًاً،مملؤاً بثمار التين الناضجة،مع عنقود عنب نضيض،و على وجهه ابتسامة مرحبة..ماذا كان اسمه؟!..آه..إنه"طه"شقيق "كمال"الأصغر..تناولت منه الطبق شاكراً..بينما كنت أفكر فى قرارة نفسى أنه لو كانت"ثريا"-رحمها الله -مازالت حية،لما سمحت له أن يقدم لى الفاكهة فى طبق معدنى!

.كانت ستقول بعصبية:

- ما قلة الذوق هذه!لماذا لا تضع الفاكهة فى الطبق المخصص للفاكهة؟!..لكنه الآن حراً تماماً فيما يفعل!

أحياناً أتصور أنه صاحب البستان و أنا مجرد ضيف ، وهو يتصرف بتلك الأريحية!

يذكرنى بنفسى و أنا فى مثل سنه!..حين كنت أجلس بين أغصان شجرة التين-و معى شقيقتى-"سعدية"نراقب السكان القدامى"أيمن"بك و "كريمان"هانم زوجته التى كنا نسميها قرنفلة لسبب لم أعد أذكره،و نحن نتعجل رحيلهما حتى يخلو البستان لنا..هذا البستان الذى كان-كأنه- ملكنا طوال العام -باستثناء-الأسبوعين اللذين يقيضانهما هنا فى نهاية  كل عام!..وقتها كنت أشعر أننا مالكى الأرض الفعلين..ربما أكثر من شعورى الآن و قد صار ملكى على الورق بالفعل!

تناولت بعض حبات العنب،و ثمرتي تين،و منعت نفسى بصعوبة كى لا ألتهم ثمرة التين الثالثة! لا يستحسن  أن أكثر من تناول هذه الثمار السكرية..لأننى كما تعلم  مريض بالسكرى-أصبت به منذ عامين-..إن لم يصب المرء بالسكرى فى سن السادسة و السبعين،فمتى سيصاب به إذا؟!

- يا"كمال"..خذ هذا الطبق إذا سمحت!

- تحت أمرك يا "كمال"بك!قالها"كمال"ثانى ابناء"عوضين" البستانى الذى يعمل و يقيم هو و أسرته فى البستان الذى أملكه..و- كما لاحظت-كان قد سماه على اسمى تحبباً إليَ..و هو بالمناسبة  أول مولود ذكر  له بعد ابنته الأولى" بدرية"

راقبت إنصراف"كمال"بثمار الجنة ،و قد خطر لى أن مساحتى تتناقص فى هذا المكان!..و لا أعنى ب"المكان"هذا البستان بل الأرض كلها!..لم يعد لى فيها لذه..حتى الطعام ،لم يعد بمقدورى أن أتناول ما أشتهيه منه،دون أن أقلق من السكرى و الكوليسترول!

..و قد رحل الأحباب إما بسفر أو بموت!..الأولاد هاجروا.."ثريا"أمهم  .ماتت ..و كذلك أخوتى.."أمل" الكبرى التى كنت أزورها-هى وأخواتى البنات-.و د"مختار"الذى كان يزونى أحياناً فى أوقات فراغه القليلة..هذا مات مبكراً-فى سن الثامنة و الأربعين-..و"علية"و"عائشة"حتى "سعدية" أخر العنقود التى جائت لتعيش معى بعد وفاة زوجها،من تسع سنوات..ماتت منذ شهرين..بعد أن ألتهم ألزهايمر عقلها كله-فى أواخر أيامها كانت قد تحولت إلى نبات-حتى الكلام نسيته!-تلك التى كانت لا تكف عن الثرثرة-و مع ذلك شق على فراقها!

..فعلى الأقل -حين كانت على قيد الحياة- كانت ترد عليّ النفس! و برغم علمى أنها لم تعد تفهم جل ما أقول -و ربما لا تسمعه أيضاً-كنت أتحدث إليها طوال الوقت تقريباً!

أحكى لها عن ذكرياتى مع"ثريا"و الأولاد-وهى ذكريات عاشت أغلبها!-و ذكرياتنا المشتركة-أنا و هى بذات-فنحن صديقان مقربان منذ الطفولة..احكى لها عن الجامعة و العمل و الأصدقاء،و أحكى لها كيف تعرفت على صديقتى الألمانية"كاتيا"..أم لعلها"كيسنيا"!التى عرفتها قبل "ثريا" -فى بعثة الجامعة -و أوشكنا أن نتزوج قبل نحو خمسة و خمسين عام..وأحدثها مطولاًعن ذكريات طفولتنا الباسمة التى نسيتها كما نسيت كل شئ!

مع الوقت أدركت أنه لم يعد بوسعى تكوين صداقات جديدة..بينما البشر الذين يعيشون معى بذات المكان بعيدين جداً عنى!..لا يمكننى أن أقيم مع أحدهم حوار يمتد لأكثر من دقيقتين!..كأنما بينى و بينهم حاجز خفى لا أدرى متى وُضع،و لا من شيده و لأى غرض!..

لكننى حاولت أن أهدم ذاك الحاجز..كان ذلك حين ناديت"عوضين"ذات مرة-بعد وفاة سعدية بأيام- لأتحدث معه فأقبل خائفاً كأننى سأقطع رقبته بالسيف!..و لما نجحت أخيراً فى إقناعه أن الأمر ليس خطيراً على النحو الذى يظن..و أننى أريده لأتحدث إليه-فقط-مجرد حديث عادي!

تربع على الأرض متهلل الوجه و هو يهتف فى سعادة:

- يا سلام يا بك ..أنا خدامك أنت تؤمر و أنا أنفذ!

وقتها أدركت أنه لا فائدة ترتجى من كلامى معه!..وإننى سأظل وحيداً كالميت فى قبره..أراقب الحياة من خلف لوح زجاج..كما دأبت أمى-رحمها الله- تقول..أسمع ما يقوله الناس و أراهم لكنهم لا يشعرون بى!

قمت لأتمشى  قليلاً -على سبيل التريض-عندما لمحت ساقى"طه"النحيلتان تتدليان-و قد أنحسر عنهما جلبابه زيتونى اللون- من وسط أغصان التينة العجوز

- يا ولد!..أنزل من على الشج....و شعرت بالندم على الفور لتحذيرى له ،عندماألقى بنفسه من فوق الشجرة،قبل أن أكمل:

...رة ..قد تسقط و تكسر ساقاً أو ذراعاً!

و كان وقتها واقفاً على قدميه كالقرد لم يصبه ضرر!

- هل أنت مجنون؟!..كيف تقفز هكذا من فوق؟..هل أنت بخير؟

سألته فى جزع و أنا أمسك بكتفه لإطمئن عليه..فوجدتنى أميل بثقلى على كتفه الصغير حتى كدنا نسقط نحن الأثنين!

جز الصبي على أسنانه يكتم ألمه،و هو يقول بإبتسامة متألمة:

- أنا بخير..

وخطى بعض خطوات عرجاء  ليأكد كلامه!

- لقد لويت كاحلك يا أحمق!..أين الممرضة؟..يا"سناء"..يا"سناء"!

- ناد"سناء"و أجعليها تحضر حقيبة الأسعافات الأولية و تأتى بسرعة!

جرت "بدرية"إلى الفيلا لتحضر"سناء"التى  لمحتها -من بعيد- تمشى مسرعة و هى تحمل حقيبتها

*******************

"ها قد أنتهينا"قالتها"سناء"ممرضة "سعدية"-رحمها الله-لذاك الولد الشقى الممد على سرير والديه،و هى تنتهى من لف كاحله الملتوى بالرباط الضاغط..

ثم لوحت بأصبعها أمام وجهه منذرة:

- لا" تتشقى" كثيراً..حتى تشفى بسرعة.

سألتها بقلق :

- هل هذا التورم طبيعى؟أم أنه اصيب بشرخ؟

ردت ضاحكة:

- لا أبداً..مجرد إلتواء بسيط.

جميلة هى ضحكتها!..هى ذاتها على قدر لا بأس به من الجمال و خفة الروح..تجعل المرء يسأل نفسه ما الضير فى أن يتزوج و هو على مشارف الثمانين!

- يا سلام يا بك!..و الله ما رأيت فى مثل طيبة قلبك!

كان هذا أبوه المنافق..الذى لم يبدو مهتماً بكاحل أبنه الملتوى،بقدر أهتمامه بمجاملتى!

-أنت قلقاً عليه،و هو حالاً سيقوم لينط كالقرد!

لم أرد عليه..و قلت للممرضة بوقار:

- هيا يا "سناء"!

حملت حقيبتها،بينما اكتفيت بحمل نفسى لنخرج من بيت"عوضين"البستانى

- هل أنت مرتاحة معنا يا"سناء"؟

ضحكت تدارى قلقها:

- جداً..مرتاحة أكثر من اللازم!

فهمت ما ترمى إليه على الفور..فهى بلا عمل منذ شهرين تقريباً- منذ توفيت"سعدية-لكننى سألتها متصنعاً الدهشة:

- و هل يشكو الإنسان من الراحة؟

أجابت بشجاعة:

- عندما تكون بطالة..أنا لست معتادة على هذا الدلال!

الحق أنها فتاة صبور باسلة ..حتى إننى لا أستطيع أن أراها دون أن أتذكرها،و هى تطعم"سعدية"فى الحديقة تحت شمس الشتاء الدافئة الحنون..أو تسرح لها شعرها بعد أن تحممها..حتى أنها كانت تغير لها ال...أحم الحفاظات..فقد كانت-فى أواخر أيامها- قد نسيت الكيفية المناسبة لقضاء الحاجة!

و لم أكن قد فكرت فى الإستغناء عنها،فقد أصبحت بشكل ما  جزءاً من العائلة-هى معنا -من ثلاث سنوات،مطلقة،يتيمة الأبوين"مقطوعة"من شجرة -كما يقولون-فقط لديها عم أو خال ربما، يعيش فى السمبلاوين..لكنه لا يزورها أو تزوره منذ قرن من الزمن!

ربما لو تزوجتها لصار هذا أفضل لكلينا!،و لم أكن أنا ممن يبالون لما سيقوله الناس ،إذا تزوجت بفتاة من أدنى درجات السلم الإجتماعى و أصغر منى بكثير-لو تزوجت مبكراً- لصارت حفيدتى"كاسديا"فى عمرها تقريباً!

لكن منعنى كبريائى من طلب الإقتران بها!..يشهد الله ليس لى غرضاً فى النساء،و أعتبرها مثل بنتاً لى أو حفيدة..لكنها شابة لطيفة فى السابعة و العشرين من حقها أن تتزوج بمن هو شاباً مثلها..و ليس مشروع المرحوم بإذن الله مثلى!..فى رأيى هذه ليست صفقةعادلة.

..شئ أخر جعلنى أتردد كثيراً فى الإقدام على الزواج فى هذا السن..هو أن"سناء"ستنتقل -رغماً عنها-من خانة الداعين لى بطول العمر لخانة المستفيدين بقصره-فهى ستصير وريثة-لهذاودعتها على الباب و انصرفت ،عالماً أننى سأنسى كل شئ عن هذه الفكرة الغريبة حتى أقابلها مرة أخرى..و هو ما صار يحدث كل ثلاثة أو أربعة أيام دون مبالغة-على الرغم- من أنها تسكن غرفة بالطابق السفلى من نفس الفيلا التى أعيش فى غرفة بطابقها الثانى!

أخ! كنت قد نسيت أن أطلب من"عوضين"أن يخبرنى عندما يأتى الرجال الذين سيقطعون الشجرة!..نظرت ل"سناء"التى أبتعدت و كادت تصل إلى الفيلا فى أسف..أخرجت هاتفى المحمول لأتصل به و نظرت لشاشته  المظلمة بأسف مماثل ،لقد نفد شحن الكهرباء!..يبدو أننى مضطر للعودة و إخباره بنفسى..نظرت للمسافة التى أبتعدتها عن داره و  برغم أنها مسافة صغيرة-لا تتجاوز خمسة أمتار -بدت العودة جهداً جهيد،!حتى إننى سألت نفسى فى سخط:

- لما لم يخرج ذلك البليد حتى الآن؟

عندما جاء "عزب"الأخ الأكبر من "طه"و الأصغر من"حنان"-كأنما لينقذنى- يجرى مشمراً جلبابه وهو يصيح مناديا من بعيد:

- يابا..لقد جاء من سيقطعون الشجرة!

*****************************

فحص أحد الرجال-بخبرة- فروع شجرة الزيتون التى تشابكت و أمتدت لتهدم جزء من سور المزرعة لتخرج-كأنما ضاقت بحبسها الطويل-إلى الشارع..قبل أن يهز رأسه فى أسف:

- يجب أن نزيل هذه الشجرة من جذورها.

هززت رأسى مؤمناً على كلامه..فقال بسرعة مشيراً إلى الكرسى الذى أحضرته" نفيسة"أحدى بنات"عوضين"

-  أسترح يا بك و لا تقلق..سننتهى فى غضون دقائق..هل سنأخذ الشجرة؟.. يمكننا أن نخصم....

قاطعته فى تعب:

- لا بأس خذها فوق الحساب و لا تخصم شيئاً!

تألق وجهه فى بشر..و بدأ يباشر عمله على الفور بحماسة كبيرة..بينما شردت أفكر فى ولداي..فرعىّ اللذين هدما سورى قبل هذه الشجرة المتمردة بما يزيد عن عقداً من الزمان!

حين هاجر"حسين"الأكبر  إلى أمريكا منذ ثلاثة عشر عاماً،وهاجر"مصطفى أخوه الأصغر  بعده بعام و نصف - حتى قبل أن يكمل عامه العشرين-إلى استراليا..و من يومها لم أرى وجه أحدهما أبداً!..حتى مكالماتهما الهاتفية أنقطعت بعد وفاة أمهما منذ..منذ لا أذكر ست أو سبع سنوات!

لم يكن هذا حالى مع أبى و أمى-رحمهما الله-فقد كنت دائم الزيارة لهما - مهما كانت انشغالاتى -و عندما رزقنى الله و صرت على قدر من اليسر أشتريت لأبى هذه المزرعة -و كتبتها بأسمه-من ورثة"أيمن"بك بعد أن طردوه منها بعد وفاة عمهم و زوجته اللذان لم يكن لديهما أولاد..و قد مات أبى راضياً عنى و لسانه يلهج بالدعاء لى!

لن أنساه أبداً ما حييت و هو يقول لى و هو فى النزع الأخير:

- الله يسترك يا ابنى دنيا و آخرة مثلما سترتنى و سترت أخوتك!

و لم أترك أمى أبداً..حتى أخوتى اللذين أشتريت منهم أنصبتهم فى ميراث أبى-المزرعة التى أشتريتها بحر مالى-ظللت أودهم و أعينهم على مصاعب العيش ،هم و أولادهم-و حتى أحفادهم-و بعضهم يزورنى أحياناً..لكن ولداي أنا ..لم يكلفا نفسيهما مشقة الإتصال!

و لماذا يتصلا حتى؟ و هما يضمنان أنهما الوريثان الوحيدان لى..و هذا هو السبب الثانى الذى يجعلنى أفكر-أحياناً- فى الزواج..فعلى الأقل سيحرمهما زواجى من ثمن الميراث!

"كله تمام يا باشا..لقد أزلنا الشجرة من جذورها!

انتبهت على صوت الرجل فهززت رأسى فى أسى.. مددت يدى فى جيبى و أخرجت المحفظة و التليفون الذى ناولته ل"عوضين"

ليشحنه-ربما أتصل أحد-،و سحبت من المحفظة نقوداً تزيد على ما أراده الرجل الذى قطع الشجرة،و أعطيتها له.

- هذا كثير يا باشا..أطال الله لنا فى عمرك!

- متشكر!قلتها كاذباً..فأخر شئ أتمناه الآن هو طول العمر!.. ماذا سأجنى حين يطول؟ .. سوى المزيد من ألم المفاصل و العظام..و ربما خرف الشيخوخة و التبول اللاإرادي كذلك! .. مشيت قاصداً الفيلا عندما نادى الرجل:

-يا عم الحاج... يا باشا..يا باشا !

ألتفت إليه،فقال ملوحاً بكارت صغير

-لقد سقطت هذه الصورة منك!

تناولت الصورة منه بيد تهتز،و  ارتديت النظارة المعلقة بسلسلة فى رقبتى

- ابنك يا باشا؟.. ربنا يخلى

كانت صورة"مصطفى"الوغد الذى لا أعرف عنه شئ منذ سنوات،و هو بعد مراهق ..يبدو أنها سقطت من المحفظة التى- لا أذكر متى وضعتها فيها-هززت رأسى أن نعم،و أنا أعيد الصورة إلى جيبى..و بدأت زحفى المتئد نحو الفيلا

*****************

دلفت إلى المكتبة العتيقة، التى طالما بهرتنى و أنا طفل -فى ذلك الوقت-كنت أريد أن أقرأ كل كتاب فيها..و هى أمنية لم أنجح في تحقيقها حتى الآن!

فقد شغلنى العمل بإدارة الشركة و المصانع.. صحيح أننى صرت أقرأ كثيرا فى الأعوام العشرة الأخيرة..لكن قراءة كل هذه الكتب تحتاج خمسمائة عام على الأقل!

فتحت الكتاب الذي توقفت سابقاً في منتصفه.. و الذى كان مكتوبا بالإنجليزية التى اجيدها-كما أجيد الألمانية-وهو عن علم النبات..و..و سرحت مع الصورة الموضوعة على المكتب..كنت في الصورة مع"حسين"وهو بعمر خمس سنوات و نصف..و قد أبتسم إبتسامة واسعة بدت فيها أسنانه المفقودة-رغم أنف المصور- الذى أراد أن يصوره عابساً كى لا يظهر بفم شبه خالى من الأسنان فى الصورة!..

ابتسمت رغماً عني حين تذكرت تلك التفصيلة..كم كان ظريفاً -ذاك الولد-وقتها!

لماذا لا يظل الأطفال صغار؟!..كانت"ثريا"محقة حين قالت يظل الأولاد أولادك حتى يكبروا!

فكل ما اعرفه عن ذلك الوغد،هو أنه يعيش فى ولاية لويزيانا مع زوجته، و "كاسيدا"ابنته المسيحية كأمها،و"سامى"إبنه و المفترض أنه مسلم كأبيه..المفارقة الكوميدية هنا،إنهما -الولدين- يعيشان بالقرب من جداهما الأمريكيين كأسرة متماسكة..بينما أنا لم ارهما أبداً إلا فى الصور!

رغم أنهم-الاسرة-كلها زاروا مصر  مرة من ثلاث سنوات-هكذا عرفت -و رحلوا دون أن يزورونى!

"يجب أن يعرف البك..قلت لك يجب أن يعرف البك"تعالى صوت "عوضين"بالصياح فى الخارج،فوضعت الصورة فى مكانها و قمت لأنظر له من نافذة المكتب سائلاً:

- ماذا هناك يا"عوضين"؟لماذا تصيح على هذا النحو؟

أشار بيده إلى قاطع الأشجار و من معه قائلا:

- هذا الرجل يريد قطع شجرة كافور..و قد قلت له أنه يجب أن تعرف أولا!

- أى شجرة كافور؟..و لماذا يقطعها؟!لقد قطع الشجرة التى اتفقنا عليها!

هم"عوضين"بالإجابة :

-إنه يقول.. فقاطته الرجل :

-انتظر أنت لحظة!..إنها شجرة الكافور القريبة من القصر يا بك..يجب أن تقطع فورا!

******************

"مازلت لا أرى سبباً لقطعها!"قلت للرجل الذى يحاول إقناعى بقطع الشجرة منذ ساعة كاملة..سأل الرجل فى عجب :

-بعد كل ما قلته؟!

قلت فى عناد:

- لا تحاول!..لن تنجح فى إقناعى..كله إلا هذه الشجرة!

- لماذا يا بك؟!..لقد ماتت جذورها و سوف تسقط من تلقاء نفسها فى أى وقت!

صحت فى غضب:

- لتسقط وحدها إذا ..لماذا تقلق بالك بها؟! 

قال بسرعة:

- قد تسقط على سور القصر،فتهدمه!

لسببا ًما كان مصراً على أن هذا قصر..و الأغرب اصراره على قطع الشجرة!

أضاف قبل أن أجد مجالا للرفض:

- أو تسقط على أحد فتقتله!

بدت فكرة شنيعة جداً،أن تسقط الشجرة على أحد أطفال"عوضين"المنتشرين فى كل مكان كالجراد،و مع ذلك ففكرة قطع شجرة كافور-بالذات هذه الشجرة-أمر مستهجن تماماً بالنسبة لى!

و بينما وقف الرجل يضرب أخماساً فى اسداس،حيرة من موقفى المتصلب،صاح"عوضين"فى ذكاء :

- إن البك يحب هذه الشجرة-بالذات- كثيرا!

صاح الرجل في دهشة :

- لماذا؟!

لم يكن من الممكن أن أخبره أننى أشعر بأن حياة هذه الشجرة مرتبطة بحياتى..فهى مزروعة يوم ولادتى،و بشكل ما أشعر بأن قطعها نذير شؤم..لهذا قلت فى تحفظ :

-إن لدى اسبابى!

هوى بفأسه على الأرض التى نقف عليها بحنق،فصحت بغضب: 

- ماذا تفعل يا هذا؟!

عرى جزءا من جذورها القريبة من سطح الأرض،و هو يقول بصبر:

- أنظر..

نظرت بدهشة إلى حيث أشار..و رأيت بعينى كم كان محقا !..

لقد مات الجذر و تعفن!

وقف ينظر لى نظرة من طزار

- أرأيت؟..هل تأكدت بنفسك؟!

لم أرد على الفور،و أصابنى دوار مفاجئ فأسندنى على كتفه القوية قبل أن أقع.

-هل انت بخير؟

 قلت بوهن :

- بخير أجل..فقط أحتاج بعض الراحة!

- إذاً تفضل أنت لتستريح..و نحن سنكمل عملنا و نخبرك عندما ننتهى.

- ليس الآن..يمكنك العودة لقطعها بعد أسبوعين !

- و لماذا لا نقطعها الآن؟..كلما تم الأمر سريعاً كان أفضل.

تنهدت فى تعب :

- عد إذا بعد أسبوع.

-اتفقنا!..هل يمكنني أخذها بعد...؟

قاطعته بملل:

- خذها !..

صافحنى،و هو يصيح بحماس:

- أتفقنا إذا!

*************************

رن جرس الهاتف المنزلى-و هو حدث نادر-فلم أرد حتى إنقطع الرنين!

رد  ال answer  machine:

-هنا استراحة مزرعة المهندس"كمال مهران"..أنا لست بالمنزل الآن..يمكنك الإتصال فى و قت لاحق،أو أترك رسالة بعد سماع صوت الصافرة:

تيت!

- Dad!..لقد حاولت الإتصال بك فى كل مكان!

"حسين"!

رفعت  السماعة التى استغرق وصولى إليها دهر-رغم قربى من المكتب بينما كان يقول:

-سوف أحاول الإتصال بك مجد..

أنتظرت لحظة حتى أنتظم نفسى المتسارع-من شدة الإنفعال-ثم قلت بصوت حاولت جهدى أن يبدو طبيعياً

- من المتصل؟!قلتها بصوت مرتفع و نبرة عصبية،فرد"حسين"ملهوفاً:

- أنا"حسين"!

سألت بعصبية-كأنما لم أعرف صوته-

-"حسين"من؟!

-It's me.."حسين" ابنك يا أبى!

خفق قلبى الواهن باضطراب..لكننى قلت بجفاء:

- آه أجل ..و ماذا تريد منى؟!

صمت كأنما تفاجئ بردى القاسى..و صمتت بدورى أفكر فيما يجب قوله..ثم قلت بلهجة منفعلة و قد بدأت أشعر بحرقة الدموع تغزو عيني:

- كيف حالك يا بنى؟ 

-بخير.. أنا بخير ما دمت راض عنى.

قلت بوقار و جدية:

- إذا أنت لم تعد بخير منذ مدة طويلة يا بنى!

أطلق ضحكة قصيرة متوترة:

- مازالت تتمتع بخفة الظل يا أبى!..wiat a mminute..يبدو أن"كاسيديا"عادت من المدرسة.

!honey..come to say hi grandpa-

كان يطلب من ابنته المراهقة أن تحدثنى فى الهاتف.. لكنها صاحت فى تمرد:

!No-

أبنة"جوليت"!.كان هذا متوقعاً منها على كل حال..ما ظنك بتربية "جورج"و "سامنتا"!

- I'm sorry dad..أخشى أنها لا تستطيع مكالمتكcause she's a flu.

ما أكذبك يا سبع الرجال!

ليتنى لم أسميك"حسيناً"..أين أنت من الشهيد"الحسين" سيد شباب أهل الجنة؟!

- عادى..هذا متوقع من ابنتك!قلتها فى غل..و أكملت فى نفسى..ابنتك التى عادت أمها-السافلة-إلى بلدها حاملاً  منك بها فى أربعة أشهر دون زواج!

سألته والصداع يكاد يفجر رأسى و يعمى عينى اليسرى- لابد أن ضغط دمى تجاوز ال180-فى هذه اللحظة:

- ماذا تريد الآن يا"حسين"؟!

توقعت أن يكذب "حسين"و يقول أنه أتصل ليطمئن علي-و هو ما لم يحدث منذ سنوات-،لكنه احترم ذكائى و قال مداهناً:

- دائماً ما تشعر بى  يا أبى..إننى فى ورطة كبيرة بالفعل!

  * يتبع*



جزء 2ضيف متوقع! 


جلست فى غرفة المكتب شبه المظلمة،أفكر..لم أتصور أن يكون الموت دانياً إلى هذا الحد!..

و- برغم اقترابى من الثمانين-لم يبد لى -فى هذه اللحظة-إننى عشت عمراً مديداً!

..فيما مضى-حين كنت شاباً-كانت الخمسين عاماً فترة أكثر من كافية ليموت المرء راضياً..لكن! عندما اقتربت من الخمسين بدت فكرة أن أعيش عشرة أو عشرين عاماً أخرى فكرة أكثرمن رائعة!..فى ذلك الوقت كنت قد بدأت-للتو- أجنى ثمار نجاحى.. صرت رجل أعمال كبير -ولدى ولدين صغيريين-كنت قد تزوجت "ثريا"فى سن متأخر-"حسين" و"مصطفى"..وكان"حسين"أكبرهما لم يكمل بعد سنواته العشر-فى ذلك الوقت-..فى تلك اللحظة خفت من الموت و تمنيت أن يمد الله فى عمرى حتى يكبرا ..و امتد بى العمر حتى توفى أبى ومن بعده أمى و زوجتى,و أخوتى جميعاً من هم أكبر منى و من هم أصغر!..حتى بعض أبناء أخوتى و بناتهم!..و فجأة صرت على مشارف الثمانين مصاباً بجملة أمراض من" ضغط و سكرى و تصلب شرايين"بالأضافة لما أشعر به من وحدة ..و برغم أن الحياة -فى هذه السن و الظروف-تصبح عبئا لا يحتمل لأى شخص،لكن ليس لى أنا!..فمازال بوسعى أحتمال-هذا العبء- بضعة أعوام أخر!.  

فتحت نافذة المكتب بجهاز التحكم عن بعد-و هو الشئ الوحيد الجديد-فى تلك الفيلا العتيقة،هو ونظام الإضاءة،و وقفت أستنشق رائحة الليل الساخن المحمل برائحة التراب المحترق بشمس النهار!..و برغم ضعف بصرى رأيت شجرة الكافور الممتدة  كغيمة سوداء عملاقة..بدت كئيبة!..و خيّل إلي أنها تنتحب بصوت كالنشيج المكتوم!..أغلقت النافذة- كى لا أسمع نحيبها-فلمحت وجهى العابس على الزجاج..مسحت دمعة كبيرة من فوق زجاج النظارة التى أرتديها!..و أضأت نور الغرفة بضغطة زر من جهاز التحكم الثانى..و جلست أكتب وصيتى!..

مادام وقتى قد صار ضيقاً ،فيجب أن أحسن أستغلاله!

*******************************

 كما توقعت حكى لى"حسين"أنه مدين بمبلغ كبير للمورد الذى يمد مطعمه للوجبات السريعة باللحوم،و أنه مهدد بالسجن إذا لم يدفع له -ولو جزءاً-من المبلغ خلال بضعة أيام..لهذا تذكر أن لديه فى مصر خزينة مليئة بالنقود-هى أنا بالطبع-لهذا إجتهد فى البحث عن أرقام هواتفى التى نسيها منذ مدة!

سألته فى ضيق:

- و ما شأنى بهذا كله؟..لما لم تطلب مساعدة حميك؟!

رد بخيبة أمل:

- لا يمكننى طلب مساعدة من"جورج"..الوضع مختلف فى هذا البلد..أساساً

! he won't never give me one doller anyway ..أعرف أننى مقصراً فى حقكbut i promise u

سوف أزورك فى مصر فى أقرب فرصة.

سألته بلهجة ذات مغزى:

- كأنك لم تزر مصر -و لو -لمرة واحدة طوال هذه السنوات؟!

رد بإرتباك:

-معك حق if u angry 

تقصد حين زرنا شرم الشيخ..!but it was just two daysلم يكن الوقت يسمح ...

قاطعته بدهشة:

- هل كنت فى شرم الشيخ قريباً، و لم تزرنى؟

- سأل و قد شعر أننى أوقعته فى فخاً ما:

!?u didn't know that-

رددت متبسماً بمرارة:

- لم أعرف بزيارة شرم الشيخ، لكننى علمت بأمر زيارتك لأسوان منذ ثلاثة أعوام..لقد أخبرنى عمك"فوزى"الذى طلبت منه ألا يخبرنى!

-oh my god!أنا أسف فعلاً!..أرجوك سامحنى..

قاطعت أعتذراته المتشنجة سائلاً:

-كم تريد؟

?what u mean

قلت بنفاد صبر:

- كم المبلغ الذى أنت مديناً به؟

هتف بفرحة الغريق الذى وجد قشة يتعلق بها:

-هل ستعطينى النقود؟thank u daddey..أشكرك كثيراً!

******************************

وضعت القلم و تنهدت..ليتنى لم أرسل له النقود- فى ذلك الوقت-!..أو على الأقل كنت أشترطت أن يأتى بنفسه لأعطتيه ما يريد..كان سيأتى بالتأكيد!..لكن ماذا أفعل بتلك الكبرياء!

ها قد مر قرابة التسع شهور منذ ذلك الحين..لا جاء فيها و لا حتى أتصل!

كما يشاء..هل سأستجدى عطفه أم ماذا؟..راجعت مسودة الوصية فى عدم رضا..و هممت تمزيق الورقة لكننى تراجعت فى اللحظة الأخيرة!

راجعتها من جديد سريعاً..ليست سيئة!..فقط تحتاج  بعض المراجعة القانونية..أوصى أنا"كمان مهران" بثلث تركتى لمممم..أبناءأخوتى،و أبناء المتوفين منهم..أممم"سناء"و "عوضين"مبلغ أممم على أن يقسم المال بالتساوى بينهم أممم على أن تقسم باقى التركة على الأبناء حسب الشرع..

الأبناء!..كيف سيعرفان أساساً إن كنت على قيد الحياة أم لا ؟!.. لا يوجد  إتصال بيننا منذ مدة!

*****************************************

راجع الأستاذ"مرسى البتنونى"المحامى الصيغة النهائية للوصية،ثم غمغم فى رضا:

-ها نحن ذا..أعتقد أننا أنتهينا !

شاب هو  فى السادسة و الثلاثين..مثقف و ذكى،-و هو من قلائل- أستمتع كثيراً بمحاوراته الشيقة -كوالده-فهو ابن محامىّ السابق-أستاذ "حمام البتنونى"الذى لم يعد يزرنى بعد أن تقاعد..سألته بأهتمام:

- و الورثة الأساسين؟

- يمكننا التواصل معهما عن طريق السفارة أو الجالية المصرية..بالنسبة للأستاذ"حسين"نحن نعرف مكان سكنه و عمله، هذا سيسهل التواصل معه ،أما بالنسبة لأستاذ"مصطفى"فقد بدأت التواصل مع الجالية العربية فى أستراليا من أجل معرفة مكانه..يمكنك-إذا كنت تملك المال-أن تجد أى شخص فى أى مكان..

هززت رأسى موافقاً،فأضاف المحامى سائلاً فى عجب:

- لقد تصورت أنك تشتاق لرؤية ولديك بعد كل هذه السنوات..لكنك -فيما أرى-لا تريد التواصل معهما !

-كنت!..كنت مشتاقاً إليهما فيما مضى..لكنهما فى الواقع لا يستحقان-حتى- هذا الجهد الذى نبذله لنجدهما!..لولا أننى أخشى عقاب الله لحرمتهما من كل مليم كسبته بعرق جبينى..مستر"حسين" الأمريكانى لم يتصل بى سوى مرة واحدة-و كانت لطلب المال-و المسيو"مصطفى شرفنطح"لا أعرف عنه سوى أنه فى قارة أستراليا!..حتى أننى لن أستغرب لو علمت أنه قد مات منذ مدة،أو أنه معتقل فى جوانتانامو!

كتم المحامى ضحكة قصيرة متعجبة..قبل أن يقول بإبتسمة ماكرة، و هو يراجع الوصية بعينيه فى قراءة صامتة:

-دعك من كل هذا.. لقد ذكرت فى وصيتك جميع العاملين فى الفيلا حتى الطباخ و البواب و السائس!،و لم تذكرنى بأى شئ على الأطلاق!

ناولته شيكاً فى ظرف وقلت:

- هاك أتعابك.

"-لقد كنت أمزح معك!"قالها و هو يلقى نظرة خاطفة على الشيك قبل أن يضعه فى جيبه.

- معذرة يا بنى!..يبدو أن عقلى لم يعد يفهم الدعابات الراقية! 

قام المحامى و اغلق ازرار سترته استعداداً للرحيل..ثم وضع أوراق الوصية فى حقيبته و هو يقول:

- سأتصل بك بعد  تسجيل الوصية..هل تريد منى أى خدمة قبل أن أنصرف؟

- إن شاء الله..و شكراً لك على تعبك..فقط أبلغ تحياتى لوالدك أستاذ"حمام"

حدجنى بنظرة مندهشة، قبل أن يسأل فى أستغراب:

- والدى!..هل نسيت يا "كمال"بك ؟لقد توفى أبى منذ أربعة أعوام ..لقد حضرت عزاءه بنفسك !

***************************************

و أخيراً جاء اليوم الموعود!..لقد مر الأسبوع -لن أقول بسرعة-فقد كان أسبوعاً حافل بالعمل و المراجعات القانونية..و جاء ميعاد قطع الشجرة!..و تجمع كل من فى الفيلا،ليشاهد هذا الحدث الجلل..حتى"طه" الذى لم يشف كاحله بعد،كان يتفرج و هو واقفاً على ساق واحدة كاللقلق!

بينما وقفت أراقب-من بعيد- فؤوس الرجال الأربعة و هى تهوى على  الجذع الضخم لشجرة الكافور..كل ضربة منها تزلزل كيانى..فقد كنت- مثلها- شجرة توشك أن تقتلع  من جذورها!

وخطر لى أنه كان يجب أن أحاسبهم قبل بدأ العمل هذه المرة..كما يفعل السيد الأنجليزى النبيل..الذى يدفع الأجرة - مقدماً- للجلاد الذى سيعدمه!

الغريب أن تلك الشجرة التى-طالما-وقفت أقيس قامتى بقامته،و هامتى بهمتها -و هى أطول شجرة"كافور فى المزرعة كلها-طولها يقارب الثمانين متراً- تعدم اليوم وهى لم تكن حتى أكبر الأشجار سناً..فلماذا شاخت و مات جذرها قبل باقى الأشجار؟!

بدأت الشجرة العملاقة تترنح و هى تئن متألمة!..و خطر لى أن هؤلاء الأربعة مجموعة من الحمقى لأن زاوية سقوط شجرة بهذه الضخامة،مع هذا الميل سيقتل شخصاً أو اثنين،من اؤلئك المتجمعين حولها!

- توقفوا ..أوقفوا العمل الآن!

واصل البلهاء عملهم الأخرق فى حماس كأنما لم يسمعونى..أو لعلهم ظننونى أشجعهم على الإستمرار!

هكذا لم أجد بداً من الذهاب إليهم بنفسى..مجازفاً بإحتمال سقوط الشجرة فوقى ..حاولت الإسراع بقدر ما أستطيع مسابقاً لحظة السقوط الرهيب..ليتنى لم أبتعد كل تلك المسافة فى البداية!..وصلت عنهم بعد لأى،و الشجرة تزداد  إهتزازاً منذرة بالويل لأى أحمق يحاول الإقتراب!..صحت فيهم بعصبية:

- توقفوا يا حمقى!

نظر لى كبيرهم،و سأل مندهشاً و قد ظننى غيرت رأيى:

- ألم نتفق على قطع هذه الشجرة من أسبو.....؟

قاطعته فى نفاد صبر:

- نعم أتفقنا ،لكنكم تقتطون الشجرة بطريقة خاطئة!

مطت شفتيه فى  تبرم  ضيقاً بتدخلاتى قبل أن يقول فى شمم:

-أنا أعرف ما ينبغى عمله يا حاج..إننى أعمل فى قطع الأشجار منذ سنين و لا يمكن أن أخطئ!

قلت و قد عيل صبرى:

- ستسقط الشجرة على بعض الواقفين...و كأنما- لتأكد كلامى-أهتزت الشجرة و هى توشك أن تنقض علينا بينما كرر الأحمق:

- لا تتدخل فى عملى يا حاج ..حتى لا تسقط الشجرة على سور القصر و تحطمه!

سور القصر!..هذا الولد لا يفهم أبداً!

- يا"عوضين"خذ من معك و تراجعوا مترين للوراء! صحت فى البستانى الذى أسرع ينفذ الأمر بسرعة هو و عدد كبير من الواقفين،بينما تجمد الباقين فى مكانهم فى غباء!

ألتقطت"طه"من جلبابه و قلت له آمراً:

-تراجع أنت و "خليل"و الباقين إلى الناحية المقابلة نحو متر أخر..تحركوا بسرعة هيا!

و ما أن أبتعدوامسافة كافية-و أنا معهم- حتى سقطت الشجرة تماماً فى المنتصف بين الفرقتين دون أن يتأذى أحد..فقط لأفاجئ بقاطع الأشجار الأحمق ذاك واقفاً ورائى و هويقول فى عناد:

- لقد كنت سأفعل هذا!

*********

جلست تحت تكعيبة العنب و قد جن الليل و لمعت نجومه فى ليلة صيفية  جميلة ..و قد خطر لى أن الضيف القادم على قدر كبير من الأهمية..فلايصح  أن يأتى فيجدنى نائماً!..

لطالما توقعت أن يأتى فى الخريف ..فهو مناسب أكثر!..فكل شئ ينتهى فى الخريف عادة..لكنه متعجلاً على ما يبدو و سيأتي في أواخر الصيف !..

نظرت نحو أطفال "عوضين"الذين لم يناموا مبكراً- هذه الليلة- من فرط الأثارة ،وحمدت الله على أنهم سالمين،لم يصاب أحدهم بأذى...و ها هم يلعبون حول  بيتهم ..-و على الرغم منى-شعرت ببعض الغيرة من"عوضين"فعلى الأقل لديه سبعة أبناء-أربع بنات و ثلاثة أولاد- كلهم حوله..بينما أشعر الليلة -بالذات-أكثر من أى وقت بالإحتياج لقرب ولداي!.. و وجددتنى أسأل نفسى بماذا أخطئت فى تربيتهما -أنا و أمهما-حتى يتركانى وحيداًعلى هذا النحو!

لقد كانت أمهما سيدة النساء،و قد أوليناهما كل الرعاية و الإهتمام..فما الذى كان ينقصهما حتى يهاجرا!

"رحلة البحث عن الذات!"عن أى ذات كانا يبحثان.. كان لديهما كل شئ يحتاجانه.. شركات،حفرت فى الصخر لأبنيها ،و ثروة طائلة لا  يقدران على جمع ربعها!

و ها هما يكافأننى بالهجر و الجفاء!

-"كمال بك"

ألتفت إلى"عوضين"الذى كان ما يزال مستيقظاً هو الأخر..فسألنى فى دهشة :

- لماذا لم تنم حتى الآن؟لست معتاداً على هذا السهر!

كنت لا أستطيع النوم ليلاً ..حتى أننى أنام نحو السادسة صباحاً أغلب الأيام..لكنه -لم يلاحظ-لأنه كان ينام من المغرب كالكتاكيت!..كما أنه دائما ما يجدنى فى العاشرة أتناول قهوتى فى المكتب-أستيقظ فى التاسعة-كل يوم،فيتصور أننى نمت مبكراً..لكننى اللية -بالذات-كنت أزهد النوم أكثر من ذى قبل..فأنا أشعر أننى إن أغمضت عينى فلن أفتحها أبداً!

و قبل أن أرد عليه تذكرت الحفرة الضخمة التى خلفها إقتلاع شجرة الكافور فى الصباح-لا أدر لما-تذكرتها..فبدا حجمها مناسباً لقبر!

فوجدت نفسى أقول له بلهجة ذات مغزى:

- سننام كثيراً فيما بعد يا بنى!

و أضفت حين لاحظت أنه مازال واقفاً:

- أذهب أنت ونم..لديك عمل غداً..و أكملت فى سرى ..لن أحتاجك..فضيفى لا يحتاج من يفتح له الباب..و لا يطلب ضيافة!

-تصبح على خير يا بك.قالها بإرتياح-كأنما وجدها فرصة ليتخلص منى!

 جعلتنى  كلمته أتراجع عن طلب كنت متردداً فى طلبه منه منذ فترة..فقد كنت أفكر فى أن أوصيه أن يدفني بنفسه هنا فى هذا البستان!على العموم لا يهم..قد أوصيه فلا يعمل بالوصية،أو قد يحاول تنفذها،و يخبر"مرسي"المحامى فلا يصدقه!

لا يهم أين سأدفن فروحى ستظل دائماً هنا..فى هذا البستان الذى هو أحب مكاناً لى على وجه الأرض!

رددت عليه شارداً بعد دهر-و كان قد أنصرف-و قد تملكنى يقين أن هذه أخر مرة أراه فيها:

- و أنت من أهل الخير !


تمت


قصص تليجرام